سعيد شعيب يكتب مذكراته  : هل هناك فروق حقيقية بين الإخوان والقوميين والشيوعيين؟
 دعني اقول لك انه سؤال مهم، حان الوقت لطرحه بشجاعة (وانا من خلفية يسارية)، ليس الهدف منه الإساءة لأحد، ولا اتهام أحد ، ولكن إعادة الاعتبار للدولة الوطنية المصرية، وإعادة التفكير في كل ما يتناقض معها ويهدد وجودها، بل واعادة النظر في الأفكار والأيديولوجيات التي دمرت الشرق الأوسط.  فقد شاهدنا دول تتفكك وتنهار، ولا أظن أن هناك من يريد لمصر ذلك المصير الأسود. وهذا لا يعني ابداً كما قلت مراراً تأييد من يحكمون مصر، ولكن عارضهم كما تشاء، فهذا حق بديهي، ولكن تحت مظلة "الدولة المصرية"، والتي لا يجب أن يكون هناك خلاف عليها ابداً تحت أي زعم. وهذا ما سأحاول توضيحه. 

"اتخض " وارتبك رئيس التحرير. كان ذلك في نهاية عام 1997  كتبت عرضاً مطولاً لكتاب "هوامش الفتح العربي لمصر - حكايات الدخول" للكاتبة المصرية سناء المصري. ناقشني كثيراً الأستاذ شامل خيري رئيس تحرير جريدة أم الدنيا. كان هذا طبيعياً ، فالكتاب يكشف لأول مرة باللغة العربية أن هذا لم يكن "فتح"، بل كان "غزو واحتلال متوحش" ارتكب فظائع ضد المصريين. كانت الحقائق التي سردها مؤرخين عرب مسلمين صادمة للأستاذ شامل، وصدمتني ايضاً عندما عرفتها، ولأنه كان يحبني ويثق في، ولأن الموضوع جذاب، وهو صحفي  متميز وشاطر، ولأنه يؤمن بحرية واسعة للإختلاف، ابتسم وقال لي موافق على النشر بشرط أن تكتب اسفل المقال: تم النشر على مسئوليتي: سعيد شعيب.

 وقد كان. كنت ايضاً قد قرأت في هذه الفترة رواية "البشموري" للروائية العظيمة سلوى بكر التي تتناول فيها بشجاعة استثنائية وفنية رفيعة ثورة البشموريين المصريين  ضد الاحتلال العربى لمصر. هذان الكتابان اجابا على السؤال الذي شغلني كثيراً: هل منطقي ألا يقاوم المصريين الغزاة، هل هذا شعب طبيعي، هل لأنه يرفض الإحتلال الروماني رحب بمحتل جديد ؟

  وكانت الحقيقة أن المصريين شعب طبيعي قاوم الغزاة الجدد وثار مرة واثنين وعشرة، وتعرض لمذابح ومجازر لا أول لها ولا آخر. 

 كان الأستاذ شامل خيري، وهو من أفضل من عملت معهم، مثل كثيرين،  متشبع بالثقافة المزورة التي استقرت في وجدان وعقول اغلب ساكني الشرق الأوسط من المسلمين، بل وأغلب المسلمين في كل مكان. فقد نجحت الإمبراطورية الاستعمارية التي أسسها بعض قادة قبيلة قريش، ومن بعدها الإستعمار العثماني في أن ترسخ الكثير من الأكاذيب طوال أكثر من 1400 عام، حتى تحولت الى "حقائق"، منها أن المصريين لم يقاوموا وان هؤلاء الغزاة جاؤوا لإنقاذ المصريين من الإحتلال الروماني وأنهم جاؤوا لينشروا الإسلام .. الخ.

