كتب – محرر الاقباط متحدون ر.ص
استهل الأب البطريرك الأنبا إبراهيم إسحق بطريرك الاقباط الكاثوليك بمصر، عظة بدء صوم السيدة العذراء مريم، قائلا :"

مَحَبَّةُ اللهِ الآب وَنَعَمَةُ الْاِبْنِ الْوَحِيدِ وَعَطِيَّةُ الرَّوْحِ الْقُدْسَ تَكُونُ مَعَ جَمِيعِكُمْ الْأَبْنَاءُ الْأَحِبَّاءُ أتوجَّهُ إليكم جميعًا بتهنئةٍ قلبيَّةٍ مُتَّحدًا معكم بالصَّلاةِ في بدايةِ صومِ الاستعدادِ للاحتفالِ بعيدِ انتقال أمنا مريم العذراء بالنفس والجسد إلى السماء. وبهذه المناسبة أتأمُّل معكم حول "رُوحَانِيَّةُ الصَّوْمِ". فما هو جوهرُ الصَّومِ الحقيقيّ الَّذي يُقَدِّمُهُ الكتاب المُقدَّس؟ وما أهمّيَّةُ الصَّومِ في حياتِنَا؟ وما هي روحانيَّتُهُ وثمارُهُ؟

أوَّلًا: الصَّومُ الحَقِيقِيُّ
قراءةٌ من سفرِ أشعياء النبي (أش58: 3-9).


«ما بالُنا صُمْنا وأَنتَ لم ترَ وعَذَّبنا أَنفُسَنا وأَنتَ لم تَعلَمْ؟ في يَومِ صَومِكم تَجِدونَ مَرامَكم وتُعامِلون بِقَسوَةٍ جَميعَ عُمَّالِكُم. إِنَّكم لِلخُصومةِ والمُشاجَرَةِ تَصومون ولِتَضرِبوا بِلَكمَةِ الشَّرّ. لا تَصوموا كاليَوم لِتُسمِعوا أَصْواتَكم في العَلاء. أَهكذا يَكونُ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه اليَومُ الَّذي فيه يُعَذِّبُ الإِنْسانُ نَفْسَه. أَإِذا حَنى رأسَه كالقَصَب وآفتَرَشَ المِسحَ والرَّماد تُسَمِّي ذلك صَوماً ويَوماً مَرضِيّاً لِلرَّبّ؟ أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟ أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ. حينَئِذٍ تَدْعو فيَستَجيبُ الرَّبّ وتَستَغيثُ فيَقول هاءَنَذا إِن أَزَلتَ مِن أَبْنائِكَ النِّير والإِشارَةَ بِالإِصبَعِ والنُّطقَ بالسُّوء». مَجْدًا لِلثَّالُوثِ الأقدس.

أمام كلمة الله لا مجال للجدال والمناقشات العقيمة عن الصَّوم. فكم من المرَّات نضيِّعُ وقتَنا ونهدرُ مجهودَنا في حواراتٍ سطحيَّةٍ لا تُجدي نفعًّا ولا تبني، غافلين عمَّا تُقَدِّمُهُ كلمةُ الله من تعليمٍ حول الصَّوم ومفهومِه الحقيقيّ وروحانيَّتِه وثمارِه.

في نصِّ النبي أشعياء، يُعاتبُ الشَّعبُ الله بأنَّه لا ينظرُ إلى أصوامهم، فتعلن لهم كلمةُ الله الاستعدادات القلبيَّة الباطنيَّة والثمار الحياتيَّة الواقعيَّة الَّتي يريدها الله من الصَّوم، وليست الأعمال الخارجيَّة الَّتي لا تنبع من القلب، ولا تؤدي إلى تغيير حياة الإنسان والمجتمع.

إنَّ الممارسات الخارجيَّة للصَّوم ضروريَّة طبعًا. ولكنَّ الأساس والجوهر والغاية هي الندامة والتَّوبة، وأعمال العدل والرحمة والاتضاع، بدون ذلك لا فائدة من الصَّوم ولا نفع منه. وبدلًا من أن يكون الصَّوم ينبوع بركة وارتقاء إلى الله، يُصبح سبب دينونة كبيرة، لأنَّ هدف الصَّوم هو التَّجديد الباطنيّ الحقيقيّ، بالتغيير الفعليّ للحياة مع الله والسير أمامه بتقوى وأمانة.

قد يتعرّض الصَّوم لتشويه في الفهم والممارسة، لذا يُحذِّرُ الرَّبُّ يسوع من المظاهر الخارجيَّة والكبرياء والتَّمسُّك بالشَّكليَّات مثل الفريسيين، فيقول: "وإذا صُمْتمُ، فلا تكونوا عابِسينَ مِثلَ المُرائينَ، يَجعلونَ وجوهَهُم كالِحَةً ليُظهِروا لِلنَّاسِ أنَّهُم صائِمونَ. الحقَّ أقولُ لكُم: هؤُلاءِ أخذوا أجرَهُم" (مت6: 16). كما يطلبُ أنْ يكون الصَّوم منزَّهًا: "أمَّا أنتَ، فإذا صُمتَ فاَغسِلْ وجهَكَ واَدهَنْ شَعرَكَ، حتّى لا يَظهَرَ لِلنّاسِ أنَّكَ صائِمٌ، بل لأبيكَ الّذي لا تَراهُ عَينٌ، وأبوكَ الّذي يَرى في الخِفْيَةِ هوَ يُكافِئُكَ" (مت6: 17-18).

