محمد حسين يونس
بعد القرن السابع الميلادى(600 م ) حكم البدو مصر لثلاثة قرون ونصف ..ثم الفاطميون لقرنين ..و المماليك لثلاثة قرون الي (1500م) ..لتستلم الانكشارية العثمانية الراية لثلاثة قرون اخرى ختمت بها القرن الثامن عشر ... ويبدأ إلاحتلال الاوروبي (بالحملة الفرنسية ) وكأن علي مصر أن تغير كل ثلاثة قرون هوية الغاصب المحتل لها

بتحليل الأحداث التي جرت خلال هذه الفترة الطويلة .. نجد أن مصر مهما كان الغاصب شرسا أو حتي معتوها.. و يترك أموالها تدور في عجلة إنتاجها و قنواتهاالإقتصادية .. تنتعش البلاد .. بغض النظر عن إسلوب تقسيم عائد الإنتاج غير العادل ..

و عندما يجرف ثروتها و ينزحها خارج البلاد .. تتدهور الأحوال وتسوء ..حتي لو كان الحاكم من العباقرة .. و يتصف بأخلاق حميدة و أهداف رصينة .

إسلوب معالجة الإنتاج و توزيع الثروة .. و توظيفها.. و نصيب الشعب منها .. هو الذى يحدد ما إذا كان الحكم رشيدا أم باغيا .

ما حدث مع الإحتلال العثماني هو تكرار لحكم الرومان و البدوالعرب وصلاح الدين أى تدهورمتسارع في كل نواحي الحياة بسبب تجريف ثروة البلاد الإقتصادية و البشرية و إستيلاء الباب العالي عليها.. و إهمال كامل للشعب .. و سوء تصرف في ثروته و ناتج عمله .

كانت البداية درامية ..لقد إدعي سليم الاول (مثل كل الغزاة )بعد إنتصاره علي (قنصوة الغورى) في (مرج دابق) أن الشعب المصرى يتوق لكرابيج الانكشارية عوضا عن البلطجة المملوكية السادرة دون رادع

وأن عرب غزالة وهوارة و بني عدى وغيرهم يستنجدون به لانقاذهم من جور المماليك..

.لقد كرر الغازى العثماني السيناريو الذى إدعاه غاز سابق له بأن الأقباط قد إستنجدوا بالبدو لينقذونهم من جور الرومان..أو ما قاله أخرلاحق بأن نابليون يغزو مصر لإنقاذها من الإحتلال العثماني

أى أننا شعب في الغالب أهطل يصدق هذه الهرتلة و يرددها.. ولا يعرف مصلحته ..و يستجير .. دائما ..من الرمضاء بالنار.

وهكذا عندما عرض علي (طومان باى) الخضوع ودفع الجزية أبي و إستمر في القتال و الهرب لدى صديقة الشيخ حسن بن مرعي ...

ولكن لم يطل الأمر فبعد فترة وجيزة وبسبب خيانة صديقة ومساعده خاير بك.. إستطاع (سليم الاول) أسر(طومان باى )و تعليقه علي باب زويلة و إحتلال مصر ثم نهب المتوفر من ثروات المماليك .. وفرغ البلد من كريمة الصناع والحرفيين المهرة وسلمها للخائن خرب الذمة جاسوسه خاير بك قائلا ((أعطيتك هذه المملكة اقطاعا لك الي ان تموت ))

خاين بك كما أطلقوا علية بعد ذلك ..كان شركسيا من مماليك الأشرف قايتباى ثم ترقي في سلك الجندية حتي أصبح نائبا للشام .. و هناك ساعد سليم الأول علي إحتلال دمشق ثم صاحبة في حملته إلي مصر ..و وصفه ابن إياس الذى عاصره بإنه كان : ((جبارا عنيدا عسوفا سفاكا للدماء، قتل فى مدة ولايته على مصر مالايحصى من الخلايق..وشنق وخوزق من الناس جماعة كثيرة، واقترح لهم أشياء فى عذابهم، فكان يخوزقهم من أضلاعهم ويسميه شك الباذنجان)).

((بعد استيلاء العثمانيون على مصر بدأ السلطان سليم الأول فى وضع نظام جديد للحكم وهو النظام الذى ظلت مصر تحكم به لنحو ثلاثة قرون متعاقبة ،تلخص فى وجود سلطتين تتنازعان وتراقب كلا منهما الأخرى

الأولي سلطة نائب السلطان أو الوالي العثماني ويلقب بالباشا ومقره القلعة وكانت مدة ولايته سنة تنتهي ما لم يصدر فرمان بتجديدها لسنة أخرى ،

والسلطة الثانية سلطة رؤساء الجند وهم قواد الفرق التي تركها سليم الأول بمصر بعد مغادرته وكانت تتألف من نحو اثني عشر ألفا منتظمين فى ست فرق تسمي كل فرقة ( وجاق ) أشهرهم وجاق (الإنكشارية ) وكان مقرهم بقلعة صلاح الدين بالقاهرة ،

كما تم وضع نواة لسلطة ثالثة وهى سلطة البكوات المماليك والذين تم تعيينهم لإدارة أقاليم مصر)) ..

