محمد حسين يونس
عندما وصل مارمرقص إلي الأسكندرية حوالي سنة 60 م ( قد يكون قبلها قليلا) كان قد مضي علي مصر الاف السنين يتنازعها نوعين من الاديان .. أحدهما عبادة كائنات مرتبطة بالفضاء( السماء ) وهذه كان يدين بها دائما الحكام و تعتبر الدين الرسمي

و تراوحت بين عبادة (حورس) الصقر المجنح ثم (رع)الممثل في قرص الشمس ثم تلاة (أمن ) الخفي ثم (اتن) الواحد .. وكلها بني من أجلها الملوك المعابد الضخمة و إستمر البطالمة و الرومان علي نفس المنوال .. بحيث قد يدهش البعض أن اضخم معابد الصعيد في (إدفو) و(قنا ) بناها - في ذلك الزمن - كهنة امون الاغنياء.

اما الدين الاخر الذى ملك قلوب الفلاحين و البسطاء فهو دين (التجدد) المرتبط باوزيريس (الاله الانسان) الذى قتله بغدر أخوه (ست ) ثم بعث من الموت ليحكم العالم السفلي (التيوات ) أرض الظلام وفردوس(ماعت ) الشبيه بمصر و نيلها وخيرها الذى كان يطلق عليه (حقول الاليسيان )

هذا الدين لم يكن له معابد إلا في أبيدوس مسقط رأس أوزيريس .. ولم يكن له كهنة اغنياء او قصائد تكتب بالهيروغليفية علي الجدران .. لذلك و مع انكماش تعلم (الديموطيقيه ) تعثرت ايضا القدرة التسجيلية للاوزيريسيين و إكتفوا بترديد ما يتناقلونه شفاهة عن سيرته هو و عائلته ( إيزيس و نفتيس و حورس وست) ..و بإقامة الاحتفالات الشعبية في يوم ميلادة و تمثيل مندبة ( إيزيس و نفتيس ) لوفاته ..ثم افراح بعثه و تمكينه

لقد كان حبه يملاء قلوب البسطاء ..هذا الحب تم تحويله في زمن تال الي ابن الناصرة المسيح (الاله الانسان) في عرف البعض .. صديق الفقراء و هاديهم وناصرهم .. و إلي أمه التي حملت ألقاب إيزيس (أم النور وأم الرب وحامية المؤمنين ).. و إنتشر بينهم خلال أقل من قرن منذ وصول مار مرقص إلي الأسكندرية بحيث كاد أن يشمل جميع (المصريين) .

كتب جمال حمدان ((دخلت المسيحية مصر او دخلت مصر المسيحية كاستجابة و إستمرارا للتقليد الديني العميق الذى تأصل في طبيعتها النيلية الاساسية ثم هي لم تأخذ المسيحية دون تصرف بل في ترجمة مصرية خاصة .. فكانت القبطية هي النسخة المصرية منها وعند البعض أن هذه الترجمة ما هي الا تعبير عن الملائمة بين الديانة المصرية القديمة و المسيحية الجديدة ..لقد مصرت مصر المسيحية )).

كتب إسماعيل صبرى عبد الله (( لقد أقبل الشعب المصرى علي دين الناصرة إقبالا ليس له نظير فمن المؤكد انه منذ القرن الثاني كانت اغلبية المصريين من الذين إعتنقوا الدين الجديد ))

وكما إضطهد الحكام الرومان ..اليهود من المصريين سكان الاسكندرية.. دارت الدوائر علي المصريين من أتباع الدين الجديد....لتصنع مصر (القبطة) أغلي ملاحم تاريخها دفاعا عن دينها قدمت فيها الاف الشهداء .

((اول حملة إرهاب ضخمة ضد الدين الجديد امر بها الامبراطور ساويرس عام 200 م و اعمل المحتل الروماني القتل و الارهاب و التخريب ضد المقاومة المصرية كابشع ما يصنع غاصب مع المقاومة و ضرب المصريون اروع الامثلة في التمسك بالعقيدة و الاستشهاد من اجلها وبلغت حمامات الدم افظع مدى علي يد دقلديانوس عام 284 م عام الشهداء الذى يبدا به التقويم القبطي )).

وبنظرة علي تُراثنا التاريخي القبطي .. و ((نصل بها إلى عام 284 م. التي اعتلى فيها دقلديانوس العرش الإمبراطوري في روما، تُرينا أنه في البداية أظهر تعاطُفًا كبيرًا مع المسيحيين، وفي عام 286 م. أشرك مكسيميان معه في الحكم ليكون إمبراطور الشرق ومنذ ذلك الوقت ذاق المسيحيون كأس الاستشهاد واصطبغوا بها ثانيةً))

(( (زوئي )زوجة السَّجان، التي كانت تعتني بالسجناء الذين تحت حراسة زوجها تنصرت، فعُلِّقت على شجرة تشتعِل بالنار في جذعها، ثم أُلقِيت في النهر وقد عُلِّق حجر كبير في عُنُقها.

