كتب – محرر الاقباط متحدون ر.ص 

وجه الأنبا بطرس فهيم مطران إيبارشية المنيا للأقباط الكاثوليك، الشكر للآباء الكهنة في رسالة حملت عنوان " الكاهن رجل المعنى"، وجاء نصها كالأتي : 
 
الآباء الكهنة الأحباء، شكرا جزيلا من أجل كل ما قدمتموه ومازلتم تقدمون من خدمة مباركة لشعب الله، في هذه الظروف الصعبة، وفي كل الأوقات التي فيها تقدمون حياتكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، لأجل الناس الذين أقامكم الله لخدمتهم. وفي وقت الأزمات أحيانا قد يتساءل البعض منكم، على الظروف التي نعيشها اليوم، مع أزمة كورونا، ما فائدة الكاهن؟ وما فائدة خدمته؟ الناس تحتاج في هذه الأزمة إلى طبيب وصيدلي وممرض ومستشفى؟ والان وقد أغلقت الكنائس ولم يعد المؤمنون يأتون للصلاة كما في الماضي، فما فائدتي وما هي خدمتي؟، فاسمحوا لي إخوتي الأحباء، أن أشارككم بتأملي في معنى حياة الكاهن.
 
 
قد يكون لكل مهمة ورسالة ووظيفة في الحياة أهمية في وقت ما. فالطبيب يحتاجه الناس في حالات المرض. والمهندس في حالة الإنشاءات وفي حالة التخطيط، والمهندس الميكانيكي في صيانة وإصلاح واختراع الأجهزة. والفلاح في الزراعة، والتاجر في التجارة، والشرطي في حفظ الأمن وهكذا ... إلخ.
 
أما الكاهن فأعتقد أن الناس تحتاجه في كل يوم. حتى ولو لم يكن الناس يلجئون إليه إلا فيما ندر، وفي بعض الاحتياجات المحددة مثل احتياجهم لبعض الطقوس، أو للاستشارات الروحية، أو خدمة الأسرار، أو لحل بعض المشكلات الأسرية ... إلخ.
 
الحقيقة أن الكاهن له مهمة ورسالة أكبر من هذه الخدمات، التي يؤديها لصالح شعبه في بعض المناسبات، وعند الحاجة. مهمة الكاهن هي أن يكون رجل المعنى، بمعنى أنه هو الذي، بفضل اتصاله الدائم بالله وبكلمته وبروحه، يعيش ويشارك كل أحداث الحياة مع الناس ومثلهم وإلى جانبهم، ولكن بفضل تكوينه وعلاقته مع الله، هو من يجد دائما المعنى لكل ما يعيشه هو، وما يعيشه إخوته البشر من أحداث ومواقف وظروف، إيجابية أو سلبية، مفرحة أو مؤلمة، صعبة أو سهلة ... الخ.
 
فالكاهن من المفترض أنه أُعد ليكون مثل النبي في العهد القديم، رجل الله، أو "الواقف قدام الله"، والذي منه يستمد معنى وقيمة كل شيء وكل حدث وكل موقف، فهو الذي يكتشف على ضوء تأمله كلمة الله وإصغائه الدائم لها، وعلى ضوء التمييز الروحي الذي يقوم به باستمرار، على كل أحداث حياته الخاصة وحياة شعبه، والحياة عموما، وعلى ضوء اتصاله المباشر مع الله ومع روحه القدوس يعرف أن يقرأ "علامات الأزمنة"، وأن يساعد الناس على اكتشاف إرادة الله في كل ما يحدث، ويثبت إيمانهم بسيادة الله على العالم والأحداث والتاريخ. ويعلمهم أن يروا عمل الله في كل شيء، ويجدوا المعنى لحياتهم والقيمة لما يعيشوه، فليس شيء في الحياة يحدث بالصدفة، وليس شيء في الوجود بلا قيمة وبلا معنى وبلا هدف. هكذا كان دور كل أنبياء العهد القديم الأساسي اكتشاف معنى الأحداث وإرادة الله من وراء كل شيء وفي كل الظروف.
 
