فاروق عطية
بعد أن استطاع جيش محمد علي أن يقهر المماليك "كعقبة أولى" في أسيوط ويجليهم منها، واتخاذها مقرًا لمعسكره، وقبل أن يلتقط أنفاسه جاءته أنباء الحملة الانجليزية (حملة فريزر) على الاسكندرية "كعقبة ثانية" وهي حرب دارت رحاها بين عامي (1607 و1809م).
 
حيث وجهّت انجلترا حملة عسكرية قوامها 5000 جندي بقيادة الجنرال فريزر في اطار الحرب الإنجليزية العثمانية، لاحتلال الإسكندرية وجعلها قاعدة عمليات ضد الدولة العثمانية في البحر المتوسط، بعد تعاون كان بين بينهما خلال الحملة الفرنسية على مصر.
 
وكان الإنجليز قد انتهزوا الصراع بين الوالي محمد علي والمماليك وضعف الجبهة الداخلية، فاتفقوا مع محمد بك الألفي زعيم المماليك على أن يؤيد الحملة البريطانية، في مقابل أن تكفل إنجلترا للمماليك الاستيلاء على مقاليد البلاد. 
 
   كانت الخطة أن يزحف المماليك إلى القاهرة ليحتلوها، والإنجليز يحتلون بأسطولهم موانيء مصر، وبعدها يزحفون إلى الدلتا  ويحتلون القاهرة لإسقاط حكم محمد علي، اعتمادا على تعاون المماليك عملائهم في مصر ولاسيما جبهة الألفي بك.
 
أنزلت الحملة جنودها في شاطئ العجمي في 17 مارس 1807م، ثم زحفت القوات لاحتلال الإسكندرية، التي سلمها محافظ المدينة "أمين آغا" إلى القوات البريطانية دون مقاومة، فدخلها فريزر وقواته في 21 مارس. وهناك بلغتهم أنباء وفاة حليفهم الألفي بك، فأرسل فريزر إلى خلفائه في قيادة المماليك ليوافوه بقواتهم إلى الإسكندرية.
 
وفي نفس الوقت راسلهم محمد علي ليهادنهم، إلا أنهم خشوا أن يتهموا بالخيانة، فقرروا الانضمام لقوات محمد علي، وإن كانوا يضمرون التسويف حتى تتضح نتائج الحملة ليقرروا مع من ينضوون.
 
   كان الجنرال فريزر قد تلقى تقريرا من قنصل انجلترا في رشيد عن حالة مصر وما بها من قوات مما جعله يقرر الزحف برا لاحتلال رشيد والرحمانية عبر نهر النيل لقطع طريق التعزيزات التي قد تأتي إلى المدينة. في 21 مارس أرسل فريزر 1500 جندي بقيادة "باترك ويشوب" لاحتلال رشيد، فاتفقت حامية المدينة بقيادة "علي بك السلانكي" والأهالي على استدراج الانجليز لدخول المدينة دون مقاومة.
 
فتقدم الإنجليز ولم يجدوا أي مقاومة، فاعتقدوا أن المدينة قد استسلمت كما فعلت حامية الإسكندرية، فدخلوا شوارع المدينة الضيقة مطمئنين، وأخذوا يستريحون بعد السير في الرمال من الإسكندرية إلى رشيد، وانتشروا في شوارع المدينة والأسواق للعثور على أماكن يلجأون إليها ويستريحون فيها.
 
وما كادوا يستريحون، حتي انهالت النيران عليهم من الشبابيك وأسقف المنازل، وخسر الانجليز في هذه الموقعة نحو 185 قتيل و300 جريح إضافة إلى 120 من الأسرى، وانسحب من نجى منهم إلى أبو قير والإسكندرية.
 
أرسلت حامية رشيد الأسرى ورؤوس القتلى إلى القاهرة، وهو ما قوبل هناك باحتفال كبير.
 
