أكد الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، أنه يجب تأسيس خطاب دينى من نوع مختلف بمفاهيم ولغة جديدة، موضحاً أنه لا يمكن تجديد الخطاب الدينى بدون تكوين عقل دينى جديد، قائلاً: «لا أؤمن بإصلاح العقل الدينى القديم، لأن العقل الدينى البشرى القديم تشكّل فى ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة».

وأضاف، أن العقل الدينى ليس هو الدين نفسه فى نقائه الأصلى، وأنه عقل تكوّن عبر التاريخ، وتابع: «إذا كان الدين فى نقائه الأصلى إلهياً فإن العقل الدينى هو عقل إنسانى يتكون فى التاريخ وتدخله عناصر إلهية وعناصر اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها ويتأثر بدرجة وعى الإنسان فى كل مرحلة». وإلى نص الحوار:

هناك فرق بين الخطاب الدينى باعتباره عملاً بشرياً يمكن إعادة النظر فيه لإعادة بناء علومه وبين النص الدينى "القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة"

الأزهر يتحدث عن تجديد الفكر الدينى والدكتور الخشت يتحدث عن تأسيس خطاب دينى جديد.. ما الفارق بين التوجهين؟
- لا بد من تأسيس خطاب دينى من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الدينى التقليدى، فتجديد الخطاب الدينى عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم ولغة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر دينى جديد، والمقصود هو الخطاب الدينى البشرى وليس القرآن الكريم والسنة الصحيحة. ولا يمكن تجديد الخطاب الدينى بدون تكوين عقل دينى جديد، ولا أؤمن بإصلاح العقل الدينى القديم لأن العقل الدينى البشرى القديم تشكّل فى ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة.

ما الفرق بين القديم والحديث فى الفكر الدينى؟
- الأبنية العقلية القديمة تلائم عصورها ولا تلائم عصرنا، فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والناس غير الناس، والتحديات القديمة غير التحديات الجديدة. إننى أحب بيت أبى القديم لكننى لا أحب أن أعيش فيه، وأقدّر تراثنا القديم لكننى أحب (أنا وغيرى) أن نصنع تراثاً جديداً نعيش فيه، فهم رجال ونحن رجال، وهم أصحاب عقول ونحن أصحاب عقول. إننى وغيرى كثيرون لا نحب أن نكون فى زمرة القائلين «بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا». وهذا ما سعينا إليه على مستوى الخطاب الدينى فى كتابنا «نحو تأسيس عصر دينى جديد» من أجل بيان أن كل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التى أعلنها القرآن (اليوم أكملت لكم دينكم) إنما هو جهد بشرى قابل للمراجعة وهو فى بعض الأحيان اجتهاد علمى فى معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المنحازة. وفى كل الأحوال -سواء كانت موضوعية أم مغرضة- ليست هذه الآراء وحياً مقدساً بل آراء بشرية قابلة للنقد العلمى.

ما بين الدين والفكر الدينى مساحة.. هل يمكن توضيحها لنا؟
- العقل الدينى ليس هو الدين نفسه فى نقائه الأصلى، بل هو عقل تكوَّن عبر التاريخ، وإذا كان الدين فى نقائه الأصلى إلهياً، فإن العقل الدينى هو عقل إنسانى يتكون فى التاريخ وتدخله عناصر إلهية وعناصر اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها ويتأثر بدرجة وعى الإنسان فى كل مرحلة. وتطوير العقل الدينى بما فيه من مكونات -لعل من أهمها علم أصول الدين الذى شكّلته الفرق المتصارعة- غير ممكن بدون تفكيكه، وبيان الجانب البشرى فيه والعودة إلى الأصول الصافية القرآن والسنة الصحيحة. ومن الضرورى العمل على ذلك كمسلمين مخلصين له الدين، فأنا مسلم ولست أشعرياً، والنبى محمد صلى الله عليه وسلم كان مسلماً لا أشعرياً.

