محمد حسين يونس
في بداية القرن العشرين كان أغلب المتعلمين مهتمين بالثقافة .. فالوسط كان إيجابيا مشجعا بحيث يجذب كل من يستطيع أن يفك الخط .. الجرائد و المجلات بعدة لغات ..و الأدب المترجم و المحلي يقدم لنا أسماء مبهرة مثل طه حسين و سلامة موسي و العقاد و المازني و بنت الشاطيء ..و امينة السعيد و سهير القلماوى.

وعلي الجانب الأخرمن البحر المتوسط كانت هناك معارك ضارية خاضها حوالي سبعين مليون مقاتل في مناطق النزاع (( اوستريا- الالزاز- اللورين- ترانتان)).. فيما عرف بالحرب العالمية الأولي .

فمع إفتتاح القرن كانت الارستقراطيات الاقطاعية في العالم تنزاح بنظامها الاقتصادى والاخلاقي المستند علي تحالف أصحاب الضيع ورجال الدين ، تاركة مكانها للراسمالية الشابة بشعابها الثلاث ..

الصناعية.. التي تستغل عمال شعوبها وشعوب المستعمرات بقسوة ..تشترى الخام رخيصا و تعيده لهم مصنعا مرتفع الثمن ..ملفوفا بحرير الحداثة ..و شعارات طوباوية مرتبطة بالقومية والاشتراكية وحقوق الانسان ..

و التجارية التي تولدت مع التبشيرية والاستعمار الكولوني المسلح ..يقوم بإحتلال وإستغلال الاراضي المستعمرة كمصدر للمواد الخام وسوق لترويج البضائع ...

و المالية التي تتمثل في بنوك اوروبية متنافسة بدأت تسيطر علي إقتصاد العالم من خلال القروض و فوائدها .. تدعمها قوات عسكرية سريعة التدخل..واليات سوق راسمالية مثل البورصة و القوانين المنظمة للتعاملات المالية مع سياسة تهتم بتمويل المشاريع التي تحتاج عمالة كثيفة في البلاد الأقل تطورا فتستغل العبيد والايادى العاملة الرخيصة في المستعمرات ومنها (بالطبع) زراعة القطن و الكاكاو والبن والقصب واعمال استخراج المواد الخام من المناجم وحفر القنوات المائية الحاكمة في مسارات وطرق تبادل البضائع مثل السويس وبنما .

بسبب التنافس القارى الاوروبي الاستعمارى الحاد علي (المجال الحيوى ) وتأمين الأسواق ومصادر الخامات عسكريا و تبشيريا ..خاض العالم حربا (عالمية ) غيرت موازين و علاقات عديدة (تركها القرن السابق معلقة ) وشكلت البدايات لعالم جديد شهد (أثناء و بعد المعارك) الثورة البلشفية في روسيا وظهور الولايات المتحدة الامريكية كقوة مؤثرة و نمو القوميات الفاشيستية الايطالية و النازية الهتلرية ..وبدء تجمع الصهيونية العالمية في فلسطين .

المعارك أخذت شكلاً جديدًا في أساليبها بعد تطويرتكنولوجيا الحرب بشكل كبيرمسببة رعبا ودمارا لشريحة واسعة من المدنيين كانت الحروب تخاض بعيدا عنهم لتصبح المدن المأهولة بالسكان للمرة الاولي ساحات قصف من بشائر الإنتاج المبكر للطائرات العسكرية.
تشكيل القوات وحركتها ومعاركها ليست موضوعنا ولكنها دارت بين تحالف بريطاني فرنسي روسي ثم في المرحلة النهائية إنضمت الولايات المتحدة الامريكية للحلفاء ...في مواجهه مع المانيا ،النمسا المجر، إيطاليا

مع نهاية الحرب عقد مؤتمر صلح في فرساى ((28 يونيو 1919 )) فرض علي المانيا و النمسا وبلغاريا و المجر معاهدات و تعويضات مجحفة مع إقتطاع أجزاء من اراضيها و تحديد عدد افراد جيوشها وتسليحهم .

وقد ترتب علي هذه المعاهدات تغييرات واضحة على خريطة أوروبا، بظهور دول جديدة و اتساع نفوذ الدول المنتصرة على حساب الدول المنهزمة .. مع إنشاء عصبة الامم كأول منظمة عالمية للحفاظ على السلم في العالم.