   ولأهمية المدينة، أرسل فريزر جيشا آخر قوامه 2,500 جندي بقيادة الفريق أول ويليام ستيوارت، ليستأنف الزحف على المدينة، فضرب عليها حصارا في 7 أبريل وضربها بالمدافع، وأرسل ستيوارت قوة فاحتلت قرية "الحمّاد" لتطويق رشيد، ومنع وصول الإمدادات إليها، وفي 12 أبريل عاد محمد علي من الصعيد، واطّلع على الأخبار وقرر إرسال جيش من 4,000 من المشاة و1,500 من الفرسان بقيادة نائبه "طبوز أوغلي"، لقتال الإنجليز.
 
صمدت المدينة لمدة 13 يومًا حتى وصل الجيش المصري في 20 أبريل، مما اضطر ستيوارت للانسحاب.
 
كما أرسل رسولا إلى النقيب "ماكلويد" قائد القوة التي بالحمّاد يأمره بالانسحاب إلا أنه لم يتمكن من الوصول.
 
وفي اليوم التالى  حوصرت القوّة المؤلفة من 733 جنديا في الحمّاد. بعد مقاومة عنيفة،عاد ستيوارت إلى الإسكندرية ببقية قواته، بعد أن فقد أكثر من 900 من رجاله بين قتيل وجريح وأسير.
 
تابعت قوات محمد علي زحفها نحو الإسكندرية، وحاصرتها، وفي 14 سبتمبر 1807م تم عقد صلح بعد مفاوضات بين الطرفين، نص على وقف القتال في غضون 10 أيام وإطلاق الأسرة الانجليز، على ان تخلي القوات الانجليزية المدبنة، التي رحلت إلى صقلّية في 25 سبتمبر، وبذلك تخلص محمد على من واحد من أكبر المخاطر التي كادت تطيح بحكمه في بدايته.
 
   بعد أن تخلص محمد علي من العقبتين الأولى والثانية، كان عليه أن يتخلص من العقبة الثالثة ألا وهي زعامة عمر مكرم نقيب الأشراف.
 
بالرغم من الوعود والمنهج الذي اتبعه محمد علي في بداية فترة حكمه مع الزعماء الشعبيين، بوعده بالحكم بالعدل ورضائه بأن تكون لهم سلطة رقابية عليه إلا أن ذلك لم يدم.
 
بمجرد أن بدأ الوضع في الاستقرار النسبي داخليًا بالتخلص من الألفي وفشل حملة فريزر وهزيمة المماليك وإقصائهم إلى جنوب الصعيد، حتى وجد محمد علي أنه لن تطلق يده في الحكم، حتى يزيح الزعماء الشعبيين. تزامن ذلك مع انقسام علماء الأزهر على من يتولي الإشراف على أوقاف الأزهر بين المشايخ.
 
وفي شهر يونيو من عام 1005م فرض محمد علي ضرائب جديدة على الشعب، فهاج الناس ولجأوا إلى عمر مكرم الذي وقف إلى جوار الشعب وتوعد بتحريك الشعب في ثورة عارمة، ونقل الوشاة الأمر إلى محمد علي.
 
كما استغل محمد علي محاولة عدد من المشايخ والعلماء للتقرب منه وغيرة بعض الأعيان من منزلة عمر مكرم بين الشعب كالشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الدواخلي، فاستمالهم بالمال ليوقعا بعمر مكرم.
 
وكان محمد علي قد أعد حسابًا ليرسله إلى الدولة العثمانية يشتمل علي أوجه الصرف، ويثبت أنه صرف مبالغ معينة جباها من البلاد بناء علي أوامر قديمة وأراد يبرهن علي صدق رسالته، فطلب من زعماء المصريين أن يوقعوا علي ذلك الحساب كشهادة منهم على صدق ما جاء به، إلا أن عمر مكرم امتنع عن التوقيع وشكك في محتوياته.
 
فأرسل يستدعي عمر مكرم إلى مقابلته، فامتنع عمر مكرم فوجد محمد علي في ذلك إهانة له، فجمع جمعًا من العلماء والزعماء، وأعلن خلع عمر مكرم من نقابة الأشراف وتعيين الشيخ السادات، معللاً السبب أنه أدخل في دفتر الأشراف بعض اليهود والأقباط نظير بعض المال، وأنه كان متواطئًا مع المماليك حين هاجموا القاهرة يوم وفاء النيل عام 1805م، ثم أمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط.
 