كيف يمكن تطوير العقل الدينى من وجهة نظركم؟
- لا تكوين لعقل دينى جديد بدون تغيير طرق التفكير وتطوير علم أصول الدين ويشمل تطوير العقل تطويراً عقلانياً نقدياً بطريقة منظمة خمسة جوانب حاكمة له، وهى: تطوير العقل النظرى، وتطوير العقل الدينى، وتحرير ملكة الوجدان، وإصلاح طريقة عمل الطاقة الغريزية، وتطوير العقل العملى.

كيف يمكن إصلاح طريقة التفكير؟
- العقول التى ضللتها الأهواء عن البرهان والحجة العقلية لا يمكن أن تستقيم دون إصلاح ماكينة تفكيرها قبل أى شىء. وطريقة التفكير هى المنهج، وكما قلت فى موضع آخر: «المنهج عبارة عن الإجراءات التى تتبعها فى تفكيرك وخطوات الاستدلال التى تسير عليها، ففى عملية الاستدلال توجد خطوات، حيث تسلمك الخطوة الأولى للخطوة التالية، فمن الممكن أن تعرض الفكرة الإيجابية على شخص يفكر بطريقة سليمة، وتعرض الفكرة الإيجابية نفسها فى الوقت ذاته على إرهابى من «داعش»، فهل سيتعامل الاثنان بالطريقة العقلية نفسها مع الفكرة ذاتها؟ بطبيعة الحال لا، فالفكرة الإيجابية التى يستقبلها صاحب طريقة التفكير السليمة ستجعله يصل لنتائج وأفكار تنمية وتطوير ومشاركة اجتماعية وروح الفريق الواحد.

ما تقديرك للطريقة التى يفكر بها العقل المتشدد أو المتطرف؟
- الفكرة الإيجابية التى يستقبلها العقل المتطرف صاحب طريقة التفكير الخاطئة يترجمها بطريقة باطلة ليصل لنتائج مختلفة وأفكار دموية، أى إنه من الممكن أن تكون محطة البث واحدة وقوية وإيجابية ويبقى الخطر كامناً فى كنه عقل من يستقبل هذه الأفكار، وطريقة تفكيره إزاءها! فطريقة استقبال العقل للأفكار وترجمتها بالاستنتاج والاستدلال هى المحك وهى الفاصل فى النتائج وطبيعتها. لذا لا بد -أولاً- من فتح العقول المغلقة وتغيير طريقة المتعصبين فى التفكير، فلن تستطيع أن تجعل إنساناً متسامحاً وهو يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة ويجزم بأن الآخرين على باطل، ولن تستطيع بث أفكار عقل مفتوح فى عقل مغلق، فالعقل المغلق ليس مجهزاً لاستقبالها مثلما أن التلفاز الأبيض والأسود ليس مجهزاً لاستقبال محطات البث الفضائى «HD».

ما سُبل نشر التعقل والتسامح بين الناس؟
- لن تستطيع أن تجعل طائفة متسامحة وهى تعتقد أن الكون يقوم على لون واحد وليس ألواناً متعددة، ولن تستطيع أن تقنع إنساناً بالتسامح وهو يعتقد أن الله يريد أن يكون الناس كلهم نسخاً من بعضهم، أو أن مشيئة الله تعالى تريد الناس متطابقين وليسوا مختلفين، ولن تستطيع أن تؤثر فى إنسان يعتقد أنه مفضّل عند الله على العالمين لمجرد نطقه وتلفظه ببعض الكلمات أو لمجرد ولادته ضمن طائفة معينة. إذن لا بد من العمل على تغيير رؤية العالم وتجديد فهم العقائد فى الأديان، ولن تتغير رؤية العالم إلا إذا جعلنا الكون نفسه كتاباً مقدساً واحداً مشتركاً بين الأديان المختلفة بكتبها المقدسة، فإذا كانت الكتب المكتوبة المقدسة متنوعة بين الأديان، فإن هناك كتاباً مقدساً يجب ألا يختلف عليه اثنان، وهو الكون نفسه بوصفه صناعة إلهية. وأعمال الله البادية فى كتابه الكونى تكشف عن التنوع والتعددية إلى ما لا نهاية بقدر اتساع الألوهية إلى ما لا نهاية. ولا توجد فى هذا الكتاب الكونى مخلوقات أو ظواهر تشكل نسخاً واحدة متطابقة بدرجة مائة فى المائة، ما يدل على أن التنوع والاختلاف والتعددية هى الأساس فى الكون. ولا شك أن قوانين الله فى الطبيعة تقوم على التنوع لكن لا يوجد قانون يعارض قانوناً آخر، كلها تعمل فى منظومة نسقية خلاقة.. (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ). وهذه الرؤية الفلسفية للأعمال الإلهية فى كتابه الكونى المقدس إذا ما تمكنت من العقول ستفتح أبواباً واسعة ليس فقط على مستوى رؤية العالم، بل على مستوى تجديد فهم العقائد فى الأديان، وهو الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى فتح العقول والنفوس والضمائر أمام فكرة تقبُّل الآخر مهما يكن مختلفاً، ويؤدى لاتساع «سبل السلام» أمام التسامح مع التعددية والتنوع الثقافى والحضارى والدينى والعرقى، وغلق الطرق أمام الكراهية لمجرد الاختلاف وسد المنعطفات أمام العنف لمجرد المنافسة. وبقدر ما فى الكون من تعددية يكون اتساع عظمة الخلق الإلهى، وبقدر ما فى الوجود من تنويعات لا حصر لها يكون تنوع إبداع الألوهية اللامتناهى. وبالمثل يمكن التأكيد أنه بقدر ما يكون فى المجتمع من انفتاح وتنوع واختلاف تكون قوة المجتمع وتكون قوة الدولة ويكون ارتقاء الشعب وتقدمه، بشرط قدرة المجتمع على «إدارة الاختلاف» فى منظومة نسقية خلاقة.

