مفيد فوزي
تعلمنا أن الترفيه عن النفس- بالمقالب- هو إضاءة داخلية تشع إحساساً بالدهشة الممزوجة بالضحك. وأبرز مثال رأيناه وضحكنا معه هو فؤاد المهندس فى الكاميرا الخفية، كان جذاباً وحبّوباً، كان يمتعنا وننتظره. ثم تطورت المقالب، وكان أشهرها حسين الإمام'> مقالب حسين الإمام التى كانت جديته تبعث على الضحك، حين يقع الضيف فى ورطة محببة للنفس وليس ورطة بالمعنى البغيض لكلمة ورطة، تعلمنا أن المقالب تثير الضحك المطهر للقلب، وتمنح سعادة التخفف من أعباء النهار ورغبة الصائم فى جو أسرى مفعم بالحميمية. هكذا عرفنا فن المقالب غير الضارة، والأهم «التى تحمل الضحكة الممزوجة بالدهشة»، ولهذا أحببنا فؤاد المهندس وحسين الإمام.
■ ■

ثم تطور الزمن، وللدقة ثم تراجع الزمن، وصرنا نرى «مقالب بغيضة قبيحة خطرة ومقبضة». هذه المقالب ينفق عليها بسخاء أسطورى، ويدفع للنجوم فيها مبالغ خيالية تسيل اللعاب و«تسهل المهمة» لأن الإغراء المادى كبير ومثير. ولكن هناك اعتبارات لدى الجهة المنتجة لهذه المقالب، فهى لا تغامر مطلقاً بنجم كبير ومحترم ومحبوب وله عشاق بحجم الفنان محمد عبده، عندليب الخليج والعالم العربى. لا تميل جهة الإنتاج إلى خدش- مجرد خدش- فى محمد عبده احتراماً له، وأذكر محمد عبده على سبيل المثال، ربما لا يقتحمون خلوة دريد لحام الكبير، والمستنبط أن هذه المقالب، وآخرها الممثل الذى أطلق على نفسه «مجنون رسمى»، لا تملك أن تتطاول على أسماء تحترم نفسها، فمن غير المعقول أن تدق الجهة المنتجة على باب سميحة أيوب! وذلك أن المحتوى الذى تقدمه هذه المقالب «محتوى مبتذل وسادى ومريض»!.
■ ■

الأخطر فى الأمر هو جمهور هذا الزمان الذى «يتلذذ» برؤية المشاهير يصرخون ويستغيثون وربما يبكون! جمهور هذا الزمان «يستمتع» بجنون بفنان كبير أو لاعب كرة شهير «على معلول» نمطاً وهو «فى الورطة»، التى فى واقع الأمر «تكسر كبرياءه» و«تحقره بين مجتمعه»، لابد من دراسة علمية لأساتذة علم النفس تجيب على هذا السؤال: لماذا الانبساط التام حين يسقط ضيف له شأن فى هذا المطب الذى يكشف عن سوداوية المجنون الرسمى؟ إذ كيف يصبح هذا المحتوى المبتذل البغيض مادة محببة لناس هذا الزمان، وكيف يستقبل الأطفال ما حدث للضيف من ورطة بالضحك دون أن يدرك الآباء أنها مصيبة، فبدلاً من توقير الكبار، يتم على يد المجنون الرسمى «تهزئة الكبار» ومرمطتهم وسقوطهم المفاجئ فى الطين والبهدلة وقلة القيمة. كل هذا يضحك صغارنا ويتخذونه مثلاً فى الضحك. فهل بلغنا حالاً من السأم والاحتقار والمهانة أكثر من ذلك؟ تلك هى المأساة التى تتكرر كل سنة وبسطوة الإنفاق تظهر على الشاشة ويزين لها مذيع طيب القلب يتقاضى أجره من القناة بأن ليس فى الإمكان أبدع من المجنون الرسمى.

■ ■ كانت هناك شابة تعمل فى الصحافة، ولا أعرف هل هى عضوة فى النقابة أم لا.. هى التى تتولى أمر «الإمداد» فى هذه المقالب للمجنون الرسمى، ويبدو أن أمرها افتضح فلا عادت الثقة فيها وربما لاتزال تعمل لأن الجهة المنتجة «لا تقطع عيش أحد»، ولكن الجديد- هذا العام- أن ظهر زملاء صحفيون يتقاضون مبالغ مغرية للاتصال بالضيوف. فلم تعد «ش. ش» تتصل بالضحايا! اتصل بى شخصياً زميل وكانت لهجته وقورة. قال: «أستاذ مفيد، يسعدنا سفرك لدبى وستأتى سيارة مرسيدس تأخذك من البيت إلى الصالة الخاصة، وتحمل عنك حقائبك، والبرنامج تقدمه مذيعة يمنية، وهو من ثلاث فقرات، وعموماً حضرتك أستاذنا وقادر على الحوار ومدة الحوار ساعة، والأجر المتفق عليه يدفع لك بعد الحوار مع أروى. وليس مطلوباً منك سوى صورة جواز سفرك وسنوافيك بالتأشيرة وبطاقة السفر. أهلاً بيك». ولما كنت معتاداً أسفاراً من هذا النوع فقد قبلت العرض. فقد جرت فى العام الماضى رحلتان، إحداهما للكويت والأخرى لعمان، وكانت رحلات ناجحة. ولهذا رحبت بالسفر. ولم أشك لحظة أن «سفرى هو مقدمة لورطة تتم على يد المجنون الرسمى». لم أفكر أبداً أن الزملاء- وأكتم الأسماء حرصاً على السمعة المهنية- كانوا «أدوات» فى الخفاء، وربما يعلمون بأمر «الملعوب» وربما تنتهى مهمتهم عند جلب الضحية لدبى!! المهم أعددت حقيبة سفرى لحظة وصول التأشيرة وطلبت أن يكون سفرى مبكراً فاستجابوا فى الحال! أنا من الذين لا «يخونون» أحداً، ولا تساورنى الشكوك، واستقبلت الأمر على أنه سفرة عادية اعتدت عليها طول مشاويرى الصحفية، وفى اليوم المحدد كنت أستعد للسفر لولا رسالة وصلتنى على هاتفى!.
■ ■

