محرر المنيا
قال نيافة الانبا مكاريوس اسقف عام المنيا وابو قرقاص انه ذات مرّة كنت أقف إلى جوار مجرىً مائي في الدير، ولاحظت طفلًا صغيرًا منكبًّا على المجرى فرحت أتابعه عن كثب، فوجدته يبذل محاولات مستميتة لإنقاذ فراشة سقطت في الماء. وبعد جهد جهيد استطاع رفعها من الماء ووضعها على سور القناة، وبدأت الفراشة تنتفض لتطرد عنها الماء الذي لحق بها، وما هي إلّا ثوانٍ معدودات حتى طارت بينما يراقبها الطفل بفرح واضح. لم تكن ثَمّة علاقة بين الطفل والفراشة، وهي ليست قطته أو كلبه الذي يحيا معه، ولكنه صَعُب عليه أن يفقد كائن حيّ حياته وبإمكانه إنقاذه؛ ونحن نعلم أن ملايين الدولارات لا يمكنها إرجاع الحياة لبعوضة ميتة.
 
هذا الدرس كان من الدروس الأولى التي تسلّمتها في بكور حياتي، ومنذ ذلك الوقت وأنا من أنصار الحياة، وأشعر أن كل إنسان وكل كائن حيّ له قيمة مهما كانت إمكانياته وسنّه وشكله، فلا يوجد إنسان موجود فوق العدد أو لا أهمية له، فالأم تحب أولادها جميعهم بدرجة واحدة مهما كانت الفروق بينهم، حتى أنها قد تبذل جهدًا أكبر مع غير المتميِّزين منهم. ومن هنا نفهم كيف يترك الراعي الخراف التسعة والتسعين ليبحث عن الواحد الضال، وكيف أن الاهتمام بالمريض والضعيف والساذج قد يحوّلهم إلى عظماء وجبابرة.
 
إن الأسرة ليست تراكم أفراد، وهكذا العشيرة، وهكذا الدولة، ثم العالم أجمع؛ وإنما إنسان واحد ينمو في كل الاتجاهات.. وبعبارة أخرى نحن أعضاء كثيرة لجسد واحد، لا يوجد عضو يمكن الاستغناء عنه، فأي عضو يعطب يؤثر بشكل أو بآخر على أداء الجسم كله، فالجسم يعمل في تناغم وسيمفونية وتجانس. لا يمكن لإنسان أن يقرّر أن يحيا بعين واحدة، أو بنصف جسده، أو ببعض الأعضاء دون غيرها.. هذا على مستوى الإنسان من جهة، وعلى مستوى الأفراد معًا من جهة أخرى، وعلى مستوى الدول من جهة ثالثة، بل على مستوى بقية الخلائق ومنها الزروع، فهناك التوازن البيئي الذي إذا تدخل فيه الإنسان، اختلّ وأضرّ بالعالم كله.
 
علينا ان نتفهم المجتمع بطريقة الـ"بازل puzzle" وليس بطريقة الـ"سِبحة"، فالسِبحة وإن كانت متصلة بالخيط الذي يجمعها، فإن كل حبة منها في النهاية تُعَد مستقلة، وأما البازل فهو لوحة مركّبة متجانسة، إن غاب أي جزء منها تشوّهت، كما أن أي جزء فيها مهما كان، فلا قيمة له بمفرده.
 
ومن بين جوانب سياسة القطيع، الظن بأن موت البعض يزيد من نصيب البقية، مثلما تلد انثى حيوان ما عددًا من الجراء، فإذا مات بعضهم رضع البقية بشكل أفضل.
 
عودة إلى كورونا.. لا أستطيع أن أقبل فكرة أنه لا مانع من موت نسبة من البشر لدينا في العالم ليحيا الباقون! إنها فكرة القطيع، فالقطيع والسرب والرَتل هو عدد وليس نفوسًا، أرقام وليس شخصيات، ولكن الإنسان.. كل إنسان.. وكل الإنسان غالٍ جدًا، نتضامن ونتكاتف معًا لأجل شفاء كل مريض لينجو من الموت، ونحزن ونتأسف لكل من قضى حياته بفعل الوبأ. كما أن منطق الجزء لأجل الكل غير أخلاقي، كما أنه لا يضمن من سيصبح ضمن الجزء ومن مع البقية، وقد يطول الموت الكل.
 
هذا المنطق يصلح في الحروب فقط، حين يضحي البعض لأجل الوطن، وإن كان الحاكم يسعى بكل قوته ألّا يفقد أيًّا منهم، ولعل الهدف من الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في الحروب هو الحفاظ على حياة الأفراد -من الجانبين- كلما أمكن ذلك.
 
أو أن يتقدم بعض المتطوعين للخضوع لتجارب عليهم بخصوص بعض الأمصال والأدوية، أو أن تموت أم عن ابنها سواء في الإنسان أم بين المخلوقات الأخرى. بعكس اأن يرى البعض أنه لا مانع من أن يموت آخرون لأجله، فيستهلك كل ما ومن حوله ليحيا هو!
لا يليق بنا أن نقول: وماذا يجري إن مات مليون ليحيا في المقابل عدة ملايين؟ إن كل واحد بين المئة مليون له قيمته، فحياته مقدسة وغالية، وعلينا أن ندافع عنها، ولعلنا نذكر هنا أنه إن تعرض شخص مختل للقتل، أو شخص يحتضر، او طفل وليد، او شخص مُشرَّد، فإن الجاني يُعامَل باعتباره قتل نفسًا، مَثَلها مَثَل الأبطال والعلماء والمليونيرات والمشاهير، وبالتالي لا تُخفَّف العقوبة بسبب تلك الحيثيات التي ذكرتُها.
 
«وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا10:10)