كتبت - أماني موسى

يوافق اليوم ذكرى رحيل القمص بولس باسيلي، واحدًا من أهم أساتذة الكلية الإكليركية الذين عملوا بالتدريس بها خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهو أول كاهن وبرلماني.. نورد بالسطور المقبلة ومضات من حياته الزاخرة.
 
ميلاده بأسيوط لأسرة تقية
وُلد باسم فؤاد باسيلي في 17 مايو عام 1916 في منفلوط محافظة أسيوط، وتوفي في القاهرة في 19 يوليو عام 2010 عن عمر يناهز 94 عامًا.
 
ظهور مواهبه في الوعظ والكتابة والصحافة والخدمة المجتمعية
كان فؤاد هو المولود السادس بين شقيقين وأربعة أخوات؛ وحين بلغ سن الشباب نزحت الأسرة من منفلوط إلي القاهرة، في أول أيام شبابه وهناك ظهرت مواهبه في الوعظ والكتابة والصحافة والرعاية الاجتماعية والنشاط السياسي. 
 
رسامته كاهنًا على يد البابا كيرلس السادس
في 14 أكتوبر 1966 رُسم كاهنًا على مثلث الرحمات البابا كيرلس السادس علي كنيسة مارجرجس الجيوشي بشبرا؛ بأسم "القس بولس باسيلي، وانتخب عضوًا في مجلس الشعب (البرلمان) المصري عام 1971 ليصبح أول كاهن يدخل البرلمان المصري، وخدم في هذا المنصب خمسة اعوام.
 
أول كاهن يدخل البرلمان المصري.. طالب بإلغاء الخط الهمايوني وتعيين نسبة من المكفوفين
إذ كان هو أول كاهن قبطي يفوز بعضوية مجلس الشعب، في برلمان عام 1971، وفي أول جلسة له بالمجلس طالب بتعيين نسبة 2 % من المكفوفين في الشركات، كما طالب بإلغاء الخط الهمايوني المجحف لحقوق الأقباط في بناء الكنائس، وسجلت له مضابط مجلس الشعب العديد والعديد من المواقف الوطنية المشرفة في أحداث الخانكة وحرب أكتوبر.
 
كما يشار إلى أنه أثناء حرب الاستنزاف أذاع نداء إلى قواتنا المسلحة على خط النار بتكليف خاص من قيادة الجيش العليا، ونظرًا لإسهاماته الوطنية المتعددة منحه رئيس الجمهورية نوط الامتياز من الطبقة الأولى، وفي عام 1981 كان ضمن حملة المعتقلين في عهد السادات.
 
مدرسًا بالكلية الإكليريكية
،في القاهرة تعرف علي الأرشيدياكون القديس حبيب جرجس وألتحق بالمدرسة الإكليركية، وتخرج فيها بتقدير امتياز عام 1938، ونظرًا لمواهبه التي كانت جلية في الوعظ والخطابة قام الأرشيدياكون حبيب جرجس بتعيينه مدرسًا لعلم الوعظ في الكلية الإكليركية في نفس سنة تخرجه، وأستمر في العمل بها حتي عام 1976.
 
زواجه وأبناءه
تزوج في عام 1943 من السيدة "تهاني سعد سليمان" توفيت مايو 2006 و لهما ثلاثة أولاد: فرانسوا، سمير و فريد و 7 أحفاد: جيمس، توماس، جون، ديفيد، ماري غريس، فادي وساندي.
 
وفي عام 1945 عين أستاذ لعلم الوعظ في مدرسة الرهبان اللاهوتية بحلوان، وكلف بخدمة الوعظ في كنائس مارجرجس الجيوشي وكنيسة أبو سيفين بشبرا.
 
إصدار مجلة مارجرجس وإيقافها على يد السادات
تميز القمص بولس باسيلي بحصافة لسانه في الوعظ وكذا قلمه، فقام بإصدار مجلة مارجرجس في عام 1948، وأستمرت تصدر حتي توقفت بناء علي قرار من الرئيس الراحل أنور السادات في عام 1981 . 
 
كبار الكتاب يكتبون بالمجلة
وكان يكتب بهذه المجلة مجموعة من كبار الكتاب مثل الكاتب الكبير الأستاذ سلامة موسي، والكاتب الكبير الأستاذ وديع فلسطين ؛ والأستاذ مسعد صادق؛ والأستاذ طلعت يونان، كما شارك بالكتابة في المجلة مجموعة من أساتذة الجامعة والإكليركيين مثل :- دكتور عزيز سوريال عطية ؛والدكتور سامي جبرة ؛والدكتور مراد كامل؛ ودكتور زاهر رياض ؛ والدكتور باهور لبيب ؛ والأستاذ إيريس حبيب المصري وآخرين.
 
