بقلم : فاروق عطية
   كان ذلك النصر الكبير لجيوش محمد علر باشا في قونية هو النصر الأخير والأكثر إثارة للإعجاب في الحملة المصرية ضد مقر الباب العالي، ومثل ذروة قوة محمد علي في المنطقة. بهذه الغلبة انفتحت الطريق أمامه إلى الأستانة، حتى خُيّل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية السلطنة العثمانية أصبحت قريبة. ساد القلق عاصمة الخلافة وارتعدت فرائص السلطان الذي خشي من تقدم إبراهيم باشا نحو العاصمة، فاستنجد بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر الداهم. 
 
   استخدمت فرنسا علاقاتها الوديّة مع مصر لإقناع محمد علي باشا بتسوية خلافه مع السلطان، وأن لا يتشدد في طلباته، وأن يكتفي بفتوحه بسناجق صيدا وطرابلسي والقدس ونابلس. رفض محمد علي باشا وجهة النظر الفرنسية، وأصرّ على ضم بلاد الشام وولاية أضنة، وجعل جبال طوروس الحد الفاصل بين الدولة العثمانية وممتلكاته، وأمر ابنه إبراهيم باشا بالتقدم في فتوحه بهدف الضغط على السلطان. وبذلت فرنسا جهودًا مضنية للتوفيق بين وجهتي النظر العثمانية والمصرية، وهدّدت في إحدى مراحل المفاوضات بقطع العلاقة مع مصر.
 
وأخيرا توصل الجانبان إلى توقيع اتفاقية كوتاهية في 4 مايو 1833م، بموجبها تنازل الباب العالي عن كامل بلاد الشام، وأقر لمحمد علي باشا بولاية مصر وكريت وكامل سوريا الطبيعية (بما يشمل لبنان وفلسطين وأضنة)، وولاية إبنه إبراهيم باشا على جدة. وقد تعهد محمد علي لقاء ذلك، بأن يؤدي للسلطان كل عام الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل. وكذلك جلا إبراهيم باشا من الأناضول وانتهت المرحلة الأولى لحروب الشام، وبدا أن الأزمة قد انتهت أيضًا.
 
   كان محمد علي يؤمن أن رسالته هي إنقاذ الدولة العثمانية نفسها من الخراب وإحداث تغييرات جذرية ونفخ حياة جديدة فيها، لإيمانه بوحدة العالم الإسلامي بزعامة السلطان شرط أن يُسارع إلى حماية المسلمين بعد كارثة نافارين، منبهًا إلى ضرورة تجديد السلطنة على قاعدة الدين الإسلامي. وسواء كان محمد علي يحلم بدولة عربية منفصلة عن الدولة العثمانية وتقوم على أنقاضها، أو كانت رسالته تقضي قيام سلطنة إسلامية قوية، فمما لا شك فيه أن تدخل الدول الأوروبية في هذ القضية حال بينه وبين أي تفاهم مع الباب العالي من جهة، ومنعه من تحقيق أهدافه، من جهة أخرى.
 
   تُعد حروب محمد علي باشا في بلاد الشام حروبًا دفاعية وهجومية أيضا، أما كونها حروبًا دفاعية فلأن محمد علي باشا كان يعلم أن الدولة العثمانية لا تألُ جهدًا في السعي لاسترداد مركزها في مصر وأن السلطان محمود الثاني لم يكن صافي النيّة، وأما كونها حروبًا هجومية فلأن هدفه كان أيضًا التوسع. ويبدو أن محمد علي باشا قد أخذ قرار التصدي للباب العالي ضمن خلفيّات عدّة. فقد آنس في جيشه القوة، ووجد أن الدولة العثمانية في حالة من التدهور والتفكك، وأنها محط أنظار ومؤامرات الدول الأوروبية.
 
   لم تكن التسوية، التي تمّت في كوتاهية إلا تسوية مؤقتة، لم يوافق محمد علي باشا على عقدها إلا خشية من تهديد الدول الأوروبية بحرمانه من فتوحه، ووافق السلطان محمود الثاني على عقدها مكرهًا تحت ضغط الأحداث العسكرية والسياسية، وهو عازم على استئناف القتال في ظروف أفضل لاستعادة نفوذه في بلاد الشام ومصر، ولمّا كان التفكير السياسي لكل طرف متناقضا، كان لا بد من استئناف الحرب لتقرير النتيجة النهائية. ونفّذ السلطان سياسة إستراتيجية من شقين: راح يُحرّض سكان بلاد الشام ضد الحكم المصري من جهة، وقام بحشد القوات لضرب الجيوش المصرية وإرغامها على الخروج من البلاد بمساعدة بريطانيا من جهة أخرى.
 
