أتطفل علي اسم واحدة من أشهر روايات الكاتب الأمريكي‮ "‬أرنست هيمنجواي‮" ‬مستعيرا عنوانها‮ "‬لمن تدق الاجراس‮" ‬واسمحوا لي‮ ‬أن أقدم اسبابي‮ ‬لهذه الاستعارة،‮ ‬كتب هيمنجواي‮ ‬هذه الرواية عن تجربته التي‮ ‬شارك خلالها في‮ ‬الحرب الأهلية الأسبانية التي‮ ‬نشبت في‮ ‬النصف الأول من القرن الماضي‮ ‬بين الجمهوريين والفاشيست،‮ ‬شهد الكاتب هذه الحرب كمراسل حربي‮ ‬ولكنه شارك في‮ ‬احداثها عن قرب وعايش مأساة انقسام الوطن الواحد الي فريقين‮ ‬يتبادلان العداء بالكراهية وسفك الدماء وكانت الحرب بفصولها المرعبة مادة للرواية تعد علامة بارزة في‮ ‬تاريخ الادب العالمي‮ ‬ويشير عنوانها بوضوح الي ما تفعله آلة الحرب حين تحصد بلا تمييز أرواح أبناء الوطن الواحد فلا تعرف حين تسمع نواقيس الكنائس تدق معلنة عن وفاة ضحايا القتال أكانوا من هذا الفريق أو ذاك،‮ ‬ولا معني هنا للسؤال عن هوية أي‮ ‬منهما فالفجيعة واحدة والموت‮ ‬يسوي‮ ‬بين الجميع‮.‬

وأخلص من هذا المعني إلي ما‮ ‬يساورني‮ ‬ويساور الملايين من مواطني‮ ‬هذا البلد من مخاوف تصل الي حد الإحساس الجمعي‮ ‬بنُذر الأخطار الجسيمة التي‮ ‬تطل علينا ماثلة في‮ ‬المستقبل القريب وأنا هنا لا اتحدث عن خطر وباء كانفلونزا الخنازير او‮ ‬غيرها من الأمراض التي‮ ‬اقتحمت حياة المصريين بالفعل كما لا اتحدث عن اخطار مازال كامنة في‮ ‬المستقبل البعيد مثل تراجع العملية التعليمية وتدهورها ومشكلة تردي‮ ‬البنية الاساسية او التحتية‮ ‬Infra-structure‮ ‬وغموض ما ستؤول اليه الازمات الاقتصادية التي‮ ‬تأخذ بخناق المواطن المصري‮ ‬في‮ ‬هذه الآونة الغريبة والمحيرة،‮ ‬وإنما أتحدث عن خطر محدد ومطروح علي الساحة ويدور حول مستقبل النظام السياسي‮ ‬في‮ ‬مصر،‮ ‬وإذا كنت أعني‮ ‬بكلمة الخطر أن المسألة تتعدي نطاق الخلافات الناشبة بين وجهات النظر المختلفة والمتعارضة بين المشاركين في‮ ‬الحوار الدائر حول انتخابات الرئاسة القادمة والانتخابات التي‮ ‬تسبقها بعام لاختيار مجلس شعب جديد فإن الامور تتجاوز مساحة المعارك الكلامية والمساجلات الدائرة بين كوادر الحزب الحاكم‮ "‬الحزب الوطني‮ ‬الديمقراطي‮" ‬وبين قوي المعارضة وتقود البلاد تدريجيا الي منطقة الازمة وقد‮ ‬يبدو في‮ ‬النظرة العابرة السطحية أن المسألة لن تختلف كثيراً‮ ‬عما حدث في‮ ‬عامي‮ "‬2004‮ ‬و2005‮" ‬حين نشأت وطفت علي السطح تلك الحركات الجماهيرية‮ "‬حركة كفاية وغيرها‮" ‬وكونت ما سُمي‮ ‬بالحراك السياسي‮ ‬الذي‮ ‬ادي الي رد فعل حاول امتصاص الحماس وتفريغ‮ ‬قوة الضغط من قبل النظام السياسي‮ ‬الحاكم مقدماً‮ ‬شبه تنازلات شكلية تمثلت في‮ ‬تعديلات اعلنها الرئيس حسني‮ ‬مبارك استطاعت بالفعل أن تسحب البساط من تحت اقدام قوي الحراك الضاغطة واكتشف الجميع بعد قليل ان التعديلات التي‮ ‬جرت علي مواد الدستور الحالي‮ ‬لم تؤد إلي تغيير مؤثر في‮ ‬ازمة الجمود السياسي‮ ‬بل ربما أفقدت المبادرة الرئاسية قيمتها بما أدخل علي المادة‮ ‬76‮ ‬من تعديل هو الاعجب والاغرب بين دساتير العالم قديما وحديثا والخطر كما قلت لن‮ ‬ينجم عن آراء تقال او مؤتمرات تنعقد وتصدر عنها البيانات والقرارات التي‮ ‬لن‮ ‬يكون لها صدي‮ ‬حقيقي‮ ‬في‮ ‬جموع الناس التي‮ ‬تتوتر افكارها واتجاهاتها كل‮ ‬يوم تحت تأثير المعاناة اليومية في‮ ‬كافة اوجه التعامل مع المشاكل والاوجاع‮.. ‬