أصدر وألف عدة كتب
أثرى القمص بولس باسيلي المكتبة القبطية بالعديد والعديد من الكتب القيمة، كان أولهم كتاب "حياة موسي" الذي صدر عام 1939 أي عقب مرور عام واحد من تخرجه، وكتب له المقدمة الأرشيدياكون حبيب جرجس بالاشتراك مع حاييم ناحوم الحاخام الأكبر ورئيس الطائفة الإسرائيلية، ولقد قال حبيب جرجس عن هذا الكتاب "ده مش كتاب عادي.. دي رسالة ماجستير يا فؤاد وعقبال الدكتوراة". 
 
ثم توالت مؤلفاته بعد ذلك نذكر منها "الطفل النموذجي" و"المرأة النموذجية" و"الشاب النموذجي" و" الزواج النموذجي " وسلسلة "المواعظ النموذجية " وكتاب " الأقباط وطنية وتاريخ " و"ذكرياتي في نصف قرن " و"رحلاتي في نصف قرن " .... الخ .
 
ولقد أحب فؤاد باسيلي خدمة المكفوفين، ولهذا الحب قصة يرويها في كتابه "ذكرياتي في نصف قرن" إذ يقول أنه شاهد وهو صبي عمره حوالي 11 عامًا، شيخًا كفيفًا يصطدم بعامود النور وهو سائر مما أدي إلي إصابته وسقوطه مضرجًا في دمائه ؛ فتأثر جدًا من هذا المنظر، ومن هنا كان حرصه علي الالتصاق بالعرفان (وهم مكفوفي البصر) في المدرسة الاكليركية.
 
تأسيس جمعية الكرمة لخدمة المكفوفين
وأسس جمعية الكرمة في مارس 1953، وأخذت تكبر وتنمو حتي وصلت في وقت من الأوقات إلي 14 فرعًا.
 
اعتقاله
في الثالث من سبتمبر عام 1981م، أمر الرئيس الراحل محمد أنور السادات باعتقال ما يزيد عن 3 آلاف من رموز مصر السياسية والدينية والثقافية، وقد كان القمص "بولس باسيلي" ضمن المتحفظين عليهم، من رموز وقادة الكنيسة القبطية في مصر وأفرج عنه مع بداية عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.
 
يقول عن ليلة اعتقاله، في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل وكنت وقتها في مصيف أبو قير، دقّ على بابي زائر الفجر، فقمت من نومي وفتحت الباب فإذا بي أمام جيش عرمرم  أي "كثير"، ضباط وعساكر ومخبرين ورجال مباحث، وعلى كل درجة سلم في منزلي جندي شاكي السلاح! 
 
ويضيف: ما أن وصلت السجن حتى دخلت غرفة المأمور، وهناك خلعوا جوربى من حذائي، فظننت أنهم سيمدوني علقة على رجلي، ولكنهم قصدوا مجرد التفتيش لئلا أكون قد أخفيت مطواة! 
 
ويستطرد القمص بولس باسيلي في مذكراته "في الساعة العاشرة بدأنا مع العسكر رحلتنا فقلت إلى أين يا جماعة؟ ولكن السؤال بلا جواب، ودخلنا مشارف القاهرة تتقدمني سيارة "بوليس النجدة" وورائي سيارة أمن مركزي، وكأني الملك فاروق في زمانه لا تنقصني سوى المتوسكلات والهتافات! 
 
وكل قليل اسأل رفقائي العسكر "على فين يا جماعة؟! ولا جواب! وأخيرًا قال لي أحدهم بصوت هامس "ياعم ده مش انت بس.. ده ودينا كتير زيك امبارح والنهاردة" وأشار إلى لحيته، ففهمت أن كثيرين من ذوي اللحى الكهنة سبقوني، وعندما وصلنا "المرج" لمحت لافتة كبيرة على الباب: سجن المرج. 
 
عند باب السجن عند الباب لمحني رجل عملاق فابتسم ابتسامة شماتة وقال لي في صوته الاجش: "أهلا.. هو أنت شرفت؟" ووضع ذراعه القوي يتأبط ذراعي الضعيف وتوجه بي نحو غرفة "المأمور"، وهناك فتشني ولأول مرة ادخل السجن وافهم التفتيش. 
 
معاملة طيبة 
وبالمناسبة فلا ننسى أن نسجل كلمة شكر وإشادة بمعاملة العميد محمود الجميل مأمور السجن فقد كان لطيفًا معنا يحس إحساسنا ويتفهم ظروفنا وموقفنا، وقد اكتشفنا أخيرًا أن السيدة حرمه وهي طبيبة فاضلة كان لها زميلات طبيبات مسيحيات.
 
