فاروق عطية
 كان بين الجنود العثمانيون الذين حضروا لمقاتلة الفرنسيين ضابطا يدعى محمد علي أتى الي مصر كمساعد لرئيس فرقة قوامها ثلثمائة جندي، ولشجاعته وحسن تقديره وتدبيره استمر في الترقي في المناصب العالية إلى أن صار واليا علي مصر.
 
طهّر البلاد من المفسدين وقضى على دابر المماليك المتمردين وشرع في تحسين حال البلاد، ولما كان ذلك يتطلّب الكثير من المال الغير متوافر، اضطر إلى الاستعانة على ذلك بمصادرة أموال الأغنياء وأصحاب الثروة.
 
وكان أول من صادر أموالهم هم الأقباط المسيحيين الموثرين وعلى رأسهم المعلم جرجس الجوهري. وكما جاء في أقوال الجبرتي أن ذلك تم بناء على دسيسة من كل من المعلم غالي وفلتاؤوس وجرجس الطويل باتهامهم المعلم جرجس الجوهري بالتأخير في حسابات إلتزاماته عن الخمس سنوات الماضية وعدم حفظها بانتظام، وبعد أن استولى محمد على باشا على ما احتاجه من أمواله اكتفي بذلك وأفرج عنه.     
                                     
 محمد على باشا الكبير هو مؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر ما بين عامي 1805-1848م، ويشيع وصفه بأنه "مؤسس مصر الحديثة" وهي مقولة كان هو نفسه أول من روج لها واستمرت بعده بشكل منظّم وملفت.
 
استطاع أن يعتلي عرش مصر عام 1805م بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون واليًا عليها، بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا، ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين.
 
   خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكليّة، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضد الوهابيين وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة، كما وسع دولته جنوبًا بضمه السودان.
 
وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول، وكاد يسقط الدولة العثمانية، لولا تعارض ذلك مع مصالح الدول الغربية التي أوقفته وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها.
 
خلال فترة حكمه، استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة.
 
   قبل أن نثرد انجازاته الرائعة التي مكنته من النهوض بمصر وانتشالها من كبوتها ورفع شأنها بعد تخلفها وضعف شأنها كان علينا أن نسلط بقعة من الضوء علي نشأته والبيئة التي تربى فيها.
 
   ولد محمد علي (إسم مركّب) في مدينة قولة التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769م لأسرة ألبانية.
 
وكان الموت يحوم حوله فترة طفولته وصباه. كان أبوه "إبراهيم آغا" يتاجر في التبغ ورئيس الحرس المنوط بخفارة الطريق ببلده. كان لوالده سبعة عشر ولدا لم يعش منهم سواه. ومات أبوه وهو مازال صغيرا، تم ماتت أمه فصار يتيم الوالدين وهو في سن الرابعة عشرة فكفله عمه طوسون، الذي مات أيضا فكفله صديق والده حاكم قولة "الشوربجي اسماعيل" الذي أدرجه في سلك الجندية فأبدى شجاعة وحسن نظر، فقربه الحاكم إليه وزوجه من امرأة غنية وجميلة تدعى "أمينة هانم"، كانت بمثابة طالع السعد عليه، وأنجبت له ابراهيم وطوسون واسماعيل ومن الإناث أنجبت له ابنتين.
 
وحين قررت الدولة العثمانية ارسال جيش إلى مصر لانتزاعها من ايدي الفرنسيين كان هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية التي كان قوامها ثلاثمائة جندي، وكان رئيس الكتيبة هو ابن حاكم قولة الذي لم تكد تصل كتيبته ميناء أبو قير بمصر في ربيع 1801م، حتي قرر أن يعود ألى بلده فأصبح محمد على قائد الكتيبة، ولم يكن يجيد غير اللغة الألبانية، وإن كان قادرا على التحدث باللعة التركية.
 
   بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر، وانسحابها عام 1801م، تحت ضغط الهجوم الانجليزي على الثغور المصرية، إضافة لضغط الزحف العثماني على بلاد الشام، وسرعة اضطراب الأوضاع في أوروبا في ذلك الوقت. شجع ذلك المماليك على العودة إلى ساحة الأحداث في مصر، إلا أنهم انقسموا إلى فريقين أحدهما إلى جانب القوات العثمانية العائدة لمصر بقيادة ابراهيم بك الكبير، والآخر إلى جانب الإنجليز بقيادة محمد بك الألفي. ولم يمض وقت طويل حتى انسحب الإنجليز من مصر وفق معاهدة أميان. أفضى ذلك إلى فترة من الفوضى نتيجة الصراع بين العثمانيين الراغبين في أن يكون لهم سلطة فعلية لا شكلية على مصر، وعدم العودة للحالة التي كان عليها حكم مصر في أيدي المماليك، وبين المماليك الذين رأوا في ذلك سلبًا لحق أصيل من حقوقهم، شمل ذلك الصراع مجموعة من المؤامرات والاغتيالات في صفوف الطرفين، راح ضحيتها أكثر من والٍ من الولاة العثمانيين. خلال هذه الفوضى، استخدم محمد علي قواته الألبانية للوقيعة بين الطرفين، وإيجاد مكان له على مسرح الأحداث، كما أظهر محمد علي التودد إلى كبار رجالات المصريين وعُلمائهم ومُجالستهم والصلاة ورائهم، وإظهار العطف والرعاية لمتاعب الشعب المصري والأمة مما أكسبه أيضًا ود المصريين.
 
