سحر الجعارة
قبل عدة أشهر مرت إحدى قريباتى بتجربة ملهمة، رغم قسوتها ومرارتها، هى فى نفس عمرى، تخرجنا فى نفس العام من الجامعة، أنجبت بنتين وولداً.. الصغيرة فيهم تحتاج إلى زراعة كلى.. كلنا نعلم أن أسواق «تجارة الأعضاء» موجودة فى مصر وغيرها.

ذهبت قريبتى إلى دار الإفتاء المصرية وأفادوها باستحسان التبرع من أحد الأقارب، وأصرت بعناد غريب أن تهب ابنتها الكلى، رغم نصحنا المستمر بألا تضعنا فى مأزق الذعر عليها وعلى صغيرتها (شابة جامعية جميلة فى العشرين من عمرها)، ويفترض أنها سوف ترعى ابنتها بعد الجراحة.. لكنها لم تستمع لأحد.

كنت أشعر بإحساس الأم أن دخولها غرفة العمليات، فى نفس اللحظة التى تواجه فيها صغيرتها الخطر، هو أكثر المواقف رحمة بها، خاصة وقد رأيت لهفتها وفزعها على ابنتها.. المهم انتصرت «إرادة الحياة» على كل العقبات والصعوبات ومرت المحنة.. تلك التى تركت بداخلنا جميعاً وشماً لن يمحوه الزمن عن تضحية الأم و«ثقافة التبرع».

قبل هذه التجربة بسنين روى لى أحد الأصدقاء مر بعملية زراعة مماثلة أنه جاءته متبرعة لا يعرفها (من خلال إعلان بإحدى الصحف)، وقالت له إنها سوف تهب له العضو المراد دون مقابل مادى، فقط لأن والدها مر بنفس تجربة المرض وتوفى بسببه.. لكن الأنسجة لم تكن متطابقة بينهما.. نحن إذاً أمام عطاء إنسانى بلا حدود، بلا مقابل، سواء كان العطاء لشخص من لحمك ودمك أو كان غريباً عنك.

لكننا أيضاً أمام «سوبر ماركت بشرى» كل شىء فيه قابل للبيع «للعرض والطلب» وبأعلى سعر، كان يفترض أن الجائحة «كوفيد 19 المستجد» تعلِّم الناس التكافل الاجتماعى، وترفع درجة الإحساس بإنسانيتهم.. فكما رأيناهم يتعاونون -مثلاً- على نشر الوباء بتبادل الكمامات وفى المواصلات العامة (وهو سلوك ضد العقل والعلم).. كان لا بد أن نرى المتعافين من فيروس كورونا يهرولون للتبرع بأنفسهم بالبلازما لمريض قد تنقذه من على عتبة الموت.. لكن ما حدث هو العكس!.

صحيح رأينا الكثير من المتعافين (الذين تتوافر فيهم شروط التبرع بالبلازما) يبادرون بذلك، لكننا فى المقابل رأينا ظاهرة الاتجار بالإنسان حتى آخر نقطة دم تظهر مجدداً.

ومع ظهور «السوق السوداء للبلازما» والإعلانات المتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعى للبيع دون أى ضوابط صحية، ظهرت الفتاوى التى تحرِّم بيع البلازما.. لكن ما يهمنى هنا هو القانون الذى ينظم عملية التبرع لأن الجرى خلف الفتاوى قد أخَّر عمليات زراعة الأعضاء كثيراً.

الدكتور أيمن أبوالعلا، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، يقول: إن القانون رقم (142) لسنة 2017، بتعديل بعض أحكام القانون رقم (5) لسنة 2010، بشأن تنظيم زرع الأعضاء البشرية، فى مادته (19) نص على أن: (يعاقب بالسجن المؤبد وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه، ولا تزيد على مليونى جنيه، كل من نقل بقصد الزرع أو زرع العضو المنقول عن طريق التحايل أو الإكراه، وتنطبق ذات العقوبة إذا وقع الفعل على جزء من عضو إنسان حى).. والبلازما من الأنسجة، وينطبق عليها ما ينطبق على الأعضاء التى يجرَّم بيعها وفقاً لنص القانون.

وحول دعوة البعض لإجبار المتعافين على التبرع بالبلازما، أكد «أبوالعلا» أن الإجبار يتعارض مع المادة (61) من الدستور، التى تنص على أن: «التبرع بالأنسجة والأعضاء هبة للحياة، ولكل إنسان الحق فى التبرع بأعضاء جسده أثناء حياته أو بعد مماته بموجب موافقة أو وصية موثقة، وتلتزم الدولة بإنشاء آلية لتنظيم قواعد التبرع بالأعضاء وزراعتها وفقاً للقانون».

وبالقطع الوقت لا يسمح لتوفير غطاء تشريعى بشكل عاجل لإنقاذ حياة المصابين التى تتوقف على وجود «متبرع».. خاصة أن هناك شروطاً للتبرع بالبلازما، بأن يكون مر على الشفاء فترة من أسبوعين إلى ٣ أسابيع، وأن تكون نتيجة التحليل سلبية من وجود الفيروس، كما يجب أن يكون المتبرع خالياً من الأمراض التى تمنع التبرع سواء أمراض فيروسات سى وبى والإيدز، كما يتم استبعاد السيدات الحوامل من التبرع.

المؤسف أن جائحة كورونا مثلما أظهرت أفضل ما فينا، أظهرت أسوأ ما فى البعض منا، فوجدنا الاتجار فى المطهرات والماسكات، ثم اختفت الأدوية المتعلقة بالمناعة أو المرتبطة بعلاج كورونا.. وأصبح الدواء -أيضاً- بواسطة رغم أن القائمين عليه هم أطباء صيادلة!.

نحن لا نتحدث عن «جشع التجار» الأشرار، فنحن أمام عصابات تتشكل فى دوائر منفصلة متصلة، جميعها تستغل «وباء» يتهدد حياة الإنسان.. عصابات تبدأ ببيع الكمامات على عربية كارو، وتنتهى بتهريب الأدوية والسوق السوداء فى كبريات الصيدليات وفى «البلازما» لمريض تعافى بعد علاجه على نفقة الدولة.

كنت أتصور مثل هذه الجرائم لا يجوز تطبيق قانون «حماية المستهلك» عليها، بل يجب تغليظ العقوبة لتطابق «جرائم الحرب» لأنها جرائم ضد الإنسانية.. وكنت أتمنى أن المريض الذى تعافى، ولا يجوز أن نجبره على التبرع، يكون قد مر بتجربة البحث عن ذرة أكسجين ترد إليه الحياة فيبادر بالتبرع.

لكن التبرع «ثقافة» لا علاقة لها بإعلانات التليفزيون ولا الجمعيات الخيرية لأنها وثيقة الصلة بالتربية والتعليم، وهذه مأساة أخرى سوف نكتشف أبعادها بعد الرهان على وعى المواطن فى التعامل مع الجائحة.
نقلا عن الوطن