لا يعرف قدر ذوى الهيئات سوى ذوى الهيئات الذين أمرهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، بإقالة عثرات البعض حتى لا تنطفئ مصابيحهم، فيتيه المجتمع فى ظلمات الجهل ويتخبط فى غيابات الغى؛ فأخرج أبوداود، والنسائى بإسناد صحيح عن عائشة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا الحدود» وفى رواية لابن حبان فى صحيحه عنها بلفظ: «أقيلوا ذوى الهيئات زلاتهم».

وليست العثرة، إن كانت عثرة، أو الزلة، إن كانت زلة، قبحاً من كل وجه، فحسب فضلها إثبات كمال الخالق ونقص المخلوق؛ فقد أخرج أحمد والترمذى وابن ماجه بسند حسن عن أنس بن مالك أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون». ومن فضل العثرة أيضاً ندرتها، فصاحبها لا يقع فيها إلا قليلاً كما قال الشاعر العباسى على بن الجهم: «كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه»، فهو أفضل من غيره الذى لا يخرج عن أحد شخصين، شخص خامل لا يعرف طريق الاجتهاد، وإنما ينساق وراء من يغره دون وعى، فلا يوصف عمله بالخطأ أو الصواب، وإنما يوصف عمله بالتقليد، وقد نهانا الرسول، صلى الله عليه وسلم، عنه فيما أخرجه الترمذى بسند حسن غريب عن حذيفة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا»، وشخص كثير الأخطاء لا يكاد يعرف التوفيق لعدم دربته أو تأهله، وهذا شديد الخطر؛ لما أخرجه الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

ووصف الشىء بالعثرة أو بالزلة لا يكون فى الأمور العملية أو المادية إلا عند مخالفة محظور من الصغائر، وأما فى الأمور الفكرية أو الاجتهادية فلا يملك مخلوق وصفها فى الدنيا بالخطأ إلا صاحبها الذى يملك وحده التراجع عن أفكاره أو اجتهاداته، ويصفها بالخطأ فى حق نفسه، فإن لم يصفها صاحبها بالخطأ، فهى كغيرها من الأفكار والاجتهادات البشرية يصدق عليها ما قاله الإمام الشافعى عن اجتهاد نفسه: «صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب»، ولا يملك مخلوق بعد انقطاع الوحى أن يصف فكر غيره أو اجتهاده بالخطأ القاطع أو بالصواب الجازم، فهذا مما جعله الله غيباً فى الدنيا حتى يتواضع البشر تجاه بعضهم، وسيفاجأ الجميع بنتيجة اجتهادهم يوم القيامة دون أحدهم من أجر الاجتهاد ولو اتضح خطوة، فقد أخرج الشيخان عن عمرو بن العاص أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر».

ولعل هذا الحكم التكريمى للإنسان يمنع أحد المجتهدين أن يصف اجتهاد غيره المخالف له بالزلة أو بالعثرة وإلا كانت مصادرة على الآخرين وأنانية بمنح النفس حقاً ليس لغيره، كما يترتب على هذا الحكم التكريمى أن نفهم النهى عن اتباع زلات العلماء فيما أخرجه البيهقى فى «المدخل» والديلمى فى «الفردوس»، وابن عدى فى «الكامل» بسند ضعيف عن عمرو بن عوف المزنى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته»، على تلك الاجتهادات التى رجع أصحابها عنها وأعلنوا تبرؤهم منها بعد تصديرهم لها، وليس تلك الاجتهادات التى يراها المخالفون، وإلا لصح وصف كل اجتهاد فى المسائل الخلافية بأنه زلة عالم، فما من اجتهاد إلا وهو فى نظر المخالفين له «خطأ يحتمل الصواب»، كما أنه فى نظر أصحابه «صواب يحتمل الخطأ».

وإقالة عثرة العالم أو زلته لا تعنى استحلالها، وإنما تعنى التماس العذر له؛ فقد أخرج البيهقى فى «شعب الإيمان» عن جعفر بن محمد، ومثله عن حمدون القصار، أنه قال: «إذا بلغك من أخيك الشىء تنكره فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته وإلا فقل: لعل له عذراً لا أعرفه».

