بقلم : كمال زاخر
19ـ هذا جسدي ، هذا دمي
[أخذ خبزاً، وشكر، فكسر، وقال خذوا كلوا "هذا هو" جسدى]
["هذه الكأس هى" العهد الجديد بدمى] 
"هذا" هنا إشارة للخبز وإشارة للكأس، بحسب النص الإفخارستى الذى أورده القديس بولس الرسول لأهل كورنثوس، وفيه الخبز نفسه هو جسد المسيح، والخمر نفسه هو دم المسيح.
 
هنا المسيح لمّا أمسك الخبز وبارك عليه (باركه بلغة القداس) "صار" بحسب "تدبير" الري جسداً له، كحالة واقعة "حقيقية".
 
 ويوضح الكاتب بتدقيق هذا الأمر "الرب حفظ المادة المصنوع منها الخبز من أن تتحول عن شكلها الظاهر (كما تحول الماء خمراً سابقاً بإرادته). إذ جعل التحول هنا ليس بالمظهر بل بالحق الفائق على المادة، الذى يعطيها طبيعة وصفات جديدة ليست لها أصلاً، والذى لا يخضع للتغيير المادى أو تدركه الحواس الجسدية أو تؤثر فيه العوامل الطبيعية.
 
ويعطينا الكاتب توضيحاً لمعنى "حقيقي" هذه : "فالمسيح نور العالم، ولكن نور المسيح لا تراه العين لأنه نور حقيقى لا ينطفئ قط، وجسد المسيح الذى كان يعيش به على الأرض كان جسداً إلهياً، ولكن فى شكل وصورة جسد ترابى لا تدرك الحواس لاهوته، ولكن الإيمان عند بطرس أدرك "حقيقته" فنطق قائلاً "أنت المسيح ابن الله الحى" (متى 16:16)، حيث الجسد هنا فائق على الطبيعة وفائق على الموت. والعين البشرية لما دخلت فى حالة تجلّى (عند بطرس ويعقوب ويوحنا) رأت الجسد مضيئاً "وتغيرت هيئته قدامهم" (مرقس 2:9)، ولكن بعد التجلّى لم تر العين إلا الجسد البشرى ولم ترَ فيه إلا الصفات الطبيعية، حتى أن بطرس عَثُر فى المسيح وأنكره بعد ذلك!!"
يعود الكاتب مجدداً ليؤكد "أن الرب قال "هذا الخبز هو جسدى" كتقرير حالة حقيقية واقعة. وكذلك قال " هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى" والتى تكررت بصيغ متقاربة فى مواضع أخرى ليُضَيِّق الإنجيل فى تسجيلاته الأربعة على منافذ الشكوك، "حتى يؤمن الإنسان أن الرب جعل كأس الإفخارستيا دماً حقيقياً له".
يعود بنا الكاتب إلى ذبيحة العهد القديم، ليكشف لنا عبر النصوص التوراتية أن الذبيحة ذات عنصرين أساسيين : الدم واللحم، وأنهما دائماً منفصلان، الجسد وحده والدم وحده، ولكلاهما طقسه الخاص؛ فالجسد يحرق خارج المحلة إذا كانت الذبيحة للتكفير عن الخطايا، ودمها فى نفس الوقت يُرش على المذبح للتكفير عن الشعب.
ولهذا يتكلم المسيح بلغة الذبائح مرة عن الجسد ومرة عن الدم "هذا هو جسسدى ... هذا دمى"، كان الرب فى هذه اللحظات يذبح نفسه بالنية والنبوة.
ويضعنا الكاتب أمام استنتاج غاية فى الأهمية، عندما يطرح سؤالاً عن المصدر الذى صاغ منه بولس الرسول وصفه "لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذبح لأجلنا" (1كو 7:5) 
"إن اعتقادنا أن هذا التقليد الطقسى واللاهوتى الذى أورده بولس الرسول هو ناتج شرح قدمه المسيح وقت العشاء عن ذبيحته. وهذا واضح غاية الوضوح فى رسالة القديس بولس الأولى إلى كورنثوس، إذ يؤكد الرسول أن الأكل والشرب من الخبز والكأس فى سر الإفخارستيا هما اشتراك فعلى فى جسد ودم المسيح بقوله : 
 