 الأخطر أن هذه الإمبراطورية الاستعمارية حولت الإحتلال والسبي والنهب .. الخ إلى دين، فإذا رفضت كمصري مسلم احتلال بلدك من قبل مسلم آخر، فهذا ينتقص من دينك، بل ويهدمه. فلكي تكون "مسلم" لابد ان تؤمن ان الله امرك بغزو ونهب وسبي الشعوب. كانت إمبراطورية قريش الاستعمارية بحاجة الى أن تجبرنا على اعتناق "اسلام" الإحتلال والغزو والنهب والسبي، و تمحوا "اسلام الرحمة والحرية والعدل"، حتى يكون مبرراً لوجودها، ودعماً لمشرعيتها، فهؤلاء الغزة ينفذون أمر الله جل علاه ورسوله محمد (ص)، وهذا بالتأكيد كذب. إنه "اسلام قريش" وليس الإسلام الحقيقي. كما ان هذه الإمبراطورية الاستعمارية كانت بحاجة الى تقديس من قاموا بهذه الحروب الإستعمارية، فاساؤوا الى ديننا العظيم بفكرة تقديس الأشخاص، من الصحابة والتابعين.. وتابعين التابعين، رغم انهم يصيبون ويخطئون. بل وادعى كل من هؤلاء انه "خليفة سيدنا النبي" و خليفة "الخلفاء الراشدين"، واحياناً خليفة الله جل علاه على الأرض مباشرة.

 كما اخترعوا فقه أن "الإسلام دولة وخلافة" وحولوا الرسول إلى حاكم وملك ، واضافوا اليه ما يسيء اليه والى الإسلام، مثل انه قتل وسبى واحتل .. الخ في سيرة كتبوها بعد وفاته بأكثر من مائة عام. كان الهدف هو تبرير جرائمهم، بالادعاء الكاذب انهم يقلدون ما فعله سيدنا النبي ( ص)، وهذا كذب. فادعوا مثلاً أنه قتل قبيلة بني قريظة اليهودية بالكامل، واستعبد نسائها ونهب أموالها. ونسبوا إليه أنه تزوج السيدة عائشة وهي طفلة في التاسعة، ونسبوا إليه أنه مزواج يلاحق النساء .. الخ. لقد صنعوا صورة له تشبههم حتى يحكموا باسم الإسلام  ورسوله، إنها صورة دمرت حقيقة سيدنا رسول الله ودمرت الإسلام.

 لقد حولوا المسلمين الى قبيلة أو للدقة عصابة تدافع عن بعضها البعض بالحق وبالباطل ولا تدافع عن الإنسانية. وأفسدوا ودمروا ضمير المسلم، جعلوه يتقبل الجرائم والمجازر باعتبارها جزء من الدين، وأمر من الله.  يثور ويغضب عندما يحتل أرضه غير المسلم، و يتغاضى وربما يفرح عندما يحتلها مسلم، بل ويطلق اسم هؤلاء الغزاة الذين احتلوا وطنه ودمروه على بعض مساجده وشوارعه مثل الخليفة المأمون وسليم الأول في القاهرة!!. في حين انه غاضب وكاره للإنجليز لأنهم احتلوا بلاده. وكأن هناك احتلال حلال وآخر حرام ! .

 يتظاهر ويحتج المسلم عندما يصف غير المسلم الإسلام بأي صفة أو رأي لا يعجبه، لكنه لا يتحرك ويتظاهر ضد داعش مثلاً التي ذبحت وحرقت ودمرت باسم الإسلام. فمجرمي داعش مسلمين كما يقول الأزهر و غيره. جعلوا المسلم يناصر المسلم حتى لو كان مجرماً ويرفض ويثور لو كان المجرم غير المسلم!. جعلوه المسلم ضد انسانيته.

 المؤكد أن الإسلام لا يقدس أفراد مهما علت قيمتهم، ولا حتى يقدس كل أفعال سيدنا النبي (ص)، فقد عاتبه القرآن الكريم على سبيل المثال في سورة عبس. وأمره الله جل علاه بان يقول: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي" . الإسلام يقدس القيم، العدل ، الحرية، الصدق، الحب. واذا اقترب منها أي إنسان بما فيهم الصحابة، فهو يقترب من الإسلام، واذا ابتعد فهو يبتعد عن الإسلام. لكن حكام الإمبراطورية الاستعمارية المنسوبة الى الإسلام يريدون منا أن نقدسهم، ونرفض القيم الكلية العظيمة لديننا.

 "خضة" الأستاذ شامل خيري رئيس تحرير جريدة أم الدنيا، كانت رد فعل راقي ومحترم، والأكثر احتراماً أنه وافق على نشر موضوع كان واضحاً أنه الى حد كبير ضد قناعاته، فقد كان صحفياً وانساناً رفيع المستوى.

