محمد حسين يونس
تاريخ أسرة محمد علي الذى إستغرق قرن ونصف ..لا يعنينا .. فمنهم أشخاص منحطون مثل (عباس حلمي الأول و توفيق و حسين كامل وقد يكون الملك فؤاد) ومنهم غير موفقين مثل ( سعيد و إسماعيل و عباس حلمي الثاني و الملك فاروق'> الملك فاروق ) لكن ما يهمنا هو ملاحقة تطور النبضة الحضارية التي سرت في الجسد المغشي علية منذ قرون..و كيف تشكلت طبقة وسطي حول المتعلمين الجدد وقادت حركة نهضه الأمة منذ نهايات القرن التاسع عشر... ثم كيف أدت بضيق أفقها و إرتباطها بالخارج إلي سقطات متتالية نتج عنها تبعية مستمرة لازالت قائمة للقوى العظمي.

خلال سبعين سنة من تولي أسرة (محمد علي) الحكم كان بالامكان إقامة دار اوبرا و برلمان و متحف للأثار ..وحدائق الاورمان و الحيوان ..و كبارى و قصور وسكك حديد و خطوط تلغراف و تليفونات و مياة نقية .. و صرف صحي ..و منشأت للتحكم في مياة الرى و الأمطار ..وترسانة بحرية لصناعة السفن ..وشوارع تضارع في تنسيقها شوارع باريس بمبانيها العصرية و فنادقها المرفهه سواء في القاهرة او الاسكندرية مع تجميل الميادين بتماثيل متقنة الصنع في كل مكان..

مدن مصر الاساسية لبست في نهاية حكم الخديوى إسماعيل ثوب المعاصرة...وأصبحت نظيفة مرحبة ..و تخلت عن الطابع الشرقي الذى كانت علية مع إفتتاح القرن التاسع عشر

الإنجازات الخديوية ..تمثل علامة في تاريخنا المعاصر .. لم يحقق مثلها من سبقوه أومن جاءوا بعده.. و إن أدت إلي السقوط في وحل القروض من بنوك أوروبا بشروط تعسفية...

القروض التي بسببها لم تترك مصر تنعم طويلا بنور التخلص من أسر إستعمار بدو الجنوب او الشمال المتلفعين بعباءة الاسلام ..و ولم تنتهي إلا بإعادة إحتلالها بواسطة الإنجليز 1882.

لقد حدث تغير في حياة المصرى المتوسط فلقد كان من الممكن لاول مرة أن يطلع علي جرائد قادمة من الخارج ويقرأها بلغات مختلفة ..ويتابع ما يحدث في العالم

((وكان هناك حربا بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية فزاد تشوق الناس للوقوف علي حوادثها )) من خلال الجرائد التي كان بعضها محررا باللغة العربية

وفي مصر ظهر في ذلك الوقت مع كل التوجهات الثقافية و الفكرية المعاصرة إتجاه ديني غير متزمت قاده ((جمال الدين الافغاني (1838 – 1897)،داعية جديد ذو منطق مختلف (عن دعاة سلاطين المماليك ) يحيطه الطلاب و الموظفين يستزيدون من علمه و آراءه العقلية وكان يحضر دروسة كثير من طلبة العلم ويتردد علي مجالسه كثير من العلماء وهو في جميع الاوقات لا يسأم من الحديث فيما ينير العقل ويظهر العقيدة او يذهب بالنفس الي معالي الامور او يلفت الفكر الي النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها )).

المدن إمتلئت بالأجانب .. بجوارسكانها الأصليين من اليهود و المسيحيين و المسلمين ليكونوا خلطة متسامحة عصرية ... كانت السبب في الخروج من متاهات بني عثمان و التحول التدريجي .

علي الجانب الأخر كان لأوروبا حساباتها الخاصة المرتبطة بثلاثة امور رئيسية تتصل بالموقع الذى يفصل بين بحار خاضعة لسيادتها ومستعمراتها الاسيوية .
و بالتربة الخصبة التي تنتج أفضل انواع القطن الذى يغذى مصانع يوركشير ولانكشير بعد توقف القطن الاميركي نتيجة ثورات العبيد هناك ..
كذلك هي (اى مصر ) أصبحت في ذلك الزمن سوقا جائعا لمنتجات الحضارة التي حجبها المتخلفين عنها لاجيال طويلة ..

وهكذا نصبت بنوكها الشرك (لابناء محمد علي) ...جاء علي هيئة شخص فرنسي ( لقبه ديليسبس)أقنع الخديوى(سعيد باشا) أن يشق قناة تبدأ من البحر الاحمر و تنتهي في الابيض و الخديوى (إسماعيل )أن يستدين ليحول عاصمتية (القاهرة و الاسكندرية )الي قطعة من اوروبا ..

كتاب ((بنوك وباشوات)) يقص المأساة وكيف تحولت أيادى البنوك الممتدة بالقروض لاسرة محمد علي الي جرافات للثروة لم يكن من الممكن التحكم فيها بواسطة شعب خرج لتوه من الكهف ...