اقول ايضا ان انعدام صدي تلك القرارات والمحاورات التي‮ ‬يجري‮ ‬حالياً‮ ‬الاعداد لها‮ ‬يرجع اساسا الي انعدام القنوات الموصلة وانقطاع التيار في‮ ‬اسلاك الوحدة المفترضة بين كتلة الشعب الصامتة وبين شرائح المثقفين والمشتغلين بالعمل السياسي‮ ‬كنتيجة طبيعية لسنوات طويلةمن احتكار العمل السياسي‮ ‬وتركيزه في‮ ‬يد حزب واحد وغياب تداول الحكم بالاضافة الي انعدام القاعدة الجماهيرية لأحزاب كثيرة علي الساحة نشأت بقرارات سلطوية أو احكام قضائية ولم تولد ولادة طبيعية من خلال حركة نضال شعبي‮ ‬او تجمع جماهيري‮ ‬حول فكرة او مبدأ او قضية‮.. ‬وفي‮ ‬رأيي‮ ‬ان هذا الوضع لم‮ ‬يسفر فقط عن حالة فراغ‮ ‬مخيفة في‮ ‬مجال العمل السياسي‮ ‬بمصر ولكنه‮ ‬يمهد الارض لحدوث حالة الفوضي الشاملة وبالتالي‮ ‬يخيم مناخ مشحون بنُذُر الارتطام والتصادم الذي‮ ‬يؤدي‮ ‬بدوره الي حتمية الانفجار تبدو النظرة قاتمة‮ ‬يسودها التشاؤم او المبالغة في‮ ‬تجسيد الخطر ولكن الأمر في‮ ‬الواقع‮ ‬يحتم الانتباه وتقدير الأسوأ لكي‮ ‬يتسني ان نفكر بهدوء وسرعة معاً‮ ‬في‮ ‬كيفية مواجهة الخطر المحدق بنا وأول من‮ ‬يجب عليه الأخذ بالحذر والتفكير الجاد المتجرد من انانية التربع في‮ ‬السلطة والتشبث بالكراسي‮ ‬هو النظام الحاكم بحكومته وحزبه وكوادره الاعلامية لأنه في‮ ‬الحقيقة‮ ‬يستطيع اذا فعل وانتبه إلي حقيقة ما تحمله الشهور القادمة من عوامل التفجير ان‮ ‬يسبقه ويحاصر منابعه ليمكنه فعلاً‮ ‬أن‮ ‬يؤدي‮ ‬خدمة جليلة لبلده مكفراً‮ ‬عن الكثير من الآثام التي‮ ‬ارتكبها في‮ ‬حقه وسببت في‮ ‬الواقع كل ما تعانيه مصر خلال النصف قرن الأخير أقول هذا ولا‮ ‬يخالجني‮ ‬أمل حقيقي‮ ‬في‮ ‬حدوثه لسوابق كثيرة وفرص عديدة لاحت وضاعت كلها مخلفة الكثير من الحسرة وخيبة الأمل‮.‬ والمشكلة هنا ان مصر لن تحتمل ضياع فرصة اخري فنحن في‮ ‬المربع الأخير‮: ‬تنتظرنا أخطار ليس أقلها الوقوع في‮ ‬براثن الفوضي الهدامة‮ ‬غير الخلاقة وامكانية ان تنتهي‮ ‬هذه الفوضي بما حرص المصريون عليه منذ وحد مينا‮ - ‬نارمر‮ - ‬الوجهين وبدأ تاريخ مصر الموحدة عبر القرون وليست مخططات‮ ‬يجري‮ ‬التمهيد لها ببعيدة عن الحسبان وليس الحديث عن‮ "‬بلقنة المنطقة‮" ‬ببعيد عن مصر لأنه‮ ‬يبدو كسيناريو محتمل ضمن خطة الهيمنة الخارجية علي المنطقة ومقدراتها‮.‬ لذا ندعو الي دق الاجراس‮.. ‬ليس حداداً‮ ‬علي ضحايا حرب اهلية لم تحدث ولن تحدث باذن الله ولكنها اجراس الخطر لتقرع مستنهضة همم المصريين جميعاً‮ ‬وليس فقط رجال السياسة والفكر منهم لكي‮ ‬يستعد الجميع لدرء الخطر دون انتظار وقوعه‮.. ‬والي من‮ ‬يمسكون بالمقود ويحملون مفاتيح المبادرة‮.. ‬هؤلاء الذين‮ ‬يتربعون علي مقاعد السلطة نقول‮: ‬ليست المعارضة وقوي الحراك السياسي‮ ‬هي من تناديكم هذه المرة بل ضمائركم الوطنية وحدها مجردة من أي‮ ‬اعتبار‮.. ‬فالله‮.. ‬الله في‮ ‬مصر‮ ‬يا معشر المصريين‮.‬

نقلا عن الوفد