   في مايو 1838م استدعي محمد علي باشا قناصل الدول الأوروبية في قصر رأس التين بالاسكندرية وأبلغهم نيته الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية. أحست الدول الأوروبية بخطورة تغير موازين القوى بالشرق وتمت اجتماعات عديدة بالعواصم الأوروبية لوضع مخطط لتحجيمه. رأي لورد بالمرسون وزير خارجية بريطانيا أن استقلال مصر عن الدولة العثمانية سيتبعه قيام حركات استقلالية في الشام والعراق مما قد يؤدي لانهيار الدولة العثمانية وبالتالي يهدد ممتلكات بريطانيا في الهند، واحتمال زحف روسيا نحو الجنوب مما يهدد بحرب أوروبية شاملة. أما بالنسبة للعثمانيون كان استقلال محند علي باشا بحكم مصر مسألة حياة أو موت.
 
   أدرك محمد علي باشا، بعد تلك التطورات السياسية، بأنّ مواقف الدول الأوروبية كانت لغير صالحه، وبأنّ خططه الانفصالية غير قابلة للتحقيق، لكنه لم يفقد الأمل باعتراف السلطنة بالحقوق الوراثية لعائلته في حكم المناطق التي كانت تحت إدارته، وحاول أن ينتهز الفرصة لإجراء محادثات جديدة، فأجرى مباحثات مع مبعوث السلطان، صارم أفندي في مصر انتهت بالفشل لتصلب الرأي بين الطرفين، وتأزمت الأمور السياسية وأصبح لا مفر من الحرب بين الجانبين.
 
   جرت الاستعدادات الحربية في الأستانة بشكل نشط ومكثف، وتابعت الدول الأوروبية الميول العسكرية لدى السلطان باهتمام بالغ. استغل السلطان ثورة سكّان بلاد الشام على الحكم المصري ودفع بجيش في ربيع عام 1839م بقيادة حافظ باشا إلى بلاد الشام، وكان ظهوره عند الحدود كافيًا لإيصال الأزمة إلى ذروتها، أما إبراهيم باشا فقد كان يترقب، تنفيذًا لرغبة أبيه في اجتناب كل ما يُظهره بمظهر المعتدي. وبعد أن احتشد الجمعان، أصدر السلطان أمره إلى حافظ باشا بمهاجمة إبراهيم باشا المتحصن في حلب. ويبدو أن محمد علي تملّكه الفرح لتحمّل السلطان وقائده مسؤولية البدء بالعمليات العسكرية المعادية، لذلك أمر ابنه بمهاجمة الجيش العثماني، وكان ذلك في 15 يونيو 1839م. وفي معركة نزيب (الواقعة شرق عنتاب في الجزيرة الفراتية)، أنتصر ابراهيم باشا ودمر الجيش العثماني للمرة الثانية حتى كاد أن يُفنى عن بكرة أبيه، وأسر المصريون نحوًا من خمسة عشر ألف جندي، وغنموا كميات هائلة من الأسلحة والمؤن، وأصبح الوضع كارثيا عندما توجه أدميرال الأسطول التركي إلى اٌسكندرية وسلم أسطوله كاملا لمحمد علي باشا. وتوفي السلطان محمود الثاني قبل أن يبلغه نبأ الهزيمة.
 
   خلف السلطان عبد المجيد الأول والده السلطان محمود الثاني وهو لم يبلغ الثامنة عشر من عمره، وسرعان ما سارع إلى إجراء مفاوضات مع محمد علي. فاشترط محمد علي لعقد الصلح، أن يكون الحكم في الشام ومصر حقًا وراثيًا في أسرته. وكاد السلطان عبد المجيد يقبل شروط محمد علي لو لم تصله مذكرة مشتركة من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا، تطلب منه قطع المفاوضات مع محمد علي. وكانت الدول الأربع قد اتفقت على منع محمد علي القوي، من أن يحلّ محل السلطنة العثمانية الضعيفة في المشرق العربي الذي تمر فيه طريق بريطانيا للهند.
 