وبنفي عمر مكرم اختفت الزعامة الشعبية الحقيقية من الساحة السياسية، وحل محلها مجموعة من المشايخ الذين كان محمد علي قادرًا على السيطرة عليهم إما بالمال أو بالاستقطاعات، وهم الذين سماهم الجبرتي "مشايخ الوقت".
 
   بعد تخلصه من العقبات الثلاث وانفراده بالحكم المطلق دون منغصات، تذكر محمد علي أن هناك خطر من المماليك الهاربين إلي جنوب الصعيد ويشكلون الخطر على سلطته. لجأ لاستراتيجية بديلة وهي التظاهر بالمصالحة، واستمالتهم بالهدايا والعطايا المالية والمناصب والاستقطاعات حتي يستدرجهم للعودة إلى القاهرة. أتت هذه الاستراتيجية أُكُلها بمثابة الطعم الذي ابتلعه الكثير من المماليك، الذين استجابوا للدعوة مفضلين حياة الترف والرغد بالقاهرة على الحياةة القاسية بالصعيد والمطاردة من قوات محمد علي. إلا أن بعض زعماء المماليك مثل ابراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن ورجالهم لم يطمئنوا لهذا العرض وفضلوا البقاء في الصعيد.
 
   في ديسمبر من عام 1807م تلقّى محمد علي أمرًا سلطانيًا من السلطان العثماني مصطفى الرابع بتجريد حملة لمحاربة الوهابيين الذين استولوا على الحجاز مما أفقد العثمانيون السيطرة على الحرمين الشريفين. إلا أن محمد علي ظل يتحجج بعدم استقرار الأوضاع الداخلية في مصر، بسبب حروبه المستمرة مع المماليك. لكن بعد تظاهره بالمصالحة مع المماليك، لم يبق أمامه ما يمنعه من تجريد الحملة. رأى أن تجريد تلك الحملة ورحيل جزء كبير من القوات خطر كبير على استقرار أوضاعه في مصر، فوجود المماليك بالقرب من القاهرة، قد يشجعهم على استغلال الفرصة لينقضوا عليه وعلى وقواته. لذا لجأ محمد علي إلى الحيلة، فأعلن عن احتفال في القلعة بمناسبة إلباس ابنه طوسون خلعة قيادة الحملة على الوهابيين، وحدد له يوم الجمعة الأول من مارس1811م.
 
   أرسل محمد علي يدعو رجال الدولة وأعيانها وكبار الموظفين العسكريين والمدنيين والعلماء وزعماء المماليك لشهود هذا الحفل، فلبى 470 مملوكا الدعوة، وحضروا إلى القلعة في أزهى الملابس والزينة. وما أن انتهى الاحتفال حتى دعاهم محمد علي إلى السير في موكب ابنه.
 
تم الترتيب لجعل مكانهم في وسط الركب، وما أن وصل المماليك إلى طريق صخري منحدر يؤدي إلى باب العزب المقرر أن تخرج منه الحملة، حتى أغلق الباب فتكدست خيولهم بفعل الانحدار، ثم فوجئوا بسيل من الرصاص انطلق من الصخور على جانبي الطريق ومن خلفهم يستهدفهم، حتى امتلأ فناء القلعة بالجثث، ومن نجا منهم من الرصاص ذُبِحَ على أيدي الجنود.
 
ولم ينج منهم سوى مملوك واحد يدعى "أمين بك" استطاع القفز من فوق سور القلعة وتمكن من الهرب إلى الشام. بعد ذلك أسرع الجنود بمهاجمة بيوت المماليك، والإجهاز على من بقي منهم، وسلب ونهب بيوتهم، بل امتد السلب والنهب إلى البيوت المجاورة، ولم تتوقف تلك الأعمال إلا بنزول محمد علي وكبار رجاله وأولاده في اليوم التالي، وقد قُدّر عدد من قتلوا في تلك الأحداث نحو 1000 مملوك.
 
بتخلّص محمد علي من معظم المماليك، انسحب المماليك الذين بقوا في الصعيد إلى دنقلة (بالسودان) ، وبذلك أصبح لمحمد علي كامل السيطرة على مصر.