 كما كان رد فعل الروائية العظيمة رضوى عاشور راقياً عندما ابديت اعجابي بثلاثيتها "غرناطة" من الناحية الفنية، وكانت تتناول الفظائع التي تعرض لها العرب المسلمين من قبل الأسبان، وهذا صحيح وحقيقي. ولكني قلت لها : لكن كان هذا احتلال من جدود هؤلاء الضحايا، والذين ارتكبوا جرائم ضد الأسبان. ومع الرفض الكامل للجرائم التي تعرض لها المسلمين فيما بعد، فقد كان الأسبان يحررون أرضهم المحتلة. فردت الكبيرة على شاب صغير وقتها : هذا رأيك واحترمه. 

 في  ديسمبر عام 2005 نشرت رأيي بأن "الأندلس" التي تحولت إلى مفخرة للمسلمين،  ليست اكثر من احتلال استيطاني. كان ذلك في جريدة العربي وتحت رئاسة تحرير الأستاذ عبد الله السناوي الذي كان يسمح بهامش حريات واسعة لي وللزملاء. ورد عليا الناقد السينمائي المرموق أحمد يوسف رحمه الله قائلاً:  عندما يقرأ وجهة نظر لصحفى يدخل إلى مناطق لا يعرفها ليصف "الأندلس" بأنها كانت احتلالا عربيا لأسبانيا، ومن المنطقى فى رأيه أن يطرد الأسبان الاحتلال العربى من بلادهم، وليس مهما على الإطلاق دقة استخدام كلمات مثل "عربي" أو "أسباني" فى هذا السياق، فالصحفى إياه يتصور نفسه أنه قد أتى بما لم تأت به الأوائل دون أن يقرأ مرجعا واحدا فقط يعرف منه ما هى الأندلس التى "احتلت"، عشرات أو مئات الآلاف من المراجع بكل لغات العالم والأسبانية على رأسها، المهم أن الصحفى "رأيه كده، وكل واحد حر فى رأيه"، وليس مهما أن يستقر فى لاوعى القارئ أن التجربة الأسبانية احتلال مثل الصهيونية.. وهكذا يدفعنا الاستخفاف والخفة فى الصحافة إلى أن نحشو عقل القارئ بهذه الترهات".

 الى هذه الدرجة تعمي الأيديولوجيا البصيرة، وتفسد الضمير الإنساني، وتجعل ناقد ومثقف كبير يتعامى عن حقيقة بسيطة، وهي أن فرعاً من قبيلة قريش قاد جيشاً واحتل ارضاً ليست أرضه، فوطنه هناك في صحراء الجزيرة العربية، فهذه ليست أرض عربية. فهؤلاء الغزاة لم يستوطنوا الأندلس (جزء من أرض إسبانيا) بالورود، بل قتلوا و سبوا ودمروا وارتكبوا جرائم لا أول لها ولا آخر.  وهذا لا يعني بالطبع أن يتم قبول ان يتم طرد احفادهم من الأرض التي ولدوا فيها، أو يتم قبول الفظائع التي تعرضوا لها.

 ستلاحظ أن الأستاذ احمد يوسف في رده لم يذكر من جانبه اسم أي مصدر من المصادر التي بكل لغات العالم، وخاصة الأسبانية التي تقول ان هذا لم يكن احتلالاً، ثم حتى لو كانت هناك مصادر، فهو دون أي شك "احتلال".    من الصعب ان تجد بالعربية مصادر تروي وجهة النظر الأخرى، وجهة نظر الأسبان فيما حدث. مثلما ليس لدينا رواية الذين هزمهم سيدنا أبو بكر عليه السلام فيما يسمى بحروب الردة، وهي كانت حروب لفرض سيطرته السياسية على القبائل في ذلك الوقت.

 وإن كان الأمر لا يحتاج الى مراجع من جانبي أو من جانب الراحل الكبير، ولكنه يحتاج الى معيار اخلاقي مستقيم، وهو رفض الإحتلال أياً كان مرتكبه.
 هناك من سيقول أن الدكتور أحمد يوسف المثقف والناقد الكبير توفاه الله، ولا يستطيع أن يرد. لكني لا اناقش شخصه ، فيجب ألا نختلف على الأشخاص، ولكن على ما يقدموه. وأنا أناقش فكرة كان يطرحها، والأفكار لابد أن نعيد النظر فيها في كل زمان. والحقيقة أنها لا تخص الدكتور أحمد وحده، فغيره كثيرين. ونحن نناقش ونعيد النظر في أفكار كل قاماتنا الذين رحلوا، فهذا لا يقلل منهم ابداً.  

