سحر الجعارة
فى فوضى المصطلحات ستجد تعبيرات شائعة مثل «رجل دين، عالم دين، فقيه»، هذه التعبيرات للأسف أصبحت تمنح صاحبها التوكيل الحصرى للحديث باسم المولى عز وجل والوصاية على الإسلام وبالتالى على المجتمع، ومناطحة الدولة فى سلطاتها وقوانينها، والأدهى من ذلك بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، فهذا مسلم وذلك مسيحى والآخر شيعى أو أشعرى.. إلخ.

ونجح هؤلاء فى زرع «إخوانى» فى كل بيت أو مؤسسة يدين بالولاء لدول معادية، ويتبع أفكارهم التكفيرية التى لا تؤمن بالحدود الوطنية للدول.. نجح هؤلاء فى خلق أجيال «عمياء» تسير خلفهم دون إعمال للعقل أو تفقه فى النص الدينى بأنفسهم.. لأنهم تراضوا على فكرة «ضعها فى رقبة عالم» التى جعلت بعض المواطنين «فاقدى الأهلية» لا يتحركون خطوة إلا بفتوى، وأصبحوا فرقاً متناحرة كل منهم يسير خلف شيخه الذى تتناقض فتاواه بالضرورة مع آراء الشيخ الآخر.. فكيف نصبح شعباً متجانساً بالفعل، «المواطنة» فى حياتنا ليست شعاراً نتغنى به فى أزمات الفتنة الطائفية.. كلنا خاضعون للقانون ولسلطة الدولة المدنية، متساوون فى الحقوق والواجبات!.

هذا ما يجيب عنه الدكتور «سعد الدين الهلالى»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، ، فى مشروعه الفكرى «الرشد الدينى» الذى تحدث عنه عبر 30 حلقة فى برنامجه «كن أنت» على التليفزيون المصرى. يقول أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إن الرشد الدينى حق لكل إنسان، وليس منحة من أحد، ولكنه عطية وتكليف من الله -عز وجل- لكل إنسان بلغ سن الرشد.. لأن الإنسان له رشد دينى مثلما له رشد مالى، ولذلك يجب عليه أن يبحث ويتثقف فى أمر دينه.. ويضع الدكتور «الهلالى» عدة شروط ليصل المجتمع بأكمله للرشد الدينى، أولها تعريف أهلية الرشد الدينى، والمقصود به التمييز بين الصلاح والأصلح.. وهو ما يحتاج إلى متطلبات حضارية لاكتمال السيادة الإنسانية وتحمل المسئولية، وتذوق حلاوة الإيمان وتجويده.. لنصل إلى الاندماج الشعبى بالتشابك الفطرى، والاجتهاد الإنسانى، دون عقبة الفتاوى الطائفية. ويدعو الدكتور «الهلالى» إلى تصحيح مسار الخطاب الدينى من الإدارة بالفتاوى المسببة للأمية والاستعباد إلى التعليم بالفقه والتفسير المقارن، كما يدعو لتحقيق العدالة الدينية، وإنهاء التمييز فى الدنيا بالدين والجنس. ويوضح الدكتور «الهلالى» أن إجراءات تمكين الرشد الدينى، قرين للرشد المالى.. فيقول: (عليك أن تسأل وتتعلم لتحصل على أجر الاجتهاد، لأن من ينصبون أنفسهم أوصياء حريصون على بقاء الجهل والأمية والتشكيك فى سلامة القلب حتى تظل لهم المكانة والقدر والوجاهة ويتهمون الناس بالشرك لتهنئة غير المسلمين بأعيادهم الدينية).

«الرشد الدينى» لا يمكن اختزاله فى مقال، لأن الدكتور «الهلالى» أسهب فى تعريف مفاهيمه وآليات تطبيقها والهدف من كل آلية.. ولكن يمكن الإشارة إلى بعض النقاط الهامة فيه، وأولها إجراءات الرشد الدينى: (1- إقامة دولة مدنية بالمواطنة، 2- إنهاء التنظيمات الفكرية، 3- تفويض الدين لله كما أمر، 4- تفرغ الأزهر للعلم وتخليه عن الشئون العامة للدولة، 5- إلغاء الوصف الإسلامى للهيئات والمؤسسات المدنية، 6- نشر الوعى بتاريخ الأوطان والأديان، 7- تصحيح مسار الوعظ والدعوة لله وليس لجماعات، 8- التزام العلماء بالتعددية الفقهية، 9- محو الأمية الفقهية والابتداء بالنفس).

والحقيقة أن كل بند من هذه البنود هو قنبلة موقوتة تنفجر فى وجوهنا بمجرد الإشارة إليه، فالأزهر يصر على منافسة الدولة فى سلطاتها بل ويعتبر نفسه «مؤسسة مستقلة» عن الدولة، ولن يتخلى عن فرض وصايته على شئون البلاد والعباد ولا التدخل فى العلم والسياسة.. إلخ.. وبالتالى فأنت لا تستطيع الاقتراب مثلاً من مؤسسة تعليمية مثل جامعة الأزهر أو تلغى ما يسمى بالتعليم الدينى من المعاهد إلى الكليات!.

والمؤسسة الدينية الرسمية لا تميل إلى عرض آراء الفقهاء الأربعة، بل تقرر -فى ضوء سياستها- أن تفرض على البشر رأياً ملزماً لفقيه واحد وكأن «ولاية الفقيه» تحكمنا!

وبكل أسف فنجوم الدعاة ممن صنعتهم الفضائيات خلال الفترة الماضية يستغلون شهرتهم لفرض سطوتهم هم أيضاً على رقاب العباد، وقد رأينا الكثير من الفتاوى الشاذة التى تحرض على التحرش بالمرأة أو تضر بالاقتصاد أو تكفر المسيحيين.. وكأن هؤلاء يناصبون الدولة العداء.. أو ينازعونها فى سلطتها!.

ولهذا يؤكد الدكتور «الهلالى» أننا الآن نعيد بناء وصياغة الدولة؛ فالدولة لا تسير بالفتاوى، وإنما تسير بالقانون، وهذا ما يتم فى مجلس النواب، فالبرلمان يقر القوانين فى العلن، وليس فى الخفاء، فيجب إذن أن نضع أيدينا فى أيدى بعضنا، من أجل بناء الدولة بالقانون، وأن تكون «الفتاوى اختيارية». وفى مجال تطبيق الرشد الدينى يقدم أستاذ الفقه المقارن بعض الأمثلة لتوضح لنا كيف ينتقل الرشد الدينى من الفكر إلى الواقع، فمع انتشار فيروس كورونا «كوفيد 19 المستجد» -مثلاً- أُغلق الحرمان الشريفان «حضارياً» لأمن المصلين والمعتكفين والمعتمرين، بعد أن كان غلقهما وحشياً بالإرهاب والحروب. وتم التسامح فى عدم غسل موتى كورونا، وتكفينهم بالجلد العازل ودفنهم بنعوشهم وإمكان الصلاة عليهم بعد الدفن غيابياً.

فإذا كنا نريد بالفعل «دولة مدنية» ترعى مصالح الشعب بسيادة القانون، وميثاق القيم المشتركة، وتحترم تعهداتها الدولية.. فعلينا بتطبيق مشروع «الرشد الدينى».. فبغير ذلك يتم تكريس «الفاشية الدينية» التى ثار عليها الشعب فى 30 يونيو فى صور أخرى متجددة تجسدها مؤسسات وأشخاص يظن بعضهم أنه «ظل الله» على الأرض!.
نقلا عن الوطن