كأس البركة التى نباركها أليست هى شركة دم المسيح، 
الخبز الذى نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ (1كو 10 : 16)"
ويورد الكاتب تأكيدات لهذا التقليد فيما ذكره القديس بطرس الرسول فى رسالته الأولى وما جاء بسفر الرؤيا فى الاصحاحات 5 و 12.
ثم ينتقل ليشرح معنى قول الرب : هذا دمى الذى يسفك من أجل كثيرين؛ بعد الرجوع الى اللغة الآرامية  التى كان يتكلم بها الرب، لنجدها "هذا دمى مسفوكاً" وهى تعبر عن حالة مؤكدة الوقوع أو متوقعة أكيداً، ويبين المراد من هذا بقوله "أن الرب هنا يصف الكأس الذى يقدمه، أنه ليس مجرد دم بل دم مسفوك كصفة محتمة أو واقعة بالتأكيد. أى ليس دماً طبيعياً أو عادياً هذا الذى يعطيه لهم فى الكأس، بل دم ذبيحته." فى تأكيد أن المسيح يتكلم عن نفسه كذبيحة.
 
ويواصل الكاتب "كذلك لا نستطيع أن نتجاهل المناسبة التى يقول فيها الرب هذا الكلام، فهى مناسبة فصحية، الفصح على الأبواب، فالإشارة واضحة إلى خروف الفصح، المسيح يقدم تقدمة فصحية "حمل الله" هنا تتطابق ليس فقط النبوات، بل وكلام يوحنا المعمدان وهو يشير بأصبعه إلى المسيح. إذاً فالأكل والشرب هما أكل وشرب من حمل الله، الفصح السماوى.
فالأكل من الجسد شركة فى حياة الرب للخلاص
والشرب من دم الرب شركة فى موت الرب.
 
"أنا هو الحبز الحى الذى نزل من السماء .... والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى ابذله من أجل حياة العالم." (يو 6 : 51)
"كلما ... شربتم هذه الكأس تُخبرون بموت الرب" (1كو 11 : 26).
ثم يتوقف الكاتب عند تعبير : يُسفك عن (من أجل) كثيرين وبالآرامى "على" كثيرين، فالرب هنا يكشف أنه يتكلم عن ذبيحة نفسه، ويعطيها صفتها أنها ذبيحة كفارية، أى كهنوتية، "من أجل كثيرين"، إذا فهى مقدمة إلى الله، الجسد هنا مقدس، والدم هنا مقدس، فكلاهما مقدم على مذبح الله السمائى" وكلاهما له عمل على مذبح الله السمائى..
 
"كثيرين"، يقول الكاتب، تعنى عظم وشمول عمل الذبيحة، فى تأكيد لما قصده اشعياء النبى "حمل خطية كثيرين وشفع فى المذنبين" (إش 53 : 12). وهى بالمعنى الذى أوضحه يوحنا الرسول فى إنجيله "والخبز الذى أنا أعطي هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6 : 51).
لذلك فكلمة "كثيرين" بحسب فكر اشعياء وبحسب فكر المسيح والنص الإفخارستى هى "الكثرة التى تحوى كل واحد"، أى الدم المسفوك عن شعوب العالم، شعوب الأرض فى كثرتها التى تحوى كل إنسان، كل الأجيال، إلى الأبد ـ "حياة العالم".
ويختم الكاتب هذا الجزء بملاحظة مهمة "لعل فى قول الرب "اشربوا منها كلكم" إشارة إلى هذا الشمول عَبر كل العالم كل الدهور، ثم استطراد الرب فى الحال بالقول "ولكن هوذا يد الذى يسلمنى هى معى على المائدة" (لو 22 : 21) إشارة إلى قصور البشرية قصوراً فاضحاً عن قبول الخلاص الكلى والحياة الأبدية الشاملة للعالم، وذلك ممثلاً فى يهوذا واحد من الاثنى عشر، وتلميذ من المقربين خان وسقط بعيداً عن عمل الذبيحة !!.
ومازال التنقيب فى كلمات الرب على العشاء مستمراً.