كمال زاخر

17ـ عمل الروح القدس فى استعلان أواخر الدهور "يوم الرب"

"ملء الزمن" هو اللحظة التى رأى فيها المسيح أنه "قد أتت الساعة" (مرقس 14 : 41) وفيها أنهى خدمته "على مستوى التاريخ الزمنى"، "وأرسل لنا الروح القدس ليبدأ معنا حكم الله أى ملكوته الروحى على مستوى التاريخ والأبدية معاً". "يمكث معنا إلى الأبد".
"روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم " (يو 14 : 17).

"أواخر الدهور" أو "الأيام الأخيرة" بحسب التعبير الذى أضافه القديس بطرس الرسول إلى نص يوئيل النبى "ويكون بعد ذلك أنى أسكب روحى" فيكتبه ق. بطرس "ويكون فى الأيام الأخيرة أنى أسكب من روحى على كل بشر"، لا تعنى نقطة فى نهاية سطر الوجود "نهاية العالم"، وهنا يقول الكاتب "إن بطرس الرسول يشعر فعلاً أن النهاية أو الآخرة قد حضرت بحضور الروح القدس وذلك لمّا أكمل المسيح ذبيحته عن العالم، أى بموته وقيامته، عند ذلك أكمل الأيام وختم على الدهور السالفة. ثم بقيامته وصعوده ودخوله إلى مجد الآب ـ مازال الكلام للكاتب ـ بدأ (الملكوت)، وأرسل الروح القدس ليلدنا للدهر الآتى، يلدنا من جديد، من جسد المسيح، من فوق، من الله."
وهؤلاء "صاروا مشترين من الله، ليسوا من العالم، ويلد لهم تاريخاً جديداً" ... "لا يعيشون بعد للعالم ولا لأنفسهم بل للذى مات لأجلهم وقام" بحسب تعبير ق. بولس الرسول (2كو 5 : 15) ... لذا فهم بحسب الكاتب "يعيشون تاريخ النهاية، تاريخ المسيح، تاريخ الأبدية وملكوت الله".
ـ "أن نتأهل للقيامة" هذا هو هدف عمل الروح القدس فينا، لنقدر أن نعيش "يوم الرب" الذى يمثله الصليب، "أى فى محنة التاريخ وفى مقاومة العالم".

ولكى يحقق هذا الهدف يعمل الروح القدس فينا عملين:
• يلدنا ميلاداً جديداً ليس من العالم بل من فوق من السماء، من جسد المسيح، ويوحدنا فى هذا الجسد.
• يعطينا بواسطة سر المسحة المقدسة هبة روحية للعمل والشهادة لنصير أعضاء حية عاملة فى الجسد، وبذلك يؤهلنا للإفخارستيا التى بها نوجد دائماً مع المسيح وفيه بالروح والعمل.

ليحقق "دعاء وطلب المسيح من الآب : لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير" (يو 15:17).
والجملة المفتاح فى هذا الفصل اظنها "الروح القدس يعطينا الحصانة كل الحصانة لكى نعيش فى يوم الرب فى مواجهة العالم ـ فى صليب دائم ـ ومحنة الزمن والتاريخ"
وهنا يتكشف الصراع القائم فالعالم فى المقابل "أو رئيس العالم بمعنى أصح، يصب روح النقمة والدينونة التى وقع فيها على الذين رفضوا العالم وجحدوا رئيسه مع أعماله وأمجاده الباطلة وصاروا (ليسوا من العالم)"

ويكمل الكاتب "لهذا يئن المفديون العائشون فى "يوم الرب" الآن من ثقل الجسد والمحنة التى يعيشونها بسبب اضطهاد العالم والتاريخ، وينتظرون بفارغ الصبر الانعتاق الأبدى من نير العالم، والتبنى فداء أجسادهم بالقيامة من الأموات بالمجئ الثانى للمسيح وحياة الدهر الآتى حيث يستنفذ العالم فرصته الزمنية ويُبتلع الموت الذى فيه، وتصير الأرض كلها للرب ولمسيحه ويصير كل شئ مُخضَعاً لله، ويصير الله الكل فى الكل".