 الآن إليك بعض الفظائع التي ارتكبها الغزاة وهم يغزون الأندلس: موسى بن نصير حمل الأموال التي غنمت من الأندلس والذخائر، ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم، ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى، فورد إلى الشام، وقد مات الوليد بن عبد الملك، واستخلف سليمان بن عبد الملك، وكان منحرفاً عن موسى بن نصير، فعزله عن جميع أعماله، وأقصاه وحبسه وأغرمه حتى احتاج أن يسأل العرب في معونته. الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/43).

 وبعدها وافى موسى رسول من الوليد الخليفة في أثناء غزواته يأمره بالخروج من الأندلس والعودة إليه، فساءه ذلك وماطل الرسول وهو يقصد بلاد العدو في غير ناحية التمثال يقتل ويسبي ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس حتى بلغ صخرة بلاي على البحر الأخضر، وهو في قوة وظهور، فقدم عليه رسول آخر للوليد يستحثه، وأخذ بعنان بغلته وأخرجه، وكان موافاة الرسول بمدينة لك بجليقية، وخرج على الفج المعروف بفج موسى، ووافاه طارق من الثغر الأعلى معه ومضيا جميعاً. الكامل في التاريخ لابن الأثير(4/43).

 وعن سبايا موسى بن نصير، يورد أحمد بن خالد الناصري: "قال أبو شعيب الصدفي: لم يُسمع في الإسلام بمثل سبايا ابن نصير، ونقل الكاتب أبو إسحاق بن القاسم القروي المعروف بابن الرقيق أن موسى بن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من السبي مائة ألف رأس، فكتب إليه الوليد: ويحك إني أظنها من بعض كذباتك، فإن كنت صادقاً فهذا محشر الأمة"، أحمد بن خالد الناصري، الاستقصاء/ 1954 ( نقلاً عن موقع العربي الجديد).  وقد ذكرنا أنه "افتتح" بلاد الأندلس وهي بلاد ذات مدن وقرى وريف فسبى منها ومن غيرها خلقاً كثراً وغنم أموالاً كثيرة جزيلة ومن الذهب والجواهر النفيسة شيئاً لا يحصى ولا يعدّ، وأما الآلات والمتاع والدواب فشيء لا يدري ما هو، وسبى من الغلمان الحسان شيئاً كثيراً حتى قيل إنه لم يسلب أحد مثله من الأعداء … وكان إذا سار إلى مكان تُحمَل الأموال معه على العجل لكثرتها وعجز الدواب عنها. (البداية والنهاية ـ الجزء التاسع "موسى بن نصير أبو عبد الرحمن اللخمي")

 ونضيف ايضاً : بعث ابنه مروان على جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس، وبعث ابن أخيه في جيش فأصاب من السبي مائة ألف رأس أيضاً من البربر، فلما جاء كتابه إلى الوليد وذكر فيه أن خُمس الغنائم أربعون ألف رأس، قال الناس: إن هذا أحمق، من أين له أربعون ألف رأس خمس الغنائم؟ فبلغه ذلك فأرسل أربعين ألف رأس وهي خمس ما غنم، ولم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير أمير المغرب، وقد جرت له عجائب في فتحه بلاد الأندلس وقال: ولو انقاد الناس لي لقدتهم حتى "أفتح" بهم مدينة رومية، وهي المدينة العظمى في بلاد الفرنج، ثم ليفتحها الله على يدي إن شاء الله تعالى، ولما قدم على الوليد قدم معه بثلاثين ألفاً من السبي غير ما ذكرنا، وذلك خمس ما كان غنمه في آخر غزوة غزاها ببلاد المغرب، وقدم معه من الأموال والتحف واللآلي والجواهر ما لا يعد ولا يوصف. (البداية والنهاية) ( نقلا عن الأستاذ كريم مجدي .. موقع العربي الجديد). 

