المعلم رزق (أبو رزق أغا):   
فاروق عطية
 
   في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ظهر بمصر رجل من كبار المماليك يسمي علي بك الكبير.
 
كان شديد البأس عالى الهمة وذو ثروة طائلة (معظمها من الجور والنهب). أكثر من شراء المماليك، فاشتد بأسه وخبروته وطرد الوالي العثماني من مصر واستقلّ بالأحكام والرياسة.
 
كان بين الكتّاب المسيحيين رجل يسمي المعلم رزق كان متضلعًا في العلوم الكنسية والحساب والفلك؛ وكان نزيهاً صادق الوعود خادماً لكل الناس يعمل كاتبا بالجمارك. كان لعلي بك معرفة به وقيل كان بينهما مودة قديمة، وعندما استقل بالحكم رقاه وجعله "ناظرا علي الضرب خانة المصرية"(أي إدارة سكِّ النقود).
 
وقد زادت ثقة علي بك الكبير زعيم المماليك فيه حتي رفع شأنه وجعله وزيرًا له، فكان مسموع الكلمة عنده ويعول عليه في سائر أموره وأحواله ويعمل بحسب إشارته.
 
وعلى الرغم من قسوة علي بك الكبير على القبط.
رفعته هذه الثقة أيضًا إلى رئاسة الدواوين، واعتمد علي بك عليه، فجعله مستشاره الخاص بالإضافة إلى مناصبه السابقة. ومن جانبه عاون المعلم رزق علي بك في تحقيق أهدافه بالتخلص تماما من سيطرة الحكم العثماني والاستقلال بمصر، فتوافر للمعلم رزق من النفوذ والسلطة ما لم يتوفر لأحد من رجال الدولة.
 
    تسلم المعلم رزق أمن مديرية القليوبية وكان منوطا به الحفاظ على النظام بها.
 
كان الأشقياء بتلك المديرية قد اعتادوا السطو على قافلة ”المَحْمَل“ ذهاباً وإياباً، كما اعتادوا بقية السنة أن يُقلقوا أهالي القليوبية بسَلْبهم الأموال ونهبهم ما يستطيعون الاستيلاء عليه من ماشية أو حصاد. لكن المعلم رزق سَهَر على تأدية واجبه إلى أن نجح في القضاء على هؤلاء الأشرار وإقرار الأمن، وبسببه نال الأقباط الكثير من الراحة. قال عنه الجلرتي: ”لمَّا انتهت رياسة مصر إلى على بك الكبير، ارتفع شأن المسيحيين في أيامه بسبب كاتبه المعلم رزق ومساعده المعلم إبراهيم الجوهري“.
 
   استخدم المعلم رزق لمعاونته في عمله كثير من الأقباط رغم كراهية علي بك الكبير لهم، فكان المعلم رزق بذلك صاحب مدرسة تؤهل الأقباط لأن يحتلوا أكبر مناصب الدولة لكفاءتهم وأمانتهم، وسعى في أوقات كثيرة - كما يقول الجبرتي- في رفع الاضطهاد عن القبط ورفع الذل عنهم.
 
   كان المعلم رزق متعدد المواهب، دارسًا وباحثًا وعارفًا وخبيرا بعلم الفلك ويجيد اللغات خاصة اللغة الإنجليزية. ولما كان المعلم رزق الطيب القلب خدوما للبشر، فقد وضع معرفته اللغوية في خدمة رحَّالة إنجليزي وعالم جغرافي اسمه ”بروس“، كان قد جاء إلى مصر في طريقه إلى إثيوبيا لدراسة مختلف الأقطار الأفريقية واكنشاف منابع النيل.
 
وكان يحمل معه ما يستخدمه في دراسته من أدوات جغرافية وفلكية. فلما رَسَت الباخرة التي تُقِلُّه في ميناء الإسكندرية، ظنَّ المسؤولون عن الميناء أنَّ هذه الأدوات عسكرية، فاحتجزوها عندهم. وحين عرف المعلم رزق بما جرى، إستصدر أمرأ من علي بك بالإفراج عن الأدوات المحتَجَزَة بدون دفع رسوم جمركية عليها والتسهيل في سرعة خروجها من الجمارك.
 