ثانيًا: روحانيَّةُ الصَّومِ
يُشيرُ الصَّومُ إلى أنَّ الحياة تأتي من الله، فالأكل هو تناول المواد الغذائيَّة التي تقوتنا وتقوّينا؛ ولهذا يكتسبُ الصومُ والامتناع عن الطعام معنًى روحيًّا: إنَّه وسيلة للإشارة إلى أنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ ما يخرج من فم الله (تث8: 3). إنَّ موسى، في صومه، يدلّ على أنَّه ينتظر استقبال هبة شريعة الله، كمصدر الحياة. فتكشف الشريعة عن إرادة الله وتُغذّي قلب الإنسان، فتُدخله في عهد مع الله مصدر الحياة، بل الحياة عينها. كما يقول قداسة البابا بندكتوس السادس عشر.

الصَّوم فرصة للدخول في مسيرة للتحرُّر من كلِّ ما يستعبدنا، ومسيرة انفتاح على الآخر والشُّعور به والتَّضامن معه، لنتذكر أن كل ما لدينا هو عطية مجانيَّة من الله وعلينا أن نشارك فيه أخوتنا المحتاجين روحيًّا وماديًّا.

الصَّومُ الحقيقيُّ هو تعبيرٌ صادقٌ عن الرجاء في الله. لذلك يجب أن يكون حبّ الله هو الدافع الأوَّل والأساس للصوم، وأن ينتج عنه علاقة وصلة قوية مع الله بالصلاة، وعلاقة محبة وصلة أُخوَّة مع الآخرين بالصدقة.

الصَّوم هو زمن توبة نعم، ولكنّه ليس زمن حزن! فالتُّوبة تعني شعورًا باطنيًّا عميقًا بأن في حياتي كثيرًا من الأشياء الَّتي يجب أن تُقتلع وتُهدم لتُبنى من جديد على أساس سليم يتوافق وتعليم الإنجيل وحياة الرَّبّ يسوع.

ثالثًا: ثمار الصَّوم في حياتنا
1-الامتلاء من حضور الله

يُلحّ الكتاب المقدس والآباء على ثلاثة أشكال لتوبة الإنسان الباطنية: الصوم والصلاة والصدقة، وهي تعبر عن التصالح مع الذات ومع الله ومع الآخرين. لذلك فالصَّلاة الصَّادقة الحقيقيَّة لا تصدر إلّا من قلب وديع ومتواضع، يشعر أنَّه خاطئ، وبحاجة دائمة لرحمة الله وحنانه ويضع كلّ رجائه في نعمته. الصَّلاة تتطلَّب مسيرة إفراغ للذات، كلَّما أفرغنا ذواتنا من ذواتنا، امتلأنا من حضور الله، فله أن يزداد ولي أن أنقص.كم نحنُ في حاجة إلى أن نعود إلى حياة الصلاة، بتواضع وقلب منسحق، حتَّى ندخل في علاقة عميقة مع الله والقريب.

2-التحرُّر من حبِّ التملُّك
لا تكمن قيمة الإنسان فيما يملك بل فيما يعطي. وتصل قيمة العطاء إلى ذروتها عندما يعطي الإنسان ذاته على مثال يسوع.

بالصَّوم نقاوم عقلية العصر التي تؤلّه الامتلاك والمتعة واللذة. بهذا نُعلن ونعبِّر أننا نعيش وصية المسيح: "لا تَعمَلوا لِلقوتِ الفاني، بل اَعمَلوا لِلقوتِ الباقي لِلحياةِ الأبدِيَّةِ..." (يو6: 27). بالصوم نتدرّب على ألَّا ننساق إلى الحلول السهلة، ولا نهرب من الواجبات التي تتطلّب جهدًا وبذلًا، ولا نختار الأكثر راحة ورفاهية. من أجل ذلك نحرم أنفسنا من بعض الأشياء الشهيَّة، ومن بعض الكماليات، ومن أشياء أخرى غير ضروريّة أو حتَّى من أشياء ضرورتها لنا أقلّ بكثير من ضرورتها لغيرنا. كم من المرات نخزن وحولنا من يموتون جوعًا! وتفيض خزائن ملابسنا، والكثيرون يرتعشون من البرد! يقول شارل دي فوكو: "ما هو زائد عن الحاجة هو سرقة"، نعم بهذا المعنى هو سرقة من الشخص المحتاج.

3السعي لبناء عالم أفضل
إنَّ الإنسان وبصفةٍ خاصَّةٍ المسيحيّ مدعوٌّ ومُرسلٌ من أجل بناء عالم أفضل، عالم يرتقي نحو الله، عالم تسوده المحبَّة والعدالة واحترام كرامة الإنسان، في مواجهة تيارات ماديَّة عنيفة تعمل ضدّ إرادة الله. فهل يمكن لإنسانٍ منهزم أن يحقق أيّة انتصارات؟ أو أن يساهم في بناء عالم أفضل؟ أو أن يكون مسيحيًّا حقيقيًّا؟.