إلا أن النظام الذى وضعه السلطان سليم الأول لم يستمرفي سلام طويل .. فبدأ التنازع والحروب وانتهز المماليك هذه الفرصة وعملوا على الانفراد بالحكومة

وبمرور الوقت انتهي هذا الصراع إلى تغلب سلطة المماليك البكوات فى النصف الثاني من القرن السابع عشر وساعدهم فى ذلك ما صارت إليه السلطنة العثمانية من الضعف فى أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر بسبب حروبها المتواصلة واختلال الشئون الداخلية وفساد الحكم

((كما زاد من نفوذ البكوات المماليك كثرة تغيير الولاة العثمانيين وعزلهم فضعف شأنهم وتراجع نفوذهم فى حين أن المماليك احتفظوا بعصبيتهم بشرائهم العديد من الجند والاتباع واستمالوا أفراد الحامية العسكرية أو الوجاقات الذين استوطنوا مصر واستقروا بها ، وهكذا أصبحت مصر تحت وطأة الحكم العثماني مسرحا للفتن بين السلطات الثلاث التى تنازعت الحكم وزال عنها استقلالها فحال ذلك دون قيام حكومة مستقرة))

فلنقرا ماذا كتب الدكتور احمد عبد الرحيم في مقدمة كتابه عن الجبرتي
((ثم طرأت عدة عوامل كان لها أثرها في غروب شمس الحضارة عن المنطقة ليس فقط في مصر بل في قواعدها الاخرى بالمشرق و المغرب فلقد إستهلكت الحضارة العربية حيويتها ثم تأثرت تأثرا بالغا بتحول طرق التجارة من مصر والمشرق العربي الي رأس الرجاء الصالح و في النهاية وقعت الكتلة العربية في العالم الاسلامي في أيدى الاتراك العثمانيين الذين أثروا لاسباب عسكرية و دينية أن يعزلوا ملكهم عن العالم الخارجي وحدث كل ذلك في الوقت الذى عرفت فيه اوروبا النهضة و الاصلاح الديني وظهور الملكيات الحديثة التي خصخصت الاقطاع و تحالفت مع الطبقة الوسطي لتدعم الدولة الحديثة مصطنعة أساليب مستجدة تقوم علي وسائل الكشف و الاختراع ))

روشته عالم يعرف الداء و الدواء و لكنه يزعق بين صم بكم لا يفقهون
يصر البعض علي أن الإستعمار العثماني (فتح ) وضم مصر لحظيرة الخلافة الإسلامية شرف .. لذلك ندفع الجزية .. و نحن صاغرون .. و أننا بذلك ساهمنا دون قصد في الفتوحات العثمانية التي وصلت لوسط أوروبا .

هؤلاء لازلنا نسمع أصواتهم و تبجحاتهم .. و نشهد عمالتهم للأتراك .. تشجع أردوغان
رغم أن واقع الحال يقول أنه كان إستعمارا بغيضا .. و من أكثر أنواع الإستعمار نهبا و تجريفا لثروة المصريين و تصديرها للخارج .. و تدميرا لإقتصادها .. وتجهيلا لأهلها .. و أن المصرى لم يعان من التخلف مثلما عاني من جور الإنكشارية و سخف رجال دين ذلك العصر
فلنقرأ كيف كان الحال في نهاية القرن الثامن عشر بعد ثلاث قرون إستعمار عثماني

((كانت مصر حتي الحملة الفرنسية لا تزال غارقة في سبات العصور الوسطي إلي أن أذنت الحملة برجوعها الي المشاركة في الفكر العالمي و الفارق كبير بين العقلية الاوروبية التي مثلتها الحملة وبين العقلية الشرقية التي واجهتها في مصر المملوكة للعثمانيين بمقدار الفارق الزمني الذى قطعناه في تأخر وقطعته اوروبا في تقدم )).

مع الحملة الفرنسية عقلاء المصريون أصابهم الذهول من الفارق بين الحكمين (العثماني ) و (الفرنسي) ترجم الجبرتي هذا الذهول في (( عجائب الاثار في تراجم الاخبار )) فهو عندما يكتب عن قوات إبراهيم و مراد بك يقول :

((الاجناد متنافرة قلوبهم ،منحلة عزائمهم ،خائرة ،مختلفة أراؤهم ،حريصون علي حياتهم وتنعيمهم و رفاهيتهم ،مختالون في ريشهم ،معتزون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم ،مرتبكون في رؤيتهم ،مغمورون في غفلتهم وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم)) .