هل هذا كفيل بإحداث نهضة حقيقية؟
- لكى نقوم بإحداث نهضة لا بد من الرجوع إلى فلسفة التاريخ، وهى تكشف عن أن عصور الانتقالات الكبرى لا تتم إلا بتغيير طرق التفكير، وهو ما قام به الأنبياء الكبار والفلاسفة والمصلحون الدينيون والقادة السياسيون الكبار. إذا كانت المعركة بين العقل القديم والعقل الجديد تقوم فى أحد مظاهرها على «صراع التأويلات» فإنها لن تحسَم إلا لمن يتمكن من الانتصار فى معركة تغيير «طرق التفكير»، فالمعارك فى كل عصور الانتقال من عصر قديم إلى عصر جديد كانت معارك بين طرق التفكير التقليدية وطرق التفكير الجديدة.

عملنا فى جامعة القاهرة على تطوير العقل وتغيير طرق التفكير ومن أهم وسائلنا مقررا "التفكير النقدى" و"ريادة الأعمال" ومبادرة "تطوير اللغة العربية"

ما جهود جامعة القاهرة وأنت رئيس لها فى مجال التجديد الفكرى؟
- عملنا فى جامعة القاهرة على تطوير العقل وتغيير طرق التفكير، ومن أهم وسائلنا مقررا «التفكير النقدى»، و«ريادة الأعمال»، فضلاً عن مبادرة تطوير اللغة العربية، وإطلاق «مشروع التنمية الاقتصادية والإصلاح الدينى»، وإطلاق مبادرة «خذ كتاباً وضع كتاباً»، وتوزيع كتب كبار الكتّاب مجاناً على الطلبة وتطوير طرق الامتحانات، إلخ.

ما قراءتك لواقع العلوم الدينية حالياً؟
- العلوم الدينية التى نشأت حول النص الدينى تجمدت وابتعدت عن مقاصده، وتم تحويل النص الدينى من «ديناميكى مفتوح» يواكب الحياة المتجددة إلى «استاتيكى جامد» يواكب زمناً مضى وانتهى، فالقرآن الكريم نص مقدس مرن حمّال أوجه فى كل العصور، ويواكب المتغيرات المعاصرة والمتجددة، وهو ما يتضح من خلال نزول القرآن على مدار 23 عاماً، ومع ذلك نجد الآن أن المفاهيم التى نشأت حول القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تجمدت وتحولت إلى نص ثابت، ولذا لا بد من فتح باب الاجتهاد المتجدد حول المتن المقدس فى كل العصور.