و في 22 سبتمبرعام 286 م ا ستُشهِدت في (بلاد الغال ) الكتيبة العسكرية الطبية المصرية عن آخرها وكان كل أفرادها من أبناء الأقصر، لأنهم رفضوا الإذعان لأمر الإمبراطور مكسيميان بتقديم الذبائِح للأوثان والنطق بالقَسَمْ على إنهاء المسيحية في البلاد التي أرسل إليها أفراد هذه الكتيبة

وأصدر دقلديانوس مع زميله غاليروس منشورًا بهدم كل الكنائِس المسيحية وإحراق الكتب الكنسية، واعتبار المسيحيين خارجين عن القانون.

وفي 25 نوڤمبر عام 311 م. وبأمر الإمبراطور مكسيميان الذي كان يملُك على الشرق استُشهِد البابا بطرس البطريرك السابِع عشر في خلافِة مارمرقُس الرسول.

ويقول يوسابيوس المؤرِخ الكنسي، أنَّ في مصر كان يوجد جمع غفير لا يُحصى من المؤمنين مع زوجاتِهِم وأطفالِهِم ممن عانوا من كل أنواع العذابات والموت من أجل الإيمان.

في عصر دقلديانوس قام أريانوس والي ( أنصِنا) بتعذيب عدد كبير من المسيحيين في بلاد الصعيد منهم: الشهيدة (دُولاجي) الأُم وأبنائها، والقديس (أبو قلتة)، والأنبا (بضابا )الأسقف وغيرهم آلاف آلاف....

ويقول العلاَّمة (ترتليان) عن تقييمه لعدد شُهداء مصر من المسيحيين:
((لو أنَّ شهداء العالم كله وُضِعوا في كفة ميزان، وشهداء مصر في الكفة الأخرى، لرجحت كفة المصريين ))ويُقدَّر عدد شهداء الأقباط بحوالي ثمانمائة ألف شخص.. أى 10% من المصريين

لقد كان امتناع المسيحي عن بعض ممارسات الحياة الوثنية كفيلًا بكشف أمره وهكذا كانت الشهادة تتم طول النهار، وكانت كل خطوة تنطوي على اعتراف حَسَنْ أوشهادة أمينة لله يقابلها سيف الموت المُسلَّط دائِمًا على رِقاب المسيحيين فطبقا لفتوى العلاَّمة ترتليان

(( كان لا يجوز للمؤمن أن يشترِك مع الوثنيين في الملبس والمأكل أو في أي مظهر، علاوة على امتناع المؤمنين عن بعض الحِرَف التي لها صِلة بعبادة الأصنام، وتركهم لها فجأة كان يُعرِّضهم للمحاكمة العامة))...

. وقد أورد كلٍ من يوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي والعلاَّمة ترتليان والشهيد يوستين في دفاعياته ((كيف كان المسيحيون يُستبعدون من المناصِب العامة ومع ذلك كانوا يُحبون الإمبراطورية ويُصلُّون من أجل العدل والسلام، رغم كونهم لا يعبدون الأباطرة، ويظهرون غيرة شديدة نحو الإيمان)) .
أختتم حديث اليوم بالمقتطف التالي من خطابات أرسلها (جستين) و هو في طريقة إلي روما بعد أن حكموا عليه في ذلك الزمن أن يلقى للوحوش لأنه أبى أن يرتد عن دينه، اعتذر عن قسوتها و لكنها تظهر الصورة علي حقيقتها .

((فليعلم جميع الناس أني أموت طائعاً في حب الله، إذا لم يحل أحد بيني وبين الموت. وأتوسل إليكم ألا تأخذكم بي رأفة أرى أنها في غير أوانها، بل اتركوني تنهشني السباع التي أستطيع أن أصل عن طريقها إلى الله... بل أغروا للوحوش بدلاً من هذا أن تلتهمني فلا تترك قطعة من جسدي، حتى إذا نمت نومي الأخير لا أكون كلاًّ على أحد من الناس... ألا ما أشد شوقي إلى الوحوش التي أعدّت لي... ألا فليكن من نصيبي النار والصلب وقتال الوحوش، والتقطيع والتمزيق، وتهشيم العظام، وبترالأطراف، وتحطيم جسمي كله، وأقسى أنواع العذاب )) ..

(نكمل حديثنا غدا )).