فالصَّوم والصَّلاة يساعداننا بقوّة في السَّيطرة على غرائزنا وشهواتنا وأنانيتنا، وأن نكتسبَ حُرِّيَّة القلب. من هنا يمنحنا الرَّبُّ قوَّةَ النَّفس والانتصار الحقيقيّ الَّذي يبدأ من داخل الإنسان فنكون أهلًا لبناء عالمٍ أفضل.
خاتمة.

في ختام تأمُّلنا هذا عن روحانيَّة الصَّوم وثماره في حياتِنا، نطرحُ السؤال: مَنْ يستفيد من صومي؟ فمن صامَ بلا فائدة فإنَّه صامَ بطريقةٍ ناقصةٍ، لأنَّه صامَ صومًا ماديًّا بحتًا ولم يُعطِ اهتمامًا بباقي الفضائل الَّتي يجب أن تصاحب الصَّوم. فالصَّوم ليس هدفًا لذاته ولكنَّه وسيلةٌ تقودُ إلى افساحِ المجال أمام الروح.

يرى آباء الكنيسة أنَّ الصَّومَ وسيلةٌ نصلُ بها إلى نقاوةِ القلبِ وأنَّه لا يقومُ فقط في الامتناعِ عن الطّعامِ والشّرابِ بل بالصَّومِ والابتعادِ عن الشَّرِّ والكفِّ عن الغضبِ وضبطِ اللسانِ، وعبادة الرَّبِّ بقلبٍ طاهرٍ، وحفظ وصاياه والسُّلوك في تعاليمِه، فلا يكفي صوم الفمّ، بل يجب أن تصومَ العينُ والأذنُ والقدمان واليدان واللسان وكلّ أعضاء الجسم. لأنَّ الصَّوم الحقيقيّ هو في الابتعاد عن كلِّ شرّ، والحدّ من كلِّ عملٍ ظالمٍ، والابتعاد عن كلِّ ما يحزن الآخر بل بالعكس إعانته في كلِّ ما يحتاج إليه (اش 58: 6).

كم نحن في حاجةٍ إلى صومِ الفكرِ الَّذي يعني أن نتحوَّلَ بفكرِنا من الأنانيَّةِ والدينونةِ البغيضة، إلى أفكارِ الصَّفحِ، والتَّواضعِ، والسَّلامِ، والمحبَّةِ. وإلى صومِ النَّظرِ خاصَّةً أنَّنا نعيشُ اليومَ في ثقافةِ الصُّورةِ: المطبوعات، السينما، الأنترنت، المحمول.... إلخ. ومثل كلّ هذه الوسائل، يمكن استخدامها للخير كما يمكن استخدامها للشرّ.

لنرفعّ قلوبنا بالصَّلاة إلى أبينا السماوي.

نَشكرُك اللَّهم في هذا الزَّمن المُقدَّس، ونلتجئُ إليك أن تُعلِّمَنا ألَّا نصوم فقط عن الطِّعام بل نصوم أيضًا عن كلّ الرغبات والأفكار والأقوال والأفعال الَّتي لا ترضي صلاحك.

هبنا روحك القدس لنحقّقَ مسيرةَ توبة حقيقيَّة، كي نكتشفَ من جديدٍ عطيّة كلمتك المقدَّسة، فنخدمَ المسيحَ الحاضر في الإخوةِ المحتاجين.

نُصلِّي إليك حتَّى يكونَ صومُنا لقاءً شخصيًّا حقيقيًّا مع الرّبّ يسوع، لنمتلئ من حضوره بالصَّلاة الصَّادقة الحقيقيَّة، فنحبّ الآخر، ونسعى إلى بناء عالمٍ تسوده المحبَّة والإنسانيَّة.

نَبتهلُ إليك يا ربّ، بشفاعة أمنا مريم العذراء الكليَّة القداسة أن يكونَ صومُنا وصلاتُنا مقبولًا، وأن يكونَ وقتًا مناسبًا لنتجدّدَ فيه روحيًّا وفكريًّا وإنسانيًّا.

استَجِبنا يا ربّ، وأعطِنا سلامَك، واملأ قلوبَنا فرحًا وسُرورًا قُدسيّا. أنشُرْ أمانَكَ في العالمِ بين الدُّولِ والشُعوب، وفـِّقْ بين العائلات انزع الحَسَدَ والضّغينَة مِن قلوبِنا، فنعرِفَ أنّك أحبَبتَنا، وأنَّ علينا أنْ يُحِبَّ بَعضُنا بَعضاً بالقولِ والعَمَل. أنِرْ عُقولَنا، فنسلك بِحسَبِ إنجيلِك، ونشهد لكَ الشّهادَة الصَّادِقة أمامَ النّاس. اسكُبْ رَحمَتَكَ علينا وعلى أمواتِنا، فنُمَجِّدَكَ مع الأبرارِ والصِّدّيقين. آمين