ويساعد الناس على أن يكتشفوا أن لله أسلوب تربوي في محبته للبشر أبنائه، يجب أن نكتشفه وأن نتعرف عليه ونتعلمه ونفهمه. وليس شيء في الحياة كله سلبي. فوراء كل سحب اليوم توجد شمس قد تشرق غد أو بعد غد، وللخزاف في طينته مآرب، فهو حين يقطعها طينة من الأرض تتألم، وحين يعجنها تتألم أكثر، وحين يدوِّرها على دولابه تتألم أكثر وأكثر، وحين يلقي بها في أتون النار تصل إلى قمة ألمها ... وهي إن لم تتحمل كل ذلك، تظل مجرد قطعة من الطين لا قيمة لها. وإن توقفت عند احدى مراحل عمل الخزاف تظل ناقصة. وإن لم تقبل أن تلقى في النار لتستوي تظل هشة، وقليل من الماء قد يعيدها طينا كما كانت من جديد. ولكنها إن قبلت كل عمليات الفخاري فإنها تصل إلى أن تكون تحفة فنية، أو إناء ثمينا، وأداة من أدوات الاستخدام الفنية أو العملية، وتزاد قيمتها بقدر ما يبذل فيها صانعها من جهد، وبقدر ما يتم عليها من عمل. قد يكون بالنحت أو بالحفر أو بالحرق أو بالطلاء أو بالتلوين، كلها أمور مؤلمة ولكنها مفيدة تزيد على قيمة الطين قيمة ومعنى وفائدة. هكذا أحداث الحياة المؤلمة بالنسبة للناس قد تزيدهم قدرة ونضجا وخبرة وقيمة.
 
أحيانا، وفي بعض الظروف، يتعب الناس ويتشككوا، وأحيانا يملوا أو يتملكهم الخوف والرعب، وأحيانا يفقدوا التوجه والهدف الذي تأخذهم إليه هذه الأوضاع. وأحيانا يفقدوا والمعنى والقيمة التي تكمن في بعض الأحداث الصعبة والمؤلمة والغير مبررة وغير مفهومة. وهنا يأتي دور الكاهن، ليس لأنه منفصل عن الآخرين، وليس لأنه أذكى من الآخرين، ولكن لأنه على اتصال مباشر وأحيانا أكثر عمقا، ومن المفترض أنه مُدرَّب على قراءة الأحداث والأوضاع في ضوء الإيمان، ويستطيع بفضل اتصاله ومعرفته بالله وبكلمته وبمشيئته، وبفضل خبرته الروحية المتميزة، يستطيع أن يستلم من الله يوميا البوصلة التي توجهه، وتوجه شعبه ومواطنيه، على السير في الاتجاه السليم. هذا لا يعني انه لا يوجد بين العلمانيين والعلمانيات أشخاص لديهم مثل هذه الخبرة ومثل هذه العلاقة الخاصة بالله، فالعلاقة بالله ليست حكرا على الكاهن لأنه كاهن، ولا على المكرس لأنه مكرس، بل إني اشهد أن هناك الكثيرون من العلمانيين والعلمانيات الذي عرفتهم وتقابلت معهم، وهم موجودون بيننا، يفوقون الكثير منا كمكرسين وكهنة وأساقفة في الخبرة الروحية والوعي بمشيئة الله، وبإيجاد المعنى وراء كل حادث وحديث. ولكني أتكلم على أن هذا الدور هو منوط بالكاهن بالدرجة الأولى.
 
ولكني أردت فقط أن أركز وأذكر الكاهن بواجبه الأساسي الذي لا غنى عنه، والذي منه ينبع كل نشاط وخدمة ورسالة يقوم بها. فيجب أن تكون كل رسالة وخدمة ونشاط في خدمة مشيئة الله لشعبه، وفي خدمة التوجه الأساسي الذي يرسمه الله، معنا وبنا، نحو ملكوته، ملكوت السلام والخير والمحبة. فإن تعلَّم الكاهن كيف يعيش ذلك ويكون رجل المعنى، التف حوله شعبه في كل الظروف والأحداث، ليعلمهم كيف يقرأون ويعيشون علامات مشيئة الله في حياتهم. وإن اكتفى فقط بخدمة الطقوس، وببعض الخدمات الاجتماعية الأخرى، فإن الناس ستنفض من حوله، ولا تلجأ إليه إلا في الاحتياجات التي يستطيع تأمينها لهم، وحين يحتاجونها فقط، مثل باقي الخدمات وباقي المهن وباقي الوظائف.
 
وفقكم الله وبارككم بكل بركة روحية في المسيح، لأجل أن تكونوا رعاة صالحين حسب قلبه القدوس. ففي هذه الظروف الصعبة يظهر من هو الكاهن الحقيقي، كأب وراع وقائد ومعلم، هذه الصفات الأربع التي لا يجب أن تنقص منها واحدة وإلا اختلت الأوضاع، واهتزت الخدمة، وتاه القطيع، كما قال السيد الرب: "أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية". وقاكم الله من كل شر ومن كل مكروه وأفاض عليكم وافر مواهب روحه القدوس في هذا الزمن المبارك. وكل عام وحضراتكم جميعا بكل خير.