وماذا عن جهود الإصلاحيين ومحاولات المعاصرة؟
- الإصلاحيون المعاصرون لم يرجعوا إلى الكتاب فى نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التى أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، وعدّوا كل الكتب القديمة كتباً مقدسة تمثل المرجعية النهائية فى فهم الدين، مع أنها فى النهاية عمل بشرى قابل للصواب والخطأ. وإذا استعرضنا ما تم خلال المائتى عام الماضية سنجد أن معظم علمائنا استعادوا كل المعارك القديمة، معارك زمن الفتنة الكبرى التى نشأت أيام عثمان بن عفان رضى الله عنه، ونحن لا نزال نعيش فى زمن الفتنة وعصرها، عصر الصراع والانشقاق والتكفير والتفجير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد، ومعارك التمييز بين الجنسين. وفى المقابل نجد أنهم لم يدخلوا بعد المعارك الجديدة والمعاصرة، معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية، ومعارك الدفاع عن الدولة الوطنية.

أدعو إلى "تطوير علوم الدين" وليس إحياءها لأنها اجتهادات بشرية.. وعلينا تفكيك الخطاب البشرى والبنية العقلية التى تقف وراءه.. لكن المتعصبين يرفضون الاجتهاد

تحدثت عن «تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين» ما المقصود بذلك المفهوم، وهل العودة للرؤى القديمة فى التراث أصبحت غير مقبولة فى العصر الحالى وأننا بحاجة لرؤى بشرية واجتهادات عصرية تواكب عصرنا؟

- عندما ظهر دعاة الإصلاح بداية من الـ19 ودعوا إلى التحديث والإصلاح الدينى لم يقم أى منهم بمحاولة «تطوير علوم الدين»، بل قاموا بمحاولة «إحياء علوم الدين»، كما تشكلت فى الماضى، وكأن النهضة تحدث بإحياء العلوم القديمة، رغم أنها علوم بشرية نشأت لتواكب العصر الذى وُجدت فيه من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالى قد لا تكون مناسبة لعصور أخرى لها ظروفها ووقائع حياتها التى قد تتباين تبايناً جلياً عن سابقتها، هى علوم عظيمة فى عصرها، لكنها لا تصلح لكل زمان ومكان مثل المتن المقدس. إن العلوم التى نشأت حول الدين علوم إنسانية، تقصد إلى فهم الوحى الإلهى، فالقرآن الكريم إلهى لكن علوم التفسير والفقه وأصول الدين وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل وغيره علوم إنسانية أنشأها بشر، وكل ما جاء بها اجتهادات بشرية، ومن ثم فهى قابلة للتطوير والتطور. وهذه مسلّمة واضحة وليست اكتشافاً، لكن المتعصبين الذين تجمّد عقلهم وتجمّد معه كل شىء رفضوا الاجتهاد وتمترسوا خلف التقليد. وهم لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا أن من المنطق الفاسد والخلط الزعم بأن أى علوم شرعية بشرية هى مبادئ وقواعد يقينية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان، فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة، والحقيقة تتكشف تدريجياً، ولا تأتى دفعة واحدة إلا من خلال «وحى»، بل إن الوحى نفسه جاء منجَّماً عبر 23 سنة، وترك مساحة للجهد البشرى فى اكتشاف الحقائق والوقائع فى الكون، بل أيضاً فى استنباط الأحكام الشرعية (لعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ). وعلى ذلك، فكل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التى أعلنها القرآن جهد بشرى قابل للمراجعة، وهو فى بعض الأحيان اجتهاد علمى فى معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفى كل الأحوال -سواء كانت موضوعية أم مغرضة- ليست هذه الآراء وحياً مقدساً، بل هى آراء بشرية قابلة للنقد العلمى والتمحيص. وبالتالى، فأنا أدعو إلى تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين، فقد بات من الضرورى تفكيك الخطاب البشرى التقليدى والبنية العقلية التى تقف وراءه وتأسيس خطاب دينى. وأصبح ذلك يمثل حاجة ملحة، فهناك فرق بين الخطاب الدينى والنص الدينى، فالنص الدينى هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، أما الخطاب الدينى فهو عمل بشرى فى فهم القرآن والسنة يمكن إعادة النظر فيه، ويجب أن نعيد تفكيك هذا النص البشرى لكى نعيد بناء العلوم.