ويطمئن الكاتب، بدفء الواثق، من يقرأ "ولكن نهاية العالم الزمنى، أى نهاية الزمن والتاريخ، ليست محسوبة من "يوم الرب"، لأن العالم الذى وضع فى الشرير قد دِينَ فى "يوم الرب" وهو محفوظ لـ "يوم الدينونة" العتيد أن يكون بالمجئ الثانى للرب، فالعالم الشرير مع تاريخ أعماله سيقع بعيداً عن "يوم الرب"، سينتهى بقضاء عادل.
أما يوم الرب فسيزداد نوراً وبهاءً ومجداً وامتداداً بالمجئ الثانى للمسيح، لأن يوم الرب هو فى النهاية "الإسخاتون" التى بلا نهاية.
::::::::::::::::::::::::::::::::::
توضيح :
(اسخاتوس كلمة يونانية = أخروى، وينحصر جوهر التعليم الإسخاتولوجى فى معنى واحد هو أن اكتمال الزمان قد تم فى المسيح نفسه. وكل من عرف المسيح رباً ومخلصاً، فقد نال الحياة الأبدية فيه، "وهذه هى الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك، ويسوع المسيح الذى أرسلته" (يو 3:17) ومن عرف الحياة الأبدية فى المسيح لا يعود منتظراً لها، بل يحياها منذ الآن، بعد أن جاء المسيح إلينا، ليهبنا فيه الحياة الأفضل) من كتاب: معجم المصطلحات الكنسية (جزء أول أ ـ ج) للراهب اثناسيوس المقارى.
::::::::::::::::::::::::::::::::::
نواصل تتبع ما يطرحه ابونا متى المسكين فى شأن كلمات الرب يسوع وقت العشاء الأخير، وهو هنا يقف عند الإفخارستيا وملء الدهور، والإفخارستيا والروح القدس.

أولا: الإفخارستيا وملء الدهور "يُكمل فى ملكوت الله" :

يقف الكاتب بنا مجدداً عند ما سبق وعرضه عن الزمن عند اليهود ويكشف أنها رؤية تقوم على اساس لاهوتى يتمحور حول شخص "المسيا"، ويستطرد [وقد ورثنا "يوم الرب"، وورثناه بالمسيا نفسه عندما آمنا به، ورثناه بالحقيقة، ورثنا شخصه بالكامل جسداً ودماً، ورثناه "كذبيحة يوم الرب" فى "عشاء الرب"، ورثناه فى داخلنا لأنه أعطانا جسده ودمه لنأكله ونشربه فصار فينا وصرنا فيه، فدخلنا فى ملء الزمن، وأواخر الدهور، واستعلان كل شئ، لأننا صرنا فى "يوم الرب".]
ويكشف الكاتب موقع "الإفخارستيا" فى دخول الإنسان فى أواخر الدهور، ويوم الرب عبر المسيا الذى اعطتنا إياه، كما فهمه الكاتب من آباء الكنيسة الأوائل فيقول نصاً :

الإفخارستيا كانت المدخل الوحيد السرى والفائق للعقل والقياس الزمنى، التى بواسطتها دخل الإنسان فى أواخر الدهور، وعبر الزمان والتاريخ وارتفع فوقهما وتعالى عنهما فى حياة أخرى، مع أنه لا يزال كائناً فى حركتهما، يحيا فى مسارهما، بحسب الظاهر.

الإفخارستيا أعطتنا "المسيا" جسداً ودماً وروحاً وفكراً ونفساً، فدخلنا يوم الرب بكل كياننا، ودخلنا استعلان الزمن والتاريخ وكل شئ. "إنه بإعلان عرَّفنى بالسر ... سر المسيح، الذى فى أجيال أُخر لم يُعرَّف به بنو البشر كما قد أُعلِن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح ... لى ... أُعطيت هذه النعمة أن ... أُنير الجميع فى ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله خالق الجميع يسوع المسيح." (أف 3 : 3 ـ 9)

ثم يستعرض الكاتب ما ورد عند آباء الكنيسة الأوائل داعماً لما ذكره، يتقدمهم العلامة هيبوليتس فى قُداسِه (القرن الثانى) (فى آخر الأزمنة أرسلت يا الله كلمتك ليكون فادياً ورسول تدبيرك)، ويتأكد المعنى فى أحد القداسات السريانية الأصلية الأولى (القرن الثانى أيضاً) وفيه يقول الكاهن عند التناول فى نهاية القداس [نشترك (فى الجسد والدم) للحياة الجديدة فى ملكوت السموات.] أى أننا إذ نشترك فى المسيح (جسداً ودماً) نتقدم به إلى الآب ـ نحن الأمم الذين كنا بعيدين جداً عنه "فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين لأن "به" لنا كلينا قُدُوماً فى روح واحد إلى الآب" (أف2 : 17و 18).