يبلغنى «رامى إنتاج mbc»، كما هو مدون على تليفونى، أنه يعتذر بشدة عن عدم السفر لأن التصوير متوقف!

ماذا جرى؟ هل تراجعوا عن دعوتى رغم التأشيرة والتذكرة؟

هل رأى محمد عبدالمتعال، رئيس القناة، اسمى فقال: «تُلغى رحلته»، هل أن رئيس المنظومة الفاضل الذى تعرفنا عليه واحترمناه «أنيس منصور وأنا» فى سفرة لجدة بدعوة من صاحب السمو الأمير عبدالعزيز بن فهد، وأقصد به وليد الإبراهيمى، وهو شخصية آسرة، وكان له الفضل فى عملى ذات فترة فى القناة، وقدمت ٣٠ شخصية حاورتهم فى العالم العربى، وسافرت معظم دول عالمنا العربى، وكان عملاً رائداً فى ذلك الزمن وأدين له بدعمى آنذاك، فهل رق قلب الرجل وأمر بحذف اسمى حتى لا أتعرض لهذه المهانة أو «تحقيرى بين أهلى وعشيرتى»، على حد وصف الرائع الحصيف فريد الديب؟

وربما، أقول ربما، لم يشغل بالهم أمرى؟! لكن الأخطر هو النصب الذى جرى فى الدعوة للبرنامج. المفهوم أنى ذاهب لحوار مع أروى اليمنية ولست «صيداً ثميناً» للمجنون الرسمى أذوق صنوف المهانة والبهدلة! وظل السؤال حائراً: كيف يتطاولون على اسمى، هل عند «ش. ش» حل الفزورة؟! ربما، لأن صناعة الإعلام الذى يضع فوق رقابنا الإعلان ليس له قلب ولا ضمير. فهل لهذه المهانة صلة ببناء الشخصية المصرية؟ هل قال لنا ميلاد حنا إن من ثوابت الشخصية المصرية ترهات المجنون رسمى؟
■ ■

هل تنبه أساتذة علم الاجتماع لمدى العنف والسادية التى يحتويها برنامج المجنون الرسمى، وهو يتمتع برؤية قامات فنية ورياضية تتدحرج وتتشعلق فى الهواء وهى تستغيث، ومن فرط الضيق والخوف فى آلات صممت خصيصاً لهذا التعذيب، فهؤلاء يشتمون المجنون الرسمى بأقذع الشتائم، وتحجب هذه الألفاظ حتى لا يقع الضيف الكريم تحت طائلة القانون، ولو كنت قد سافرت وعشت التجربة وفهمت «الفولة» بحكم تجربتى الطويلة الإعلامية لأعطيت درساً للشابة المذيعة أروى، أى سنارة السمك الصيادة، وهو وصف لا يليق بمذيعة ولا أحب أن أثير ما جرى فى قناة لأن الشاشات تصالح بعضها وتحافظ على الخيوط الواهية التى تربطها ببعضها! ومن هنا يأتى الصمت، وكأن كرامة المصرى درجة خامسة. كنت سأعطى المجنون الرسمى درساً وأوجه له عبارة واحدة: زيارة واحدة للدكتور أحمد عكاشة وعزلك شهرين عن الناس سوف تعيد لك توازنك! وفى اليوم التالى أعود إلى مصر.
■ ■

لقد نجوت من مقالب المجنون الرسمى لأن الله أراد لى عز وجل أن يحفظ لى كرامتى وجبر خاطرى وسترنى، وهذا رزق. فلم أتصور أن ترانى حنان ابنتى على هذا النحو وعندى السكر، ولم أتصور أن يرانى حفيدى شريف أسقط فى ترعة مصنوعة لمزيد من الاهتراء. باختصار «المرمطة وقلة القيمة والمهانة والسقوط الذريع» وتغور الفلوس مهما بلغت بالدولار. ولكن ما أبخس الثمن على يد مجنون رسمى. تبقى عبارة واحدة: لمن أتوجه بمقالى هذا؟ لمن أصرخ حرصاً على ما أصاب الشخصية المصرية من التفتيت والتفكيك؟! الحمد لله أنى نجوت بفضلك يا رب.

«الرب يحفظك من كل شر يحفظ نفسك، الرب يحفظ خروجك ودخولك» من مزامير داوود.

رددتها فى صمت!

و.. سيطوى الصمت الحدوتة، ويتكرر مشهد الفرجة على مشهد ذبح سين أو صاد!.
نقلا عن المصرى اليوم