مَن يمكنه إنجاز مهمة تطوير علوم الدين وفق المفهوم الذى تطرحه؟
- كل من يعيشون فى الخطاب القديم لن يمكنهم تأسيس عقل دينى جديد أو خطاب دينى جديد، ولا حتى يمكنهم تجديد القديم إلا بالتهذيب أو الاختصار أو الانتقاء أو الشرح، لكنهم فى الجوهر يظلون أسرى القديم فى مناهجه ومفاهيمه وتصوراته، وما التجديد عندهم فى كثير من الأحيان إلا إبعاد لتيار قديم واستدعاء لتيار قديم آخر، لأنهم ببساطة ينظرون من الداخل، وحدود رؤيتهم مقيدة بإطار البناء من الداخل، ومحكومة بالمنهجيات التقليدية وطرق التفكير الموروثة والسارية. ولذا أكاد أجزم -على مستوى الخطاب الدينى- أن التجديد لا يمكن أن يأتى من المؤسسات الدينية الكلاسيكية فى أى بقعة من العالم إلا إذا كانت لديها القدرة على التخارج والتعلم من دائرة معرفية أخرى. يمكن أن تُحدث هذه المؤسسات تحسيناً أو تجميلاً هنا أو هناك، ويمكن أن تهدم حائطاً وتبنى حائطاً آخر، لكنها لن تستطيع أن تهدم بناء كاملاً تعيش داخله! والرأى عندى أنه لا بد أن يأتى التجديد من دائرة معرفية خارجية أو قادرة على التخارج، وهذا ما وجدناه فى كل الأنبياء العظام والفلاسفة المبدعين، فإذا راجعت سير الرسل الكبار تجد أنهم حملوا رسائل من خارج الدائرة المعرفية لأقوامهم، وأنهم قبل الرسالة كانت لهم احتكاكات بدوائر معرفية خارجية، فالوحى لا يأتى عبثاً.

جمود اللغة أحد أهم أسباب عجزنا عن تطوير الخطاب الدينى

هل يمكن تطوير العقل الدينى دون تطوير اللغة؟
- جمود اللغة أحد أهم أسباب عجزنا عن تطوير الخطاب الدينى، فكيف يمكنك التعبير عن فكر دينى جديد بمفردات وأساليب تعبير قديمة؟ وكيف يمكن لخطاب دينى أن ينمو وهو يعيش فى قوقعة لا تنمو؟ هذا أيضاً ما يجعلنى أؤكد -مجدداً- أن المؤسسات التقليدية لا يمكن أن تطور الخطاب الدينى لأنها تستخدم اللغة القديمة بكل مفاهيمها، وتعيش داخل الصدَفة (القوقعة) ، وهذه الصدَفة نفسها لا تنمو! كما أن تطوير اللغة هو أحد أهم أركان الدخول فى عصر جديد، ويجب أن تطال عمليات تغيير طرق التفكير تطوير اللغة، لأن اللغة لها دور فى نمو المفاهيم والتصورات ومن ثم السلوك. وأتصور أن أحد أهم أسباب التطرف والتشدد، هو طريقة فهم اللغة عند التيار المتشدد الذى يقف عند حدود الحرف وظاهر اللغة كما تشكلت قديماً، وعدم الالتفات إلى السياق التاريخى والاجتماعى للغة، فضلاً عن عدم الالتفات إلى المقاصد. ويكفيك أن تقرأ لهم أو تراقب طريقتهم فى الحديث، فسوف تعرف على الفور أنهم يعيشون خارج التاريخ المعاصر، ولم يدركوا من الحداثة إلا قشورها، بل سوف تشعر بالاغتراب تجاه كلامهم ونمط تفكيرهم، وسوف توقن أن جسور الحوار منقطعة لأنها مع أناس من عالم آخر. ولذلك سوف تجدهم يكفرون أى شخص يعيش فى عالم اللغة المخالفة لهم. إننا لو ظللنا نعيش فى النسخة القديمة من اللغة بخاصة، أو من التراث بعامة، وهذا هو حالنا الآن، فسوف يستمر توقف نمونا الفكرى فى الوجود.