   في مارس 1804م، تم تعيين والٍ عثماني جديد يدعى "أحمد خورشيد باشا"، الذي استشعر خطورة محمد علي وفرقته الألبانية الذي استطاع أن يستفيد من الأحداث الجارية والصراع العثماني المملوكي، وتمكن من إجلاء المماليك إلى خارج القاهرة، فطلب من محمد علي التوجه إلى الصعيد لقتال المماليك، وأرسل طلبا إلى الأسيتانة بأن تمده بجيش من "الدلاة". وما أن وصل هذا الجيش حتى عاث في القاهرة فسادا بالاستيلاء على الأموال والأمتعة والاعتداء على الأعراض، مما أثار غضب الشعب، وطالب زعماؤه الوالي خورشيد باشا بكبح جماح تلك القوات، إلا أنه فشل في ذلك، مما أشعل ثورة الشعب التي أدت إلى عزل الوالى. واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم - نقيب الأشراف - محمد علي باشا ليجلس محله، وبايعوه في دار المحكمة ليكون واليا في 17 مايو 1805م، وأمام حكم الواقع أصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرمانا سلطانيا في 9 يوليو 1805م بعزل خورشيد باشا من الولاية وتولية محمد على باشا واليا على مصر.
 
   بعد أن تمكن من الحصول على الولاية، كان على محمد مواجهة الخطر الأكبر المحدق به، ألا وهم المماليك بزعامة محمد بك الألفي الذي كان مفضلا لدي الإنجليز منذ أن ساندهم عندما أخرجوا الفرنسيين من مصر. وساعده في ذلك علمه بما كان الممليك يدبرون له، وقرارهم مهاجمة القاهرة ولم يكن قد مضى على ولايته سوى ثلاثة أشهر، وراسلوا بعض رؤساء الجند لينضموا إليهم عند مهاجمة المدينة. علم محمد علي بالمؤامرة، فطلب من رؤساء الجند مجاراتهم واستدراجهم لدخول المديبة.
 
وفي يوم الاحتفال بوفاء النيل عام 1805م، هاجم ألف من المماليك القاهرة، ليقعوا في الفخ الذي نصبه محمد علي لهم، وأوقع بهم خسائر فادحة، مما اضطرهم للانسحاب. حينئذ استغل محمد علي الفرصة، وطاردهم حتى أجلاهم عن الجيزة، فتقهقروا إلى الصعيد الذي كان مازال في أيديهم.
 
   أنفذ محمد علي باشا جيشًا لمحاربة المماليك في الصعيد بقيادة حسن باشا قائد الفرقة الألبانية، الذي اشتبك مع قوات محمد بك الألفي الأكثر عددًا في الفيوم، وانهزمت قوات حسن باشا مما أدى إلى انسحابها إلى جنوب الجيزة، ثم فرّت جنوبًا إلى بني سويف من أمام قوات محمد بك الألفي الزاحفة نحو الجيزة. تزامن ذلك مع زحف قوات إبراهيم بك الكبير وعثمان بك البرديسي من اسيوط لاحتلال المنيا التي كانت بها حامية تابعة لمحمد علي باشا، بذلك تم تدعيم حامية حسن باشا وتمكنت من ايقاف زحف المماليك. في تلك الأثناء، صدر فرمان سلطاني بعزل محمد علي من ولاية مصر، وتوليته ولاية سالونيك (مديبة يونانية).
 
لجأ محمد على إلى عمر مكرم نقيب الأشراف الذي كان له دور في توليته الحكم ليشفع له عند السلطان لإيقاف الفرمان. فأرسل علماء مصر وأشرافها رسالة للسلطان، يذكرون فيها محاسن محمد علي وما كان له من يد في دحر المماليك، ويلتمسون منه إبقائه واليًا على مصر. فقبلت الأسيتانة ذلك على أن يؤدي محمد علي 4,000 كيس، ويرسل إبنه إبراهيم رهينة في الأسيتانة حتي يدفع هذا المبلغ.
 
   توجه محمد بك الألفي باتفاق سرّي مع الانجليز الى دمنهور لياخذها مركزا لتجميع قواته، محاولا محاصرتها لكن أهالي المدينة وحاميتها استبسلوا في الدفاع عنها.
 
ولما طال الحصار تذمّرت قواته مما اضطره لفك الحصار والتوجه إلى الصعيد. وسرعان ما جاءت محمد علي أنباء وفاة عثمان بك البرديسي أحد أمراء مماليك الصعيد، ثم أنباء وفاة الألفي أثناء انسحابه، فاغتبط لذلك. سرعان ما جرد جيشًا وتولى قيادته لمحاربة المماليك في الصعيد. استطاع جيش محمد علي أن يهزم المماليك في أسيوط ويجليهم منها، واتخذ منها مقرًا لمعسكره حيث جاءته أنباء الحملة الانجليزية (حملة فريزر).