  ويذكر كتاب المؤلف داريو فرنندز- مُرِرَ «خرافة الفردوس الأندلسي - مسلمون ومسيحيون ويهود تحت الحكم الإسلامي في إسبانيا القرون الوسطى» انه تم تدمير الحضارة الناشئة في الأندلس، وانه تم غزو البلاد بقوة السلاح، وتمت معاملة السكان الأصليين ك" اهل ذمة"، أي مواطنين من  الدرجة الثانية وربما العاشرة. وهناك فصل بعنوان «حقائق الحياة اليومية في الأندلس»، تجد «خرافة التسامح الأموي: محاكم التفتيش، قطع الرؤوس، الخوزقة، والصلب» و «المرأة في إسبانيا المسلمة: الخفاض، الرجم والحجاب والعبودية الجنسية» و «حقيقة العصر الذهبي لليهود»، و«أوضاع المسيحيين: من الذميين إلى الإبادة» (نقلاً عن موقع الأخبار اللبناني).

 كان الأستاذ أحمد يوسف تعبير عن تيار عريض من الناصريين والبعثيين ( القوميون) في الشرق الأوسط، الذين رفعوا شعار القومية العربية، (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) ليس من باب وجود مصالح محتملة بين شعوب الشرق الأوسط الناطقة بالعربية، ولكن لفرض ايديولوجيا محددة عليهم، لأنهم يتحدثون لغة واحدة ( وهذا غير صحيح) ودينهم واحد (وهذا غير صحيح)، فلابد أن نوحدهم ب"العافيه". أي انهم نسبوا شعوب الشرق الأوسط بالزور لعرب الجزيرة العربية، الذين احتل بعضهم ودمر شعوب الشرق الأوسط و دمروا حضاراتها القديمة.

 في حين أن اللغة لا تعني الإنتماء الوطني، فهناك عديد من الدول في العالم تتحدث الأسبانية، لكنهم ليسوا اسبان. شعوب تتحدث الفرنسية لكنهم ليسوا فرنسيين، وليس لأننا نتحدث اللغة العربية، لغة المستعمر، فهذا يعني اننا عرب. 

 هذه الأيديولوجيا "القومية" كان تحتاج إلى درجة كبيرة من تزوير التاريخ، مثل تزوير صورة الغزاة العرب القادمين من الجزيرة العربية، تحولهم الى ملائكة، مثلما فعل الإسلاميين. فهذا ليس غزو ولكن "فتح"، هؤلاء كان هدفهم نشر الإسلام… الخ. ونحن أبناء "الثقافة العربية والحضارة العربية" .. الخ. أي نسبونا بالقوة الى ثقافة أبناء صحراء الجزيرة العربية، ومع كامل الاحترام لهم، فالثقافة المصرية تختلف كثيراً عنهم. عرب الجزيرة في ذلك الزمان، على سبيل المثال ثقافتهم شفاهية، لكن المصريين أبناء حضارة سجلت كل شيئ كتابة على جدران المعابد وفي أوراق البردي. لكنهم تجاهلوا وحاربوا التنوع الضخم لشعوب الشرق الأوسط الناطقة بالعربية، تنوع ديني، تنوع عرقي، تنوع لغوي . كل هذا لابد أن يتم دمجه بالتزوير وبالقوة تحت اسم "الثقافة العربية" وتحت راية عرب الجزيرة العربية.

 اتذكر في شبابي عندما كنت اعمل في ارشيف جريدة الشعب كيف تم شن حملة ضارية لأن هناك مطالبات بالحفاظ على اللغة والثقافة النوبية، ونشروا الاتهامات حول أهداف الإنفصال والإستقلال والمؤامرة الغربية لتدمير مصر والعرب والإسلام .. الخ. وكان زميلي وصديقي الذي يقود الحملة رحمه الله، مزهواً بكون يدافع عن الوطن. وهو في الحقيقة يدافع عن محو اقلية من حقوقها البديهية الحفاظ على لغتها وثقافتها وخصوصيتها، لكنه العقل السائد الذي لا يعترف بوحدة التنوع. ولكن باننا كلنا لابد أن نكون وحدة واحدة لغوية وثقافية .. الخ. وكان طبيعياً أن من يؤمن بذلك لابد أن يكون ديكتاتوراً، وهذا ما مارسه الحكام القوميين. فجمال عبد الناصر على سبيل المثال أغلق معابد البهائيين المصريين وألغى الإعتراف بهم وبدينهم، فهو يؤمن بأننا جميعاً لابد أن نكون "أمة عربية واحدة"، فلا حرية عقيدة ولا حريات عامة من أساسه.   