قصة كيف سيطر صندوق الدين علي إقتصاد و سياسة مصر مشروحة بالتفصيل في الكتاب بمراجعها و مستنداتها .. ثم كيف إنتهت الكارثة بالعجز عن دفع أصل الدين او فوائده و طرد (إسماعيل) و تولي إبنه (توفيق ) الذى في عهده تم إحتلال القوات العسكرية البريطانية لمصر بعد الالتفاف علي قوات عرابي و هزيمته في موقعة التل الكبير .

ولكن هل إنهزم الشعب !! لقد أنتجت طفرة بداية القرن واربعة عقود حكم فيها محمد علي تغيرات نوعية وخلقت ظروفا جديدة علينا الاقتراب منها أكثر لنتدبر

لقد كونت الأعمال الإنشائية وتصدير القطن و التجارة مع الغرب ..طبقة جديدة من الأثرياء ترتبط مصالحها .. بمصالح المرابين و أصحاب البنوك و السماسرة و المصدرين للقطن

((بدأت تتشكل (بعد إعادة ترتيب اساليب الحصول علي الثروة وتوزيعها )، في مجتمع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،شريحة من المجتمع ترى أنه من الافضل أن تقطر عربتها في قطار اوروبا السريع)).

هذة الشريحة تكونت من كبار ملاك الارض الذين إشتروها من ( سعيد باشا ) صديق الفلاح مقابل دفع المبالغ المربوطة عليها كالتزام لعدد من السنوات مقدما .. وأبناء الجاليات الاجنبيةالتي إختلطت بالمصريين وأقامت بينهم كالارمن و الارناؤط والاتراك وابناء جزر البحر الابيض او اليونان الذين تم اسرهم في حرب المورة وفضلوا عدم العودة وبدأوا يعملون بالتجارة ويجنون ارباح طائلة من المضاربة بمحصول القطن .و رجال الصناعة التي نمت بعد دفقة محمد علي الاولي و اصبح لهم صوتا في السوق و يرغبون في إستكماله سياسيا

هذه الشريحة بالاضافة الي الموظفين الحكوميين و الضباط ،لا يمكن إعتبارها إقطاعا او راسمالية بقدر ما هي طبقة متوسطة مستجدة علي المجتمع المصرى ليست من الأرستقراطية الحاكمة وهي كذلك ليست من عامة الشعب .

(( بظهور الطبقة الوسطي أصبحت منذ ذلك الزمن محط أنظار الفئات الاخرى الدنيا و مصدر ثقافتها و نموذجها و الهامها..و عورتها التي لا تستطيع الأيام إخفاؤها )).

ثقافة الطبقة الوسطي خرجت في البداية من عباءة الثقافة الدينية السائدة و المتاحة في الكتاتيب و مدارس المدن و القرى الدينية ثم وفي مواجهة هذه الثقافة جاءت البعثات التبشيرية لتنشيء تعليما عصريا يهتم بالعلوم الحديثة و الرياضيات و اللغات وتخرج عدد من موظفي الحكومة وحلقات الوصل مع عناصر الاحتلال البريطاني.. بمرور الزمن بدأ الطموح يدفع البعض للتعلم في الخارج وأصبح التعليم المدني اساسا للترقي الطبقي .

ثقافة الطبقة الوسطي هذه تستحق التأمل ..فالغريب انها بمرور الوقت أبعدت (يا عزيز عيني أنا بدى اروح بلدى ) التي غناها الشعب الذى يعمل في سخرة حفر القناة في ظروف غير أدمية ونسيت ابو زيد الهلالي و حواديت الربابة وهبة عرابي و دفاعة عن العسكرية المصرية و أشعار محمود سامي البارودى وأحمد شوقي و تجاهلت موروثاتها الثقافية والحضارية وأصبحت بكاملها مستوردة متأثرة بأحداث وتيارات خارجية حتي تلك التي إدعت الاصولية إستوحت أصوليتها من حركات شبيهه بالهند و افغانستان و الجزيرة العربية

وهكذا مع العقود الاولي من بدايات القرن العشرين سادت عدة تيارات بين المثقفين المصريين أهمها هجر التعليم الديني و الاتجاه الي التعليم الحضرى ثم ظهور دعاوى الديموقراطية و(( التنوير الليبرالي القادم من اوروبا )) و نشاط أنصار (( الاشتراكية أوالماركسية بجميع روافدها )) و أتباع التنظيمات((الاصولية الدينية )) ثم أخيرا هؤلاء الذين فتنهم فكر وفلاسفة(( القومية الإشتراكية الفاشيستية ))

وإستمرت هذه التيارات تنمو مطلقة إشعاعات التغيير وتحظي بمثقفي شعب بدأ القرن التاسع عشر تحت هيلولة الاستعمار العثماني و صعد نجمه مع محمد علي ثم إنكسر.. لينهي القرن محتلا عسكريا بواسطة الامبراطورية البريطانية ولكنه كان قد بدأ برغم تعثره برحلته نحو المعاصرة .( نكمل حديثنا باكر )

#دفتر_إنكسار_أهلك_يامصر