   أما فرنسا فقد انفردت في سياستها الشرقية عن الدول الأربع، ورأت أن تستمر في تأييد محمد علي، على أمل أن تضمن لها مقامًا ممتازًا في المنطقة. ولم تلبث الدول الأربع أن عقدت عام 1840م مع الحكومة العثمانية مؤتمرًا في لندن، أسفر عن توقيع معاهدة التحالف الرباعي. وفي هذه المعاهذة عرضت الدول الأوروبية الأربع على محمد على ولاية مصر وولاية عكا وراثيا مدى حياته. واشترطت هذه الدول أن يُعلن محمد علي قبوله بهذا العرض خلال عشرة أيام، فإن لم يفعل تسحب الدول الأربع عرضها الخاص بولاية عكا. أما إذا لم يُجب في مدة عشرين يومًا فإن الدول الأربع تسحب عرضها كله، تاركةً للسلطان حرية حرمانه من ولاية مصر.
 
   كان محمد علي باشا من جهته مصممًا على التمسك بالبلاد التي فتحها وأقرّته عليها اتفاقية كوتاهية، وأخذ يراهن على مساعدة فرنسا وعلى حرب أوروبية ينتظرها بين ساعة وأخري، ولما أبلغته السلطنة العثمانبة وقناصل الدول الأوروبية في مصر شروط المعاهدة، ترك الأيام العشرة تمر من دون أن يُصدر أي ردّ رسمي فأبلغه قناصل الدول الأوروبية، في اليوم الحادي عشر الإنذار الثاني وأمهلوه عشرة أيام أخرى، كما أبلغوه أنه لم يعد له الحق في ولاية عكا. ومرّت الأيام العشرة الثانية من دون أن يقبل صراحة تنفيذ بنود الاتفاقية، فعدّ قناصل الدول الأوروبية أن ذلك يعني الرفض، عندئذ أصدر السلطان فرمانا بخلعه من ولاية مصر. أمام هذا الأمر شرعت الدول الأوروبية باتخاذ إجراءات تمهيدية لتنفيذ تعهداتها، فأمرت بريطانيا أسطولها في البحر الأبيض المتوسط أن يقطع المواصلات البرية والبحرية بين مصر والشام وضرب موانئ هذه البلاد، وأوعزت إلى سفيرها في الأستانة بإشعال نار الثورة ضد محمد علي في المدن والقرى الشاميّة، كما قطعت الدول الأوروبية الأربع علاقاتها بمصر.
 
   استقبل محمد علي باشا نبأ عزله بهدوء، وأعرب عن أمله بالتغلب على هذه المحنة، ثم جنح للسلم عندما ظهر أمير البحر البريطاني "نابييه"أمام الآسكندرية مهددا بلغة الحديد والنار، ورأى أن فرنسا غير قادرة على مقاومة أوروبا كلها، لذلك وقّع اتفاقية مع أمير البحر المذكور وعد فيها بالإذعان لرغبات الدول الكبرى والجلاء من بلاد الشام بشرط ضمان ولايته الوراثية لمصر، لكن الدولة العثمانية رفضت هذا الشرط بإيعاز من بريطانيا. ساندت فرنسا محمد علي باشا في موقفه، وتشدّدت في ذلك حتى خيف من وقوع حرب أوروبية، عندئذ تدخلت كل من النمسا وبروسيا على تبني وجهة نظر محمد علي باشا وفرنسا، وأجبرتا بريطانيا وروسيا على تبني نفس وجهة النظر. فاجتاز والي مصر مأزق الخلع وإن أُرغم على الاكتفاء بولاية مصر في المستقبل، وفعلاً أصدر السلطان فرمانًا بجعل ولاية مصر وراثية لمحمد علي باشا، وانتهت بذلك الأزمة العثمانية - المصرية، وجلا المصريون عن الشام.
   ألا ليت أردوغان يقرأ التاريخ ويعي أن التاريخ قد يعيد نفسه ويستيقظ علي كارثة جديدة تحيق به وبجيوشه الباغية علي أرض ليبيا كما حدث لأجداده العثمانيون من جنود مصر (خير أجناد الأرض) فيندم حين لا ينفع الندم.