وماذا عن الدراسات البينية وعدم النظر إلى علوم الدين كجزر منعزلة؟
- لن يتحقق الخطاب الدينى الجديد بالصورة المأمولة إلا من خلال الدراسات البينية التى يساهم فيها أكثر من اتجاه علمى، فى إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية، فالدراسات البينية هى التى تحقق الفهم المتكامل والشامل للظواهر التى تتم دراستها. وعلى سبيل المثال من الضرورى توظيف النظريات القانونية الحديثة فى تطوير أحكام الفقه، مثل توثيق الطلاق على غرار توثيق الزواج طبقاً لنظرية الأشكال القانونية المتوازية، لأن انعقاد وإثبات الطلاق عن طريق توثيقه منطقى فى ضوء نظرية الأشكال القانونية المتوازية، فما يتم وفق شكل وإجراء لا بد أن يتم إنهاؤه بالشكل والإجراء نفسه، وهذا الرأى نقدمه فى مقابل باقى الآراء، لكن الأمر فى نهايته يحتاج إلى حوار مجتمعى جديد حتى الوصول إلى توافق مجتمعى. ويبدو أن الخطوة الأولى للدراسة العلمية الجادة تتمثل فى الوقوف على أهم الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية فى البحث فى علوم الدين.
الخلط بين المقدس والبشرى وأحادية الصواب والخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية أبرز الأخطاء المنهجية

وما أبرز الأخطاء المنهجية فى البحث فى علوم الدين؟
- الخلط بين المقدس والبشرى، وعلم التفسير القديم يقوم على الصواب الواحد، وليس على تعددية المعنى وتعددية الصواب، وسيادة العقائد الأشعرية، فأنا مسلم ولست أشعرياً، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن أشعرياً، و الخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية، وعدم التمييز الإبستمولوجى بين قطعىّ الدلالة من النصوص وظنىّ الدلالة (تعددية المعنى والصواب) مثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل «لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة» (متفق عليه، واللفظ للبخارى)، عدم التمييز الإبستمولوجى بين اللاتاريخى (الثابت) والتاريخى (المتغير) فى الأحكام الشرعية، وعدم التمييز بين الإسلام والمسلمين، وغياب العقلانية النقدية، والرؤية الأحادية للإسلام، وعدم التمييز بين الأحاديث النبوية المتواترة وأحاديث الآحاد.
بعض من يقومون بكتابة الخطاب التقليدى عقولهم مغلقة تقوم على منهجية نقلية وليست نقدية

ولماذا كل هذا الخلط ولماذا كل هذه الأخطاء المنهجية؟
- بعض من يقومون بكتابة الخطاب الدينى التقليدى لديهم عقول مغلقة تقوم على منهجية نقلية، وليس على منهجية نقدية والنظرة الأحادية والمتعصبة، وعدم القدرة على الحوار الإيجابى المنتج، ودور العلم الاقتصادى فى دراسة الظاهرة الدينية، فمن وجهة نظرى أن الخطاب الدينى التقليدى هو إنتاج لنمط الاقتصاد الرعوى لأننا حتى الآن فى العالم العربى لا نزال نعيش فى نمط الاقتصاد الرعوى المشكل للحياة والمحدد لأنماط العلاقة والتفاعل، وتوجد عوامل أخرى مفصّلة فى كتابنا «نحو تأسيس عصر دينى جديد».

ما المراحل الضرورية التى يجب أن يمر بها تطوير الفكر عموماً؟
- أهم المراحل ضرورة النقد العقلانى وليس جلد الذات. ويشمل النقد العقلانى: نقد العقل ونقد المعتقدات ونقد الوجدان ونقد طريقة عمل الغرائز ونقد الأخلاق التقليدية. لكنه ليس أى نقد، بل النقد القائم على التفكيك ثم التحليل ثم التوصيف ثم المعالجة وإعادة البناء. وهذا هو جوهر التفكير الفلسفى النقدى، لكنه ليس نقداً من أجل النقد، بل نقد من أجل إعادة البناء. والفلسفة الحق ليس مهمتها النقد فقط، بل مهمتها إعادة البناء. والفلسفة الحق ليس مهمتها فهم الإنسان والعالم فقط، بل مهمتها أيضاً تغييره.