والمتابع للدكتور خالد منتصر، أستاذ الجلدية والتناسلية فى برامجه الطبية والثقافية وفى كتاباته الصحفية والفكرية يقف على عبقرية فذة تكيد الحاسد وتغيظ الحاقد وتربط قلوب المؤمنين وتثبت أقدامهم على الحق وتأخذ بأيديهم إلى تحمل المسئولية استقلالاً من غير تغرير الكهنة أو الأوصياء، كما قال سبحانه: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (الإسراء: 13)، ولعل حاسديه والحاقدين عليه قارنوا بين قلة بضاعتهم فى الثقافة، وبين سعة أفقه فى توظيف الثقافة العالمية لبناء الشخصية المصرية، وقارنوا بين جفاف قلمهم الذى لا يكتب إلا نقلاً كل حين وبين مداد قلمه الذى يتحف به عطشى المعرفة يومياً، وقارنوا بين صعوبة عبارتهم المجهدة للقارئ أن يفهمها وبين بساطة عبارته وسهولتها التى تأخذ بالقارئ إلى نهاية المقال، فيقول هل من مزيد. إنه الكاتب الموسوعى بعمق المتخصصين فيما يكتب حتى إنه صار أحد أصحاب المصطلحات الثقافية التى يستحق ملكيتها الفكرية، وغالب ظنى أنه يمتلك فى ذاكرته ومكتبته أرشيفاً علمياً وتاريخياً مرتباً يستدعى منه ما يخدم قضيته بما يقنع ذوى الحجى؛ خاصة فى مواجهة تجار الدين الذين يستخدمونه لتسويق أطماعهم. فلا غرابة من هذا الهجوم، الذى يبدو ممنهجاً لتشويه صورة هذا المفكر العبقرى والكاتب الفذ والطبيب الأمين ليس لظلم ارتكبه فى حق أحد، أو عدوان مارسه على حرمة أحد، وإنما بتهمة إساءته للدين وهو يحميه من وجهة نظره من وضعية التجارب العلمية المتغيرة. إنه يرى قدسية الدين، وقيامه على الإيمان بالغيب، ولا يجوز لمسلم أن يرهن إيمانه بالله على أمر مادى حتى ولو كانت ظواهر النصوص القرآنية والنبوية تفيد ذلك من وجه، فلعل الوجه الآخر الذى لا نعرفه من التفسير هو الصواب، وعلى سبيل المثال فإن قوله تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (غافر: 60)، يفيد حتمية الإجابة لأهل الدعاء، وقد لا يحدث فى الواقع، فإن رهنَّا الإيمان بهذا الظاهر، فإن كثيراً من المسلمين سيفتنون، ولذلك كانت الحكمة هى الدعوة للإيمان بمثل هذه الآية الكريمة والتخلى عن التفسير المادى الظاهرى الذى قد يتخلف فيحدث الفتنة. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًاً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا» (نوح: 10 -12)، وكثيراً ما يستغفر الناس فى الجدب فلا يمطرون، فعلينا ألا نعتمد كثيراً على التفسير المادى للأمور الدينية، وحسبنا أن نقول إنها تعبدية.

ومن هذا الباب كان تناول الدكتور خالد منتصر لماء زمزم فى محاضرته، إنه يقر ببركتها دينياً؛ لما أخرجه مسلم عن أبى ذر أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال عن ماء زمزم: «إنها مباركة إنها طعام طعم»، وزاد الطبرانى فى رواية: «وشفاء سقم». وأخرج ابن ماجه بسند فيه مقال عن جابر بن عبدالله أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «ماء زمزم لما شُرب له». والإقرار ببركتها دينياً لا يمنع رفض تفسيرها كيميائياً؛ لأن أبحاث الكيميائيين والفيزيائيين دائمة التغيير، ولا تبقى على حال كلما امتن الله على البشرية بمزيد علم حتى قيام الساعة، فعلى المسلم عند تناوله لماء زمزم، وهو يعتقد بركتها الإيمانية ألا ينتظر نتيجة شربها فى شفاء كبده أو كليته أو غيرهما وإن كان ذلك ليس على الله بعزيز، ولكن إيهام المسلم بأن العلم الحديث أثبت صلاحيتها بديلاً عن الدواء أو نحو ذلك فهذا هو التغرير الذى يتاجر به المبالغون فيما اصطلحوا عليه من الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، فماذا لو تغير هذا العلم واكتشف أحفادنا سطحية علمنا وعمق علمهم. وقد يقال إن إظهار الحكمة العلمية المتاحة من التشريع الدينى يساعد على تثبيت البعض على أحكام الدين، كبيان الضرر العلمى من تناول ما ورد تحريمه من أكل الميتة ولحم الخنزير، وعلى الأجيال المقبلة أن يطوروا تلك الحكمة بمعطيات علمهم لخدمة معاصريهم كما نخدم عصرنا اليوم. ويجاب عن ذلك بأن تحريم تناول الميتة ولحم الخنزير يسقط عند الضرورة، كما قال سبحانه: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» (الأنعام: 119)، فهل يدفعنا الدين إلى أكل ما فيه ضرر وهلاك عند الضرورة، ثم إن الدين الخاتم هو الذى حرّم لحم الخنزير أما أهل الملل السماوية السابقة فليس عليهم محرماً، كما قال سبحانه: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ» (الأنعام: 146)، وسائر الطعام ومنه الخنزير حلال لهم كما قال تعالى: «كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ» (آل عمران: 93)، فهل كان الخنزير غير مضر إلى بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم، فصار لحمه ضاراً بالإنسان، أم أن حكم التحريم لحكمة عبادية أو دينية غيبية لا ترهن بالتفسير الكيميائى حتى يكون إيماننا خالصاً ومجرداً عن التعليل المادى كإيمان السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كما قال تعالى: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (النور:51).

إن أفضل ما يقال للدكتور خالد منتصر هو ما قاله الوزير جعفر البرمكى فى عهد هارون الرشيد لأحد الوجهاء: «قد أغناك الله بالعذر منا عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك»، وأزيد فأقول للنخبة والعامة إن الأيام دول والكيد المقبل على آخر منكم، فلا تتسرعوا بالحكم على الناس حسب العنوان الذى يساق إليكم وقد ذقتم كثيراً مرارة تحريف أقوالكم، فتعلموا الدرس. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
نقلا عن الوطن