 كما كرسوا كذبة الحضارة العربية الإسلامية، وهي كما كتبت بحث طويل، اثبت فيه ان هؤلاء الغزاة العرب سرقوا المنتجات الحضارية للشعوب التي احتلوها ونسبوها لأنفسهم (هناك بحث من جزئين موجود علي الإنترنت)، كل هذه بهدف خدمة أيديولوجيا ما يسمونه "القومية العربية".

 لم تكن هناك مشكلة لو انهم بنوا اتحاداً مثل الإتحاد الأوروبي، فهو ليس مبنياً على أساس أيديولوجي أو ديني، لكن على مصالح مشتركة، و هدفه رفاهية الشعوب، وليس فرض أيديولوجية محددة على الأوروبيين. وعندما خرجت بريطانيا منه، لم يتهم احد الشعب البريطاني بالخيانة والعمالة وهدم الهوية .. الخ. فقد أدركت أوروبا خطورة فكرة القومية، فقد أنتجت فاشيات مرعبة في المانيا وايطاليا.  فهو اتحاد طوعي، لم يتم فيه الغاء اسم فرنسا أو السويد لصالح الإتحاد، لكن احتفظ كل شعب بخصوصيته اللغوية وغير اللغوية. 

 رغم أنني كنت طفلاً وقتها، فقد كنت اكره هذا الاسم "الجمهورية العربية المتحدة" وأسأل نفسي أين اسم مصر؟ كنت منزعجاً وشعرت بارتياح عندما عاد اسم مصر مكتوباً على السبورة في المدرسة، رغم انه تم لصق كلمة عربية بها.

 ما زلت أتذكر كيف كان يهتز قلبي عندما أقرأ أو اسمع قصيدة محمود درويش "سجل انا عربي". لقد نجحت الإمبراطورية الاستعمارية لقريش في تعظيم وتقديس "العربي" ، واخترعوا حديث نسبوه زوراً إلى سيدنا النبي بان الحاكم لابد ان يكون من قريش، حولوا الإسلام الى دين عنصري، وجاء الحكام القوميون ليكملوا الطريق : صياغة عقل ووجدان المجتمعات الناطقة بالعربية بناء على هذه الأساطير.

 كان الحكام الذين يرفعون هذه الشعارات القومية يبحثون عن شرعية لأنظمة حكمهم الديكتاتورية. ولأن استعادة الإمبراطورية الاستعمارية المنسوبة إلى الإسلام مستحيلة، فلنستعيد "القومية العربية"، نسخة أخف من الديكتاتورية الدينية لحكام امبراطورية قريش وامبراطورية العثمانيين. واذا لم تتحقق وهذا ماحدث، فقد منحت هؤلاء الديكتاتوريين شرعية وبقوا في الحكم حتى ماتوا أو قتلوا . لم يكن لدي جمال عبد الناصر مشكلة في أن يمحوا اسم بلده مصر، ليضع مكانه "الجمهورية العربية المتحدة"، فلتذهب مصر إلى الجحيم في سبيل "الإتحاد العربي" أو "الإمبراطورية العربية" التي يحلم بالجلوس على عرشها، والتي اقنع قطاعاً كبيراً من المصريين و الناطقين بالعربية، إنها "الجنة الموعودة". ومن أجلها، فلا حديث عن الحرية والديمقراطية والعدل والرفاهية ف"لاصوت يعلو فوق صوت المعركة". 

 ومن المهم هنا التأكيد على ان الشيوعيين ايضاً لديهم مشروع اممي مثل "الخلافة الإسلامية" وأستاذية العالم"، تصبح فيه مصر مجرد محطة لسيطرة الشيوعية على العالم. لعل القارئ الكريم يتذكر أن اسامة بن لادن السعودي أراد تحقيق الخلافة من أفغانستان، وجيفارا الأرجنتيني اراد تحقيق الأممية الشيوعية انطلاقاً من كوبا، وكلاهما مات قتيلاً خارج وطنه، فالوطن هنا لا قيمة له.   