أما طبيب السجن الدكتور مجدي فقد كان لطيفا وكان قد اتفق معي سرًا أن يعطيني فرصة أطول من الربع ساعة في طابور الصباح بل أكثر من ذلك سمح لي بطابور آخر في المساء مع بعض المرضى أمثالي ولكنه على سبيل الخطأ غير المقصود بالطبع كان قد أعطاني "علبة اشرطة اختبار" أقيس بها درجة السكري عندي ولكنها غير فعالة، فكنت اطمئن ولا اتعاطى أدوية السكر إلى أن فاجأنى السكر بغيبوبة خطيرة سقطت على اثرها في السجن مغشيا على وقد بلغت درجته في الدم عندي 520 بحسب التقرير الطبي وامتلأ جسدي بالاسيتون، حتى أن نيافة الأنبا بيشوي أسقف دمياط قال لي بعد ذلك: "لقد كنت اشتم رائحة الاسيتون تتصاعد من فمك!".
 
وحملت بسرعة إلى مستشفى القصر العيني "عنبر 14" الخاص بالمقبوض عليهم –عفوًا - المتحفظ عليهم! وبعد حملي إلى المستشفى علمت أن الزملاء جميعًا وقفوا يصلون في ساحة السجن من اجلي والدموع تطفر من عيونهم ظانين أنهم قد لا يرون وجهي بعد! ودخلت الإنعاش واستمريت فيه نحو العشرة أيام أعالج وأصارع الموت.
 
يروي عن زنزانته: يقول أن زنزانته كانت محظوظة لأن رفيقي فيها كان القمص باسيليوس سدراك كاهن المنيا، وهو طويل القامة فاتفقنا معه على أن يشتم لنا الهواء من الفتحة العالية، أما أنا فيمكنني أن أتنفس من عقب الباب، فكنت أنبطح على الأرض وأتلقّى الهواء العليل من ذلك المكان الجميل! 
 
وفي يوم مر مأمور السجن علينا للتعارف، فعرفته بنفسي قائلاً: القمص بولس باسيلي، فقال لي: عضو مجلس الشعب؟ فقلت له: نعم! وقدم القمص باسيليوس سدراك نفسه وبلدته المنيا، فقال له المأمور: يعنى تبع الأنبا بيمن؟ فقال له: لا مطران تاني وهو الأنبا أرسانيوس، فقال المأمور: وده مجاش ليه معاكم؟ فقال أبونا مازحًا: أصل مطراننا يا أفندم قصير وأنا أطول منه مرِّتين وهم يأخذون بالطول، فضحك المأمور، وكان يروي هذه القصَّة على الضباط للترفيه عنهم! 
 
وإلى جانب الصلوات والألحان والتراتيل الكثيرة التي كنا نصليها، لم ينسَ الأنبا ويصا لعبة الشطرنج المفضّلة عنده، وأما الطاولة فكان أُستاذنا بلا منافس القمص لوقا سيداروس! 
 
ويضيف، كانوا يقدمون لنا الطعام على صفيحة قديمة، وعن السجن يقول أنه تحول إلى كنيسة حيث يقيمون السبع صلوات من الأجبية، كما كان يقوم بالوعظ يوميًا ويقدم المتنيح الأنبا بيمن تفسيراته لرسائل بولس، والقمص تادرس يعقوب والأنبا فام يقومون بتدريس التسبحة والألحان والقمص إبراهيم عبده بتعليم الترانيم. 
 
ومن العجيب إننا قمنا بصلوات قداسات ليلة الميلاد وليلة الغطاس وكانت هذه آخر ليلة أشارك فيها وأفارق بعدها "سجن المرج" إلى "القصر العيني"، وهكذا كانت قداسات تاريخية تحدث لأول مرة في تاريخ الكنيسة ويصلى فيها 8 أساقفة و42 كاهناً والباقي من العلمانيين اشتركوا كشمامسة وأما "الشعب" فكانوا المساجين المسيحيين الذين عليهم أحكام وعقوبات مختلفة فقد استأذنا مأمور السجن في أن نستدعيهم ليعيدوا معنا ليالي الأعياد ويعترفوا ويتناولوا من الأسرار المقدسة.
 
كبير الضباط: كملوا صلاة يا تقلبوها زي ما قلبتوها ياتعدلوها 
يضيف القمص بولس، بعد ثلاثة أيام ونحن في الليمان فوجئنا بكبير ضباط مصلحة السجون جاء يزورنا ويطمئن علينا فعندما وصل الى العنبر رآنا نصلي فانتظر في المكتب الى أن انتهينا من الصلاة ثم تقدم ليحينا "اهلا.. اهلا.. شرفتوا المكان.. أي خدمة .. احنا كلنا في خدمتكم.. اي استفسار او أي شكوى!". 
 
وهنا سأل أحد العلمانيين: سيادة اللواء "لو سمحت سعادتك عاوزين نعرف امتى الإفراج؟" اجاب المدير "والنبى يا سيد انا نفسي ما اعرفش" ولا اي حد يعرف.. ومع ذلك انا جيت لقيتكم بتصلوا.. صلوا.. يا تقلبوها زي ما قلبتوها، يا تعدلوها! وكان هذا الكلام ذا مغزى لأن السادات كان منذ أيام قليلة قد مات (برصاص مغتاليه).