الله يا جبرتي .. مؤرخ له رؤية نافذة .. ترى الماضي و الحاضر و تتوقع المستقبل.

وعندما كتب عن الفرنسيين قال ((حتي أسافلهم من العساكر إذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريدون الفرجة لا يمنعون الدخول إلي أعز أماكنهم و يتلقونه بالبشيشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه اليهم خصوصا إذا رأوا فيه قابلية اومعرفة او تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له كل مودتهم ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصاوير وكرات البلاد و الاقاليم و الحيوانات و الطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الامم وقصص الانبياء ))

الجبرتي هنا يتكلم عن المجمع العلمي الذى وصف بالتفصيل أسلوب إنشائه و الذى تم حرقه ونهب محتوياته حديثا ..

فلنستكمل حديث الجبرتي ..لا.. فلنؤجله قليلا حتي نعرف كيف رأى بونابرت القاهرة بعد ثلاثة قرون من كابوس تحكم الانكشارية فيها

(( كتب نابليون الي حكومة الادارة يوم وصله مدينة القاهرة الاسطورية : إن القاهرة التي يسكنها ثلاثمائة الف نسمة تضم أقبح ما تضم مدينة من غوغاء علي أنهم إن لم يكونوا الاقبح فعلي الاقل أكثر الناس تعددا في الوان البشرة إنهم يتفاوتون بين النوبي الاسود الي الجركسي ناصع البياض و كان المصرى العادى ( اى كان لونه ) يعلو بمقدار قامة علي الفرنسي العادى ويرتدى ثيابا أزهي من ثيابه وله سحنة تنذر بقطع الرقاب سواء عبست او إبتسمت مع أنها تخفي نفسا في غاية الرقة و اللطف ))

هذا عن البشر اما المدينة

(( فهي غير جديرة بسمعتها الطيبة ،قذرة ،رديئة المباني ،تملؤها الكلاب البشعة .. ماذا تجد عند دخولك القاهرة .. شوارع ضيقة قذرة غير مرصوفة وبيوتا مظلمة متداعية وأبنية عامة تبدو كما لو كانت سجونا وحوانيت أشبه بمرابط الخيل و جوا عبقا بالتراب و القمامة وعميان وعور ورجال ملتحين وأشخاص يرتدون اسمالا محشورين في الشوارع او قاعدين يدخنون قصباتهم كالقردة امام مدخل كهفهم ونساء قليلات منكرت الصورة مقززات يخفين وجوها عجفاء وراء خرق نتنه ويبدين صدورا متهدلة من اردية ممزقة وأطفال صفر الوجوه رقاق الاجساد ينتشر الصديدعلي جلدهم و ينهشهم الذباب ، ورائحة كريهه منبعثة من الاوساخ داخل البيوت و من التراب والهواء الاسن من قلي الطعام بزيت ردىءفي الاسواق عديمة التهوية فإذا ما فرغت من التفرج علي معالم المدينة عدت الي منزلك فوجدته خاويا من كل اسباب الراحة ووجدت الذباب و البعوض وضروبا لا تحصي من الحشرات لتتسلط عليك أثناء الليل فتنفق ساعات الراحة و انت تسبح في عرقك ))

هذا هو الشارع المصرى بعد 11 قرن من غزو البدو لمصر كنت أود أن اقص عليكم ما كتبوه عن طيبة في زمن تحتمس الثالث ..أو إسكندرية البطالمة .. ولكن لكل مجال مقال ..

الجبرتي كتب واصفا الفرنسيين

((كانوا يعطون الرجال زيادة عن أجرتهم المعتادة ويعفونهم بعد الظهر من العمل ويستعينون في الاشغال بالالات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل و مقلله في التكاليف ))
ما إندهش له الجبرتي انهم ((قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس بندقوا عليهم بالرصاص في الميدان تحت القلعة قيل انهم من متسلقي الدور)) اى اللصوص (( وان نابليون إقتص من عسكره الذين اساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهرى وقتل منهم إتنين بقراميدان وأنزل منهم من مقامهم العالي الي أدني مقام ..لان الخيانة ليست من عادة الفرنسيس خصوصا مع النساء و الارامل فان ذلك قبيح عندهم لا يفعله الا كل خسيس )).

صفحة حكم الانكشارية وإستعمارهم لمصر هي أكثر صفحات إنكسار اهلك يا مصر سوءا وحزنا .. تسلط سلاطين العثمانيون علي المصريين بخديعة الدين الموحد و عباءة الخلافة الفضفاضة ..بحيث إقتربت بنا من كابوس حضيض الغفلة و التأخر .. لتبدأ الاحوال بعد ذلك مع إفتتاح القرن التاسع عشر في تغير نسبي بسبب إشراق شمس التفاعل مع الجديد القادم من اوروبا .(( فلنكمل حديثنا غدا ))

#دفتر_إنكسار_أهلك_يامصر