 الحقيقة أن هذا لا يختلف كثيراً عن "الإمبراطورية الإستعمارية الإسلامية" التي يحلم بها الإسلاميين. فكلاهما لا يحترم "الدولة الوطنية". كلاهما يسعى الى امبراطورية استعمارية، لذلك لم يكن غريباً أن يرسل عبد الناصر الجيش المصري إلي اليمن ليؤسس ولاية تابعة له تكون جزءاً من امبراطوريته.  ليس مهماً شهدائنا بالآلاف، وليس مهماً تبديد ثروات المصريين في حروبه، وفي دعمه ما كانوا يسمونه "حركات التحرر"، وهي في الحقيقة كان شراء ولاءات لعبد الناصر ليوسع إمبراطوريته، وللعمل لصالح حليفه "الإمبريالية السوفيتية" ضد "الإمبريالية الغربية". أي انه صراع بين إمبراطوريتين لا علاقة لنا به كمصريين. 

 سببت هذه الأنظمة "القومية" الخراب في الشرق الأوسط، بلاد تعاني من القمع والفقر والإستبداد، ولم تقدم الحرية والعدل والرفاهية إلى شعوبها. ومع ذلك هناك من هم مثل الراحل الكبير احمد يوسف وغيره يدافعون عن هذه الأنظمة العنصرية الدينية القومية. ويقولون ان سبب هذا الخراب والفشل الذريع هو مؤامرات الغرب الشرير. فاذا كان هذا صحيحاً، وفيه جزء قليل من الحقيقة، فهذا يعني أن عبد الناصر حاكم فاشل لأنه لم يستطع التصدي لهذه المؤامرات، أو الوصول الى حل سياسي مع المتآمرين،  فهو ليس ضحية ولكنه لا يصلح للحكم، بل ويجب محاسبته. فدور أي حاكم هو حماية بلده وتحقيق مصالح شعبه، وعقد اتفاقيات مع اياً كان لرفاهية بلده.

 لكن تقديس الأيديولوجيا وليس البشر، تؤدي الي ما اسميه العمى الأيديولوجي المنتشر، لا يمكنه ان يرى أن عبد الناصر ديكتاتور فاشل وكان يجب محاكمته على فشله وخاصة العسكري. تسبب في ضياع سيناء، وتسبب في هزائم عام 1967 و 1954 وشهداء بالآلاف . ومع ذلك هناك من يصر على أنه بطل، بل ومقدس، وكأننا نقدس الفشلة. في حين أن الرئيس السادات هناك من يعيد ويزيد في انه خائن وعميل، في حين أنه هو من حرر الأرض بالسلاح و بالسياسة (بالقطع له أخطاء ) .  هل هناك إفساد أكثر من ذلك لضمير المصريين.؟!

 اظن ان علينا ان نعيد النظر في الأيديولوجيا القومية بشجاعة، وأظن أن الناصريين والبعثيين يحتاجون الى شجاعة اكثر لكي يعيدوا الإعتبار لفكرة "الوطنية المصرية" ومثلهم الشيوعيين. فلم تكن فكرة الدولة الوطنية راسخة بدرجة كافية في وجدان اغلب اليسار المصري بتنويعاته المختلفة، وهو ما لعب دوراً في ان يتحالفوا بسهولة مع الإخوان، وهم بالقطع ضد الدولة الوطنية. وبعد ثورات الربيع العربي وبعد الهزات العنيفة وتفكك دول، وانهيارها، اظن انه حان الوقت من القوميين واليسار لأن يتنازلوا عن "القومية العربية" و"الأممية الشيوعية" ، لتصبح مصر أولاً واخيراً، ونعقد ما نشاء من تحالفات واتحادات على أساس مصالح فقط لا غير مثل "الإتحاد الأوروبي"، وأدعوهم صادقاً من كل قلبي لأن يتأملوا المشتركات التي تجمعهم بالإخوان والإسلاميين، وأن يتخلصوا منها: 

 * القوميون لا يحترمون "الدولة الوطنية"، فهم أصحاب مشروع لا يعترف بالحدود ولا بالهوية الخاصة بكل شعب، ولا بالتنويعات العرقية داخل هذه الشعوب. "مصر" بالنسبة لهم محطة انطلاق لتنفيذ مشروع "الأمة العربية". والشيوعيين الذين لديهم مشروع أممي عالمي لا وطن أو مصر فيه.