فلما تسلَّمها مستر بروس ووصل إلى القاهرة، اعتبر خدمة المعلم رزق له جميلاً وأراد أن يُعبِّر له عن شكره، فأرسل له هدايا قيِّمة؛ ولكن القبطي الزاهد رفض الهدايا وردها إليه مع هدية أخرى من عنده، وأعرب للرحَّالة الإنجليزي عن رغبته في مقابلته بعد استراحنه من عناء السفر ورؤية الأدوات الفلكية ومعرفة كيفية استعمالها وأن يشاهدا معا أجرام السماء، وأعد له محلا لائقا ببابليون بمصر القديمة ليقيم به مدة بقائه بالمحروسة وقدم له كل ما يلزم لراحته، فلبَّى  بروس طلبه وشرح له ما أراد. كما رتّب المعلم رزق له لقاء بينه وبين على بك الكبير الذي قابله بأحسن مقابلة وأكرمه، وحين أراد الرحيل إلى الحبشة جهزه بخطاب من البطريرك لمليكها بالتوصية عليه وتأدية ما يلزم له.   
 
   كان المعلم رزق معاصرًا للبابا يوأنس الثامن عشر (البابا 107)، توسط البابا لدى المعلم رزق ليعين كاتبا أمينا من أولاد الكنيسة فوافق على الفور وكان هذا الكاتب الأمين هو المعلم إبراهيم الجوهري وصار الاثنين المعلم رزق والمعلم إبراهيم حصنا حصينا للأقباط ولسان حالهم وكانا مثالا للامانة والاتقان. ويقول الجبرتي عنهما: "في أيام علي بك ارتفع شأن النصارى بهذين الرجلين".
 
   حدث أن كان في دمياط تاجر مشهور هو الحاج عمر بن عبد الوهاب طرابلسي الأصل، حدث بينه وبين أحد التجار المسيحيين بالثغر منافسة أدت لشجار انتهى بالسب واللعن كل منها للآخر، فاغتاظ  لذلك الحاج عمر وبَيَّت النية لإيذاء هذا التاجر، فأتى إلى القاهرة وتقدم بشكوى إلى القاضي بأن هذا التاجر سب له دينه، فأقر حكم القضاة على حرقه، إلا أن كبار الشخصيات القبطية سعوا سعيًا حميدًا لدى القضاة وكان على رأسهم المعلم رزق، سكو الدعوة في قالب آخر مدعين أن التاجر المسيحي لم يسبه بالألفاظ التي ادّعاها الحاج عمر، وحدث بعد التسابب مصالحة ومسامحة بينهما فصدر الحكم بالعفو عنه. وحين بلغ الأمر علي بك قبض علي الحاح عمر ونهب داره وأمواله وأنزله في مركب مع نسائه وأرسله إلى طرابلس الشام منفيا وبقي بها حتي اغتيل علي بك.
 
   وعندما قام محمد بك أبو الدهب مملوك علي بك بخيانة أستاذه واغتياله ونزع الرياسة من يده، لم يكْتفِ باغتياله بل علَّقه على باب زويلة، حيث ظل مُعلَّقاً يومين قبل أن يجسر أحد أن يُنزله ويدفنه. قام بعدها بعزل المعلم رزق رغم خدمته البلاد سنوات طويلة بأمانة وإخلاص، ويقال أنه قتله وأمر بألا يتعامل بالنقود التي ضُربت على يده في أيام علي بك.
 
   ولأن التاريخ احيانا يعيد نفسه، فيعود ويذكر لنا بعد سنوات رزق أغا حاكم الشرقية فى عهد محمد على باشا "كبير العائلة العلوية"، ونعرف انه حفيد المعلم رزق الكبير، الذي كان كجده نافذ الرأي مسموع الكلمة فحينما قتل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا، المعلم غالى القبطى والقى بجثته فى الطريق دونما أن يجرؤ احد على طلب دفنه، تقدم رزق اغا ملتمسا دفن الجثمان وأجيب إلى طلبه، فكان هذا الشبل حفيدا لذاك الأسد ..!