الإفخارستيا (بالمسيح) تُحضرنا ـ كأناس عائشين فى الزمن ـ إلى حضرة الله، ولكن تكشفهم أولاً وتدينهم، ثم تغسلهم بالدم وتصالحهم بالآب وتُخضعهم لملكوته. وهى ـ الافخارستيا ـ هنا أولاً دينونة وحكم وقضاءـ وهذا ما فات على كثيرين مما تسبب فى ميوعة الكنيسة وبرودتها ثم فى ضعفها الشديد ثم مرضها الذى قارب الموت عند كثيرين ـ فالدخول إلى الإفخارستيا هو دخول إلى "يوم الرب" إلى محاكمة الأفكار وفضح النيات وكشف أستار القلوب.

هذا هو تقليد الكنيسة الذى استلمته من الرسل، منذ البدء. ومعروف أن خدمة الإفخارستيا "خوف ورعدة" بالنسبة للكاهن والشعب، ولماذا الخوف ولماذا الرعدة؟ إلاّ بسبب حضرة الآب وحضرة المسيح والروح القدس. أما حضرة الله فهى دينونة حتماً قبل أن تكون بركة ومنح هبات .

ويتوقف الكاتب بضع سطور ليكشف توصيف الكتاب المقدس فى عهديه لـ "يوم الرب" وكم هو "عظيم ومخوف جداً" هكذا وصفه الأنبياء يوئيل وصفنيا وملاخى، وسجلوه فى اسفارهم، وما نبه إليه ق. بولس الذى أكد أن الإفخارستيا قبل أن تكون غفراناً وصفحاً ومصالحة هى قضاء ومحاكمة، على أساس أنها دخول إلى الحضرة الإلهية، ووقوف أمام ديان الأرض كلها، واشتراك فى أقداس ذبيحة إلهية.
لأن الذى يأكل ويشرب بدون استحقاق (أى قبل أن يبرئ ذمته وضميره عن كل خطاياه) يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسدد الرب . من أجل هذا (يدخل تحت القضاء والتأديب) فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون، لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا (دينونة الذات والاعتراف بالخطية وتوبة) لما حُكم علينا" (اكو 11 : 29 ـ 31).

وفى حزم يؤكد الكاتب
"أنه من الواضح (جداً) من كلام ق. بولس الرسول أن "جسد الرب ودمه فى الإفخارستيا" هو فى الحقيقة "يوم دينونة"، يوم محاكمة أفكار وقضاء وحكم. وليس ذلك فقط بل وتنفيذ أحكام وعقوبة، وأمر بالدخول تحت التأديب (ولكن إذ قد حُكم علينا نؤدَّب من الرب لكى لا ندان مع العالم ـ 1كو 11 :32)."

ويضعنا الأب متى المسكين أمام حالتنا الراهنة التى استرحنا إليها وذهبت بنا بعيداً، فيقول:
"إن صورة الرب التى رسمتها الأجيال الأخيرة للرب يسوع على مائدة الإفخارستيا مشوهة وناقصة. نعم هم طيب وحبيب وغافر الخطايا وماسح الآثام والذنوب، ولكن ليس بلا سؤال وتحقيق، أو ليس بلا توبيخ وتأنيب، أو ليس بلا قضاء وحكم ودينونة، أو ليس بلا تأديب!!!"
ويتساءل :

• أين نهرب من إعلان هذا الرسول المُشهر كالسيف فوق رؤوس المتناولين "إذ قد حُكم علينا نؤَدب من الرب"؟
• وأين نهرب من تحذيره "لا تجتمعوا للدينونة؟!" (1كو 11 : 34)
إذاً، فالإفخارستيا هى دخول إلى ملكوت الله عَبر "محاكمة" هى مواجهة خطيرة لحكم قداسة الله على التاريخ الإنسانى وعلى الزمن وحوادثه، قبل أن نعبر التاريخ والزمن إلى الدهر الآخر والحياة الأبدية.
ومازال للطرح بقية.