كتابة الخطابات، أمر قديم قِدم الحضارات، وإن اختلفت أشكالها وتنوعت الوسائل المستخدمة فيها، يوجد من نقشها على جدران المعابد ومن خطها على مخطوطات البردي وغيرها من الطرق التي تطورت مع تقدم الزمن.

 
"أقسمت بك يا إلهي أن تجعلها نوراً في قلبي لا ينطفئ، وتجعلني عوداً في ظهرها لا ينكسر، فهي مني وأنا منها، وكلانا سر وجود الآخر"، هكذا ترك أمونحتب الرابع "إخناتون" رسالة إلى زوجته نيفرتيتي على جدران المعابد، ويعد الخطاب الذي يتم توجيهه لشخص مقرب مجموعة من الشحنات العاطفية المفرغة على الورق، وموجهة لهذا الشخص، لذلك يمكن أن يكون لها صلة مباشرة بتحسن الحالة المزاجية للإنسان سواء المُرسِل أو المرسَل إليه.
 
- الكتابة وتحسين العلاقات والمزاج
تقول ديانا راب، حاصلة على الدكتوراه وخبيرة في مساعدة الآخرين على التحول والتمكين من خلال الإبداع وخاصة الكتابة: "هذا الكون سريع الخطى استحوذ البريد الإلكتروني على حياتنا تقريبًا حالياً، ولكن من الممتع كتابة رسائل حب قديمة الطراز إلى أولئك المقربين منها، وعلى الرغم من أن الأمر يتطلب الكثير من الطقوس للجلوس وكتابة رسالة، إلا أن الفوائد كبيرة لكل من المرسل والمستلم، يسمح لنا تلقي رسالة أيضًا بالدخول بسهولة في حالة من العواطف التي تعد جزءًا من صداقات خاصة بنا".
 
وأكملت في مقال نفسي لها بمجلة "سيكولوجي توداي" إن كتابة رسائل حب أمر موجود منذ قرون، ولكن كشكل أدبي، وربما بدأ خلال عصر النهضة في التحول إلى طريقة للحفاظ على المشاعر والتعبير عنها بين المحبين.
 
وقد قامت أحد المسرحيات الشهيرة "رسائل حب" على فكرة مد صلات العلاقة بين صديقتين لأكثر من 50 عام، بناء على خطابات مرسلة بينهما لم تنقطع طول هذه المدة، وهي من تأليف كان ألبرت جيرني، وكانت ضمن المسرحيات المتأهلة للحصول على جائزة بوليتزر للدراما.
 
تركز المسرحية على شخصيتين، ميليسا جاردنر وأندرو ماكيبيس لاد، باستخدام الخطابات يتبادل الصديقتين الآراء والأحلام والمشاكل، وكافة أمور حياتهم دون أن يلتقيا.
 
- الكتابة والمراحل الأولى للعلاقة
يقول أستاذ الفلسفة آرنر بن زييف، في أحد مقالاته بمجلة سيكولوجي توداي، أن الخطابات المكتوبة سواء عبر الإنترنت أو الورقية في بداية العلاقات الاجتماعية خاصة العاطفية تكون أكثر إفادة من المقابلات المباشرة لكلا الطرفين.
 
وقال آرنر: "يبدو التواصل من خلال الرسائل أكثر ملاءمة للتواصل العاطفي من المحادثات الهاتفية، لأنها عادة ما تكون أعمق، وفي كثير من الحالات أكثر صدقًا، لأن فعل الكتابة يشجع الناس على تقديم صورة أكثر عمقًا وصدقًا لذاتهم الحقيقية، ولما يكون داخل القلب تجنباً للخجل أثناء اللقاء المباشر".
 
كما أضاف أن هذه الرسائل تخلق نوع من التواصل المشترك بين الشخصين، حتى وإن كانا بعيدان عن بعضهما البعض، ويحسن من الحالة المزاجية، لأنها تمنح الشخص الآخر شعور أنه لا يزال في ذهن الطرف الآخر ولم يكن ضمن الأشياء.
 
وتقول الطبيبة جودي ويليس، الباحثة في علم الأعصاب، إن المتخصصين في علم وبحوث العلوم المعرفية وجدوا أدلة متزايدة تربط بين الإبداع والذكاء الأكاديمي والاجتماعي والعاطفي ، حيث يمكن أن تساعد الكتابة الدماغ على تطوير الوظائف المنطقية، وثبت أن الكتابة تساعد على توصيل الأفكار المعقدة بشكل أكثر فاعلية.
 
وأكد عالم النفس آدم جرانت في أحد مقالاته عبر "لينكد إن"، أن الكتابة التعبيرية ترتبط بالسعادة لدى الأشخاص، وترتبط أيضًا بتحسين الحالة المزاجية والرفاهية وخفض مستويات التوتر بالنسبة لأولئك الذين يقومون بذلك بانتظام.
 
- الخطابات أنيس الوحدة
في كتاب الروائية الراحلة رضوى عاشور "أيام طالبة مصرية في أمريكا"، تحكي الكثير من التفاصيل المرتبطة برحلتها، وتروي في أسلوب أدبي منذ اللحظة الأولى لها في المطار، أثناء توجها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لدراسة جانب جديد من الأدب المرتبط بحركات النضال، وتحكي في أسلوب سردي روائي بخفة ظل مواقف مرت بها هناك منذ لحظات وصولها الأولى.
 
وكان انتظار الخطابات من القاهرة هو ملجأها عندما تشعر بمزيد من الوحدة، فالانتظار كان الحل كما وصفت، وأيضاً قراءة الخطابات القليلة التي تصل كل حين وآخر، فهي تشعرها بالدفيء، وتعود بها إلى الذكريات، وتصف شعورها في هذه اللحظة قائلة: "تأتيني كلمات مريد كقبلة على الجبين تباركني"، وهنا تحل الخطابات محل الصديق للتعامل مع الوحدة والاستئناس بالأحباب والمقربين حتى وإن ابتعدت المسافات بين الشخص وأحبابه.
 
وقالت: "كنت أعي اللامنطق في عنادي وانتظاري للرسائل وأعلم أنها تتأخر، ولكني كنت بحاجة للانتظار بحاجة ملحة إلى الفعل اليومي في ظل وجود رسالة حتى ولو كانت هذه الرسالة وجوداً غائباً هو المنتظر، وكانت هذه هي بداية علاقتي بصندوق البريد...".
 
ومما كتبه لها زوجها مريد البرغوثي في الرسائل: "حين سافرتِ سافر الوطن مرة أخرى"، وقالت هي عن تلك الكلمات: "وهو لا يعرف أن هذه الرسائل كانت في الغربة لي هي الوطن.. أمامها يتراجع الشعور بأنني ضائعة في فضاء خارجي لم أعد أعرف له بعد قانوناً".