هكذا كان العالم عندما بدأ تحالف بين اصحاب الصناعة التي نمت خلال الحرب ورجال الاعمال المصريين وصغار ملاك الاراضي مع فئات من الطبقة الوسطي المصرية يتململ أصحابها ويطالبون بدور سياسي و إقتصادى و اخلاقي واضح في المجتمع ..

الدور كما قدمة مفكرو هذا الزمن ..يسمح بالتنافس الليبرالي و يؤكد تساوى الجميع من ناحية الجندر (المرأة مع الرجل ) و الدين (المسيحي و اليهودى مع المسلم ) مع إزاحة العقبات من أمام إمكانية إمتلاك المصرى للثروة (بالحد من سيطرة كبارملاك الارض وتمصير الصناعات والخدمات التي يسيطر عليها الاجانب ) ثم إتاحة التعليم المدني (عكس الديني ) لكل من كانت لدية القدرة و القابلية ، مع الانفتاح علي حضارة الغرب وثقافته و أساليبه في الحياة.

و هكذا خرج الرجال يحملون الهلال مع الصليب و النساء خلعن اليشمك التركي و الطلاب يهتفون الاستقلال التام او الموت الزؤام مطالبين بذهاب وفد منهم الي مؤتمر الصلح في فرساي ثم الي عصبة الامم لعرض قضيتهم الخاصة بجلاء الانجليز .

و بدأت ثورة 1919 كسلسلة من الاحتجاجات الشعبية على السياسة البريطانية في مصر عقب إنتهاء الحرب العالمية الاولي ثم تطورت بتكوين الوفد المصرى من القاضي سعد زغلول ومجموعة من السياسيين المصريين من أبناء الطبقة الوسطي ورجال الاعمال ، لمفاوضة مندوبي الاحتلال البريطاني في إمكانية إلغاء الحماية البريطانية والاحكام العرفية (المفروضة أثناء الحرب ) واعادة العمل بالدستور الملغي .

بمرور الوقت إرتفع نبض الشارع ليصبح له مطالب إجتماعية وإقتصادية ثم وفي إطار الموجه الوطنية المتصاعدة تصاعدت أيضا نغمة الحد من طغيان المصالح الأجنبية على الاقتصاد القومي.

((بدأت أحداث الثورة في صباح يوم الأحد 9 مارس 1919، بقيام الطلبة بمظاهرات واحتجاجات في أرجاء القاهرة و الاسكندرية والمدن الإقليمية،تصدت القوات البريطانية للمتظاهرين بإطلاق الرصاص عليهم، مما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى. استمرت أحداث الثورة إلى شهر أغسطس وتجددت في أكتوبر ونوفمبر، لكن وقائعها السياسية لم تنقطع واستمرت إلى عام 1922، وبدأت نتائجها تتبلور عام 1923 بإعلان الدستور والبرلمان)).

وفي الحق أختلف مع كتب التاريخ التي إستعرت منها المقطع السابق فالثورة التي بدأت (برجال الاعمال و صغارملاك الاراضي و بعض من أبناء الطبقة الوسطي) كقياده للشارع المصرى عام 1919 في مواجهه مع (الملك والانجليز و كبار ملاك الاراضي) إستمرت طول القرن الماضي ولم تكتمل (حتي يومنا هذا )..بسبب إنهيار التحالف عند تضارب المصالح ..وإقصاء ملاك الاراضي ورجال الاعمال ثم إنفراد الطبقة الوسطي و ممثليها من الضباط بعد يوليو 52..بالقيادة.

الصراع الذى إستمر بين(الصفوة ) علي كراسي السلطة والنفوذ و غياب إستراتيجية واضحة للتحالف تحدد ألاهداف وتفرق بين فسطاط العدو وفسطاط الانصارسحب الشعب الي دوامة مستمرة من إخفاق لاخر والي سيادة سياسات عشوائية القرار.. الذى يسير علي منهج التجربة و الخطأ.. لقد هدنا الإستعمار .. و فرقنا .. و جعل منا أمة عاجزة عن تحديد الأهداف و السعي لتحقيقها .فلم نكمل الثورة . .

في المرحلة الاولي لثورة 1919 كان علي الابناء من الثائرين..خلع ثوب البداوة الذى إعتادعليه المصرى لقرون .. وكان الخلاف هل نتمسك بالعمة الازهرية ، ام الطربوش التركي أم القبعة الاوروبية ام نسير حاسرى الرؤوس .. لقد أخذ زى الرجال جدلا طويلا إنتهي بخلع سعد زغلول الجبة و القفطان و إرتداء البدلة و الطربوش ثم إستمرت الموجة حتي أصبح كل من يرتدى الملابس الافرنجية من أنصار التقدم و اصبح زى الفقهاء ذو دلالات غير مستحبة ..