* الإسلاميون لا يحترمون "الدولة الوطنية" وليست لديهم مشكلة في هدمها ، فهي مجرد محطة لتنفيذ حلم "الخلافة الإسلامية" أي "الإمبراطورية الاستعمارية". 

* القوميون لديهم تصور شمولي عن شكل وطبيعة الدولة والمجتمع، فمصر على سبيل المثال ليست مصرية وفقط، لكنها كما يقولون ثلاث دوائر عربية إسلامية افريقية، أي أن مصر عربية إسلامية.  وهذا يستلزم كما رأينا في مصر والشعوب التي حكمها القوميون لابد من اعادة صياغة التاريخ والمجتمع والقوانين وكل شيئ بناء على هذه الايديولوجية. أي انهم يختارون للشعب ما يجب أن يعتقد ويؤمن ومن يخرج عن ذلك مصيره كما فعلوا السجن أو القتل .. الخ.ومثلهم الشيوعيون لديهم ايديولوجيا شمولية تتحكم في تفاصيل حياة الناس. 

* الإسلاميون وعلى رأسهم الإخوان لديهم ايضاً مشروع شمولي وهو دولة "الإسلام والخلافة"، وبالطبع مثلما فعلوا و يفعلوا في الدول التي حكموها ان يتم اعادة صياغة التاريخ والمجتمع والدولة وكل شيئ بناء على ذلك. ومن يرفض السجن والقتل .. الخ.

* القوميون عندما حكموا كانوا ديكتاتوريين بلا أي حريات عامة على الإطلاق، وبقليل من الحريات الفردية. والشيوعيون عندما حكموا في أي مكان في العالم كانوا ديكتاتوريين دمويين، ويمكنك النظر على كوبا البائسة أو فنزويلا الدولة الغنية لتي خربوها، أو الصين التي يحكمها حزب واحد بالحديد والنار.
* الإسلاميون والإخوان عندما حكموا كانوا اكثر ديكتاتورية من القوميين بالتأكيد، لا حريات فردية ولا حريات عامة ولا أي شيء.

* ما نسميه الإسلام السياسي حكم الشرق الأوسط لأكثر من 1400 عام، وما زال يحكم بدرجات مختلفة ولم يقدم سوى الخراب. والقوميين حكموا الشرق الأوسط (منهم كمال اتاتورك في تركيا) ولم يقدموا سوى خراب اقل من الإسلاميين والإخوان، لكنه في النهاية خراب.

* الإسلاميون والإخوان دعموا ويدعمون أنظمة حكم ديكتاتورية مثل أردوغان في تركيا وقطر.

* القوميون دعموا انظمة حكم ديكتاتورية مثل صدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا وآل الأسد في سوريا، ويدعمون نظام فاشي ديني مثل إيران. والشيوعيين مازالوا يدعمون حتى الآن دولة ديكتاتورية مثل كوبا، بل ويتعاطفون مع ديكتاتورية بوتين، والنظام الديكتاتوري في الصين.
* الإسلاميون والإخوان سلفيون يريدون استعادة "الإمبراطورية الإستعمارية الإسلامية".

* القوميون سلفيون يريدون استعادة انظمة حكم ديكتاتورية مثل عبد الناصر، ويحلمون بإمبراطورية استعمارية عربية.

* الإخوان والإسلاميون  يرحبون بالاحتلال العربي لمصر ومن بعده الإحتلال العثماني، ويرحبون باحتلال عرب الجزيرة لأي مكان في العالم مثل "الأندلس"، لكنهم غاضبون من الإحتلال البريطاني لمصر، والأوروبي للشرق الأوسط. 

 من المؤكد أن هناك قطاعات في اليسار أعادت التفكير في الإحترام المقدس لفكرة الدولة الوطنية، واتمنى ان يلغون بالكامل من ايديولوجيتهم كل ما يتعارض مع هذه الفكرة. ونتخلى عن بناء دولة لها أي دين، "اسلامي" أو "قومي" أو شيوعي اممي. لا اظن اننا نريد تياراً يحكم البلد لينفذ ايديولوجيته، ليصوغ البلد بطابعه العربي الإسلامي أو الإسلامي العربي. نريد حكام مشروعهم بناء وطن مصري على الحرية والعدل، وطن لا يقدس ايديولوجيا، ولكن يقدس الحريات الفردية والعامة. وطن علماني ديمقراطي حر.