سعيد شعيب
ربما من المفارقات المدهشة أن زعيم حزب الوفد (الليبرالي) “سعد زغلول” بذل جهدًا مستميتًا للدفاع عن الاحتلال العثماني لمصر. نعم هذا حدث، فقد هاجم بشراسة كتاب الشيخ الأزهري “علي عبدالرازق” (الإسلام وأصول الحكم) الذي يدمر فيه الأساس الديني الذي يزعم أن “الإسلام دولة وخلافة”، وبالتالي فهو يقوض الشرعية الدينية للاحتلال التركي العثماني لمصر، ويقوض أيضًا أحلام خديوي مصر وقتها في أن يكون “خليفة المسلمين”.

لكن للإنصاف لا بد من القول، إن “سعد زغلول” (ربما أتناول ذلك في مقالات قادمة) لم يكن وحده، فقد كان هناك قطاع لا يُستهان به من النخبة السياسية والثقافية مؤيدًا لبقاء الاحتلال التركي، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا بعد تخلي “مصطفى كمال أتاتورك” عن الخلافة، فلا بد من استعادتها مرة أخرى عن طريق أي حاكم مسلم.

في ظل هذه الثقافة المهووسة بـ”الخلافة” واستعادتها، صدر كتاب بعد عام واحد من سقوط الدولة العثمانية هو (الإسلام وأصول الحكم) للأزهري الشيخ “علي عبدالرازق”، ليقطع الطريق على “الملك فؤاد” وكل من يحلمون باستعادة هذه الإمبراطورية الاستعمارية، فهو يقضي على فكرة الخلافة من أساسها، لأنه يقول باختصار إن الإسلام دين وليس دولة أو خلافة، وإن سيدنا النبي كان رسولًا وليس ملكًا، وإنه لا يوجد في القرآن ولا في الأحاديث ما يدعم أن الإسلام دولة وخلافة.

بل ويضيف الشيخ الجليل: “ليس بنا حاجة إليها لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، فإنما كانت الخلافة -ولم تزل- نكبة على الإسلام والمسلمين”.
جمع “علي عبدالرازق” الآيات والأحاديث والوقائع التاريخية ليؤكد أن الخلافة والدولة لم تكن أبدًا ركنًا من أركان الدين إلا عند الشيعة وحدهم، وأن النبي محمد (ص) كان يُسيّر أمور الناس بصفته نبيًّا وليس حاكمًا، و”معاذ الله أن يجعل عز الدين وذله منوطين بنوع من الحكومة، ولا بصنف من الأمراء، ولا يريد الله جل شأنه لعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة، ولا تحت رحمة الخلفاء”(1).

فماذا كان رد فعل حزب الوفد (الليبرالي)؟
حسب كتاب “سعد زغلول.. ذكريات تاريخية” لـ”محمد إبراهيم الجزيري”، فإن زعيم ثورة 1919 وزعيم حزب الوفد لم يعترض على نشر الكتاب، لكنه هاجمه قائلًا: “كيف يكتب عالم ديني هذا الكلام في مثل هذا الموضوع؟! الرجل جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعي أن الإسلام ليس دينًا مدنيًّا ولا هو بنظام يصلح للحكم؟ فأي ناحية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟”. يستكمل “سعد زغلول” منتقدًا: “أَوَ لَمْ يقرأ أن الأمة حكمت بقواعد الإسلام عهودًا طويلة كانت أنضر العصور؟ كيف لا يكون الإسلام مدنيًّا ودين حكم؟”(2).

ستلاحظ هنا أن “سعد زغلول” يعتبر أن الخلافة المنسوبة إلى الإسلام جزء من الدين، وأن الإسلام وقواعده هو الذي كان يحكم الأمة عبر حكامها، ومن ثمّ فهو يضيف شرعية دينية لهذه الإمبراطورية الاستعمارية التي استغلت الدين، وبالتبعية فهو يضيف شرعية دينية للإمبراطورية الاستعمارية العثمانية (الأتراك) الذين يحتلون مصر، ومن ثم فمعركته ليست ضد فكرة الاحتلال، ولكن ضد أن يكون المحتل إنجليزيًّا مسيحيًّا وليس مسلمًا.

ويضيف زعيم الأمة المصرية: “الذي يؤلمني حقًّا أن كثيرًا من الشبان الذين لم تَقْوَ مداركهم في العلم القومي والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد، سيتحيزون لمثل هذه الأفكار خطأ كانت أم صوابًا، دون تمحيص ولا درس”. ووصل هجوم “سعد” إلى درجة اتهام كتاب “علي عبدالرازق” بـ”هدم قواعد الإسلام الراسخة”(3). أي إن الاستعمار والاحتلال في رأي الزعيم “سعد زغلول” من “قواعد الإسلام الراسخة”، وكأنك تسمع أحد قيادات الإخوان أو داعش أو القاعدة، فهو يعتبر أن الاستعمار التركي جزء من الدين، رغم أن “سعد زغلول” كما جاء في مذكراته لم يكن متدينًا بالمعنى السائد. وفي هذه الحالة ليس مهمًّا فكرة “الوطن” و”مصر”، وهذا بالضبط ما قاله “مهدي عاكف” في حوار له معي “طظ في مصر أبو مصر واللي في مصر”، فقد كان زعيم الأمة أسير الثقافة السائدة التي رسختها إمبراطورية قريش ومن بعدها إمبراطورية آل عثمان، بأن الإسلام “دولة وخلافة”(4). وهي النسخة التي يتبناها الإخوان وعموم الإسلاميين، ويحلمون باستعادتها.