نفس الامر طال النساء .. تخلع اليشمك والبرقع وتهجر الملاية اللف و المنديل ابو قوية لترتدى زى عصرى قادم موضته من باريس وروما او شبيه له ام تحتفظ بهوية إشتهرت بها المرأة المصرية وخلدها الفنانون المصريون في سلسلة من اعمال النحت و التصوير الزيتي لازلنا نحتفظ بها في متاحف النهضة الفنية .

لم يكن الزى فقط مجال الخلاف و التغيير بل السكن و الطعام و اساليب الاكل هل نجلس علي الطبلية ونستخدم لمبة الجاز ام حول منضدة الطعام (السفرة ) فوق الكراسي وتحت قناديل الكهرباء .

كلما نظرت خلفي أجد أن التطور كان مستمرا يوما بعد يوم فيتغير المجتمع و مدارسه وجامعاته و ملابسه و اعماله وشغل وقت الفراغ وموسيقاه واغانية وأسواقه ومسرحياته وافلامة ،تطلب هذا جهدا جهيدا من عظماء ومناضلين في كل مجال نستطيع أن نذكر البعض منهم .

طلعت حرب كان الاب لاقتصاد بنكي مصرى معاصر و ما تبعه من شركات ومؤسسات لازلنا ننعم ببعض من إنتاجها .. تمصير الاقتصاد الحلم الذى لم تغفل عنه الطبقة المتوسطة قابله بعد ذلك نكسات وإنكسارات عندما نتأملها لابد أن نحزن بعد أن ضاع جهد رواد صناعات الغزل و النسج و السكر والزيوت و العطور و الملابس و تحولت مصر الي سوق يستورد كل إحتياجاته بما في ذلك رغيف العيش

لا نستطيع أن ننسي طه حسين كرائد مفكر يتبني المنهج الليبرالي و فلسفات (كانت) و(فولتير) و يكتب القصة و الرواية الحديثة و يخترق دوائر فكرية محظورة و يطالب بثورة في التعليم أنعم بها علي جيلي ..و اليوم عندما ننظر الي ملايين الطالبات و الطلاب لا بد أن نمتن لطه حسين أما عندما نرى مستواهم العلمي فسنحزن علي ذلك الزمن الذى إحتل فية ضابط محدود الذكاء كرسي الاستاذ و المعلم .

لا نستطيع أن ننسي محمود مختار المثال و الاستاذ الذى قاد مدرسة الفنون الي نهج مصرى كان مثار إعجاب العالم بانتاجه الذى لايقل عي معاصريه من عباقرة اوروبا .. ثم نحزن عندما نرى الاوباش في النهاية يغطون تماثيل مختار علي اساس انها أصنامو يحرمون النحت و التصوير و الفنون عموما ..

التذكر و الحزن سيطول الملحن والمغني عبد الوهاب الذى خرج بالموسيقي الي المعاصرة تابعا سيد درويش و متقدما عن ابوبكر خيرت .. وسيطول ام كلثوم التي جعلت من أغانيها منهجا للجدية و التطور و خرجت من اسر التخت العثماني الى الاوركسترا الغربي .. وسيطول توجو مزراحي الذى قدم سينما مصرية نفخر بها و نحزن علي ما وصلت اليه بعد قرن .

إن رواد الانتقال من المجتمع المغيب الي نور القرن العشرين لا يمكن حصر جهدهم سلامة موسي و مصطفي النحاس و روزاليوسف و إخوان تكلا و يوسف وهبي ومهندسين و اطباء و صيادلة و معلمين و سيدات رائعات كان لهم جميعاأدوار يومية مع مطلع القرن الماضي ..خرجت بقافلة الانتلجنسيا المصرية من زمن الغيبوبة الي الوعي المعاصر .

صعود الطبقة الوسطي ثم إضمحلالها ..إستمر بعد ذلك بارتام مختلفة حتي وصلنا الي زمن الحرب العالمية الثانية فتتغير القياسات و الموازين في جمع أنحاء العالم و منها مصر و طبقتها الوسطي(( نكمل حديثنا باكر )).

#دفتر_إنكسار_أهلك_يامصر