لقد وصل هجوم الزعيم الليبرالي “سعد زغلول” على الشيخ “علي عبدالرازق” إلى أنه أيّد قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ “علي” من زمرتهم، ولا عيب فيه، لأن لهم حقًّا صريحًا بمقتضى القانون، أو مقتضى المنطق والعقل، أن يُخرجوا من يخرج على أنظمتهم من حظيرتهم، فذلك الأمر لا علاقة له مطلقًا بحرية الرأي(5).

لكن لحسن حظ مصر والشرق الأوسط كان هناك رأي مخالف لـ”سعد زغلول”، هو “عبدالعزيز فهمي باشا”، الذي استقال من حزب الوفد في ديسمبر 1920، وشارك في تأسيس “الأحرار الدستوريين” ثم تولى رئاسته، كان يشغل حينها وزيرًا للحقانية (العدل حاليًّا)، وعندما جاءه قرار شيخ الأزهر بعزل مؤلف الكتاب ليصدِّق عليه بصفته، رفض التوقيع، ورد: “لم أجد فيه أدنى فكرة يُؤاخَذ عليها مؤلفه، ثَقُل على ذمتي أن أنفذ هذا الحكم الذي هو ذاته باطل لصدوره من هيئة غير مختصة بالقضاء، وفي جريمة الخطأ في الرأي من عالم مسلم يشيد بالإسلام”.

كان رئيس حزب الأحرار الدستوريين” وقتها يرى أن كتاب “علي عبدالرازق” تعرض للتأويل وسوء الفهم، وهاجم كل من اتهمه بالخروج من الإسلام. لكن تسبب موقف “عبدالعزيز فهمي” في نقله من الإشراف على وزارة الحقانية، فجاء القرار الحزبي من “الأحرار الدستوريين” برفض تهميش “فهمي”، واستقال كل وزرائهم من الحكومة(6).

“محمد حسين هيكل” (تولى لاحقًا رئاسة حزب الأحرار الدستوريين) أعطى للصراع حول “الخلافة” بُعدًا آخر حينما قال: “تريد إنجلترا أن يكون هناك خليفة، وأن يكون هذا الخليفة واحدًا من الملوك أو الأمراء الواقعين تحت نفوذها.. حيلة سحرية تستطيع جمع كل القوى حول الملك فؤاد لتصفية بقايا ثورة 1919. وبتلك الحيلة نفسها تستطيع إنجلترا أن تكسب المسلمين في الهند وتبعدهم عن فكرة غاندي الداعية للوحدة بينهم وبين الهندوس، ولذلك ضحى الإنجليز بعلاقتهم القوية مع حزب الأحرار الدستوريين، وتخلوا عن مناصرة الشيخ علي عبدالرازق”(7).
ستلاحظ هنا نقلة نوعية، فـ”هيكل” يرفض الاحتلالين، التركي والإنجليزي، ويرى أن الإنجليز يريدون استخدام فكرة “الخلافة” لمنع استقلال الشعوب التي تحتلها.

لكن ولحسن حظ مصر مجددًا، تمت إعادة الاعتبار للشيخ “علي عبدالرازق”، فقد تم تعيينه وزيرًا للأوقاف (بين 28 ديسمبر 1948 و25 يوليو 1949) في الوزارة التي رأسها “إبراهيم عبدالهادي باشا” الذي كان رئيسًا للديوان الملكي في عهد “الملك فاروق”. كما شغل “عبدالرازق” عضوية مجلس النواب، ومجلس الشيوخ. وعين عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة(8). لكن مع ذلك فكتاب الرجل واجتهاده العظيم لم يتم تدريسه في الأزهر وفي التعليم العام، وطواه النسيان إلى حد كبير.

موقف “سعد زغلول” زعيم حزب الوفد كان تعبيرًا عن ثقافة إسلامية سائدة ترسخت طوال أكثر من 14 قرنًا، في ظل ما يُسمى بـ”الخلافة”، سواءً التي أقامها بعض قادة قبيلة قريش وآبائهم وأحفادهم أو التي أقامها العثمانيون، وهي التي تعتبر أن الإسلام ليس دينًا فقط ولكنه أيضًا “دولة وخلافة”، وكان هذا طبيعيًّا، فهذه الإمبراطوريات كانت تحتاج إلى شرعية دينية، وهو ما حدث، واستخدمت الإسلام. وهو ما يحاول الإخوان وعموم الإسلاميين الآن تكراره مجددًا. استخدام الإسلام لبناء إمبراطورية استعمارية سنية يكون خليفتها “أردوغان”، أو إمبراطورية شيعية يكون خليفتها من حكام إيران.