فاروق عطية
   ذكرت في المقال السابق أن الأقباط المسيحيين في عصر محمد علي باشا قد حظوا منذ توليه حكم مصر سنة 1805م بسياسة التسامح وروح المساواة بين جميع المصريين التي كانت مفقودة في العهود السابقة خاصة إبان حكم المماليك، فقضى على التفرقة بين المسلمين وهم الأغلبية واليهود والمسيحيين وهم الأقلية. وذكرت واقعة الخلاف بين تاجر مسلم وشخص مسيحي بسبب قطعة قماش تالفة، حيث انتهت المشادة بأن قتل التاجر المسلم ذلك الرجل المسيحي، وكيف أصر محمد علي باشا علي القصاص من التاجر المسلم وتوقيع عقوبة الإعدام عليه على رؤوس الأشهاد، ولم يكتف بذلك بل أرسل مندوبا من طرفه، طاف بالأسواق، وأعلن للجميع أن الإعدام سوف يكون مصير كل من يجرؤ على تكرار هذه الفعلة الشنعاء.
 
   وهناك موقف آخر يدل على كيف كان ينظر المسلمون إلى المسيحيين في ذلك الوقت؛ فحدث ذات يوم جريمة في الإسكندرية ارتكبها مراكبي مسلم، وكان الضحية شابًا مسيحيًا قُتل وتم إلقاء جثته في البحر، ثم اكتُشف القاتل وصدرت الأوامر بالقبض عليه وإرساله إلى السجن لحين تنفيذ حكم الإعدام فيه ونصبت المشنقة بالقرب من عامود بطليموس. فسارت جموع غفيرة من الناس خلف المحكوم عليه بالإعدام في أثناء اقتياده لتنفيذ الحكم وهي تشعر بالمهانة وتردد همسًا: «كيف يشنق مسلم لأنه قتل كافرًا؟!»، «ألم يعلمنا أساتذتنا في القانون أن حياة المسلم تساوي حياة عشرة من الكفرة؟!»، «إذا تم شنق هذا الرجل فعلينا إذن أن نقتل تسعة آخرين من هؤلاء المسيحيين الكلاب». ولكن بمجرد أن أعلن طاهر بك رئيس البوليس، أن الوالي أمر بشنق أي شخص تسول له نفسه لإبداء أقل ملاحظة إلى جانب القاتل، صمت الجموع وولوا الأدبار هاربين.
 
   هذا هو الدرس الأول الذى قدمه لنا محمد علي باشا، لكنه لم يكتفى بذلك. فقد تميز عصره بالمواطنة المتساوية بين جميع المصريين. ومن أهم القرارات التي أصدرها محمد على باشا لتطبيق مواطنة متساوية مع المصريين ما يلي:
 
 1ـ ألغى قراراً ينص على إجبار الأقباط المسيحيين علىإرتداء أزياء معينة ذات لون أسود أو أزرق خاصة بهم وحدهم فقط وذلك بقصد السخرية منهم، والتي كانت مفروضة عليهم من قبل السلطنة العثمانية التي كانت ملتزمة بالشريعة الإسلامية والوثيقة العمرية، فخلع الأقباط المسيحيون الزي الأزرق والأسود وأصبحوا يلبسون الكشمير الملون، وخلعوا الجلاجل النحاسية التى تسببت فى إزرقاق عظام الترقوة التي سمي بسببها الأقباط المسيحيون بـ "العظمة الزرقاء".
 
2ـ سمح  لهم بركوب البغال والخيول، ولا شك ان هذا كان ممتعاً لهم ان يتمتعوا بالحرية وأن يركبوا ما شاؤوا من الدواب.
 
3ـ السماح لهم بحمل السلاح وذلك لأول مرة منذ غزو عمرو بن العاص لمصر، وقد أفادهم ذلك في واقعة حدثت في عام 1814م حين قامت حامية القاهرة بالتمرد، فخاف الأقباط المسيحيون على أرواحهم وأستبد بهم الرعب في أحيائهم فأقاموا المتاريس وأغلقوا الأبواب وتسلحوا بالبنادق لحماية أنفسهم من الغوغاء. فقام الباشا بإمدادهم بالبارود وآلات الحرب وأمّنهم على أرواحهم ومنازلهم. 
 
4ـ توفير مناخ حرية بناء الكنائس وممارسة الطقوس الدينية، فلم يرفض أي طلب تقدم المسيحيون به لبناء أو إصلاح أى كنيسة. 
5ـ كان محمد على باشا أول حاكم مسلم يمنح موظفي الدولة من الأقباط رتبة الباكوية عرفانا بخدماتهم لمصر كما أتخذ له مستشارين من الأقباط المسيحيين.
 
5ـ فى عام 1837م صار كبار الموظفين، فى عهده من كبار ملاك الأراضى الزراعية، ولم يفرق محمد على بين مسلم ومسيحى فى تملك الأراضى وزراعتها.
 
6ـ فى عام 1839 صدر مرسوم، بأعفاء الأقباط المسيحيين من دفع الجزية.
 
 كثيرا ما عاني الأقباط المسيحيون في عهد المماليك من صعوبات عديدة للحصول علي إذن بزيارة الأراضي المقدسة، لكن برعاية وتسهيلات محمد علي باشا أصبح الأمر ميسرا وممهدا، فقد عثر على أول وثيقة تعود إلي عام 1825م يوصي فيها محمد علي باشا متسلم غزة بالأقباط المسيحيين الذين يرغبون في الحج إلى القدس، وألا يدع لأحد مجالا للتدخل في شئونهم، وعثر علي وثائق أخرى بهذا المعنى بين عامي 1827 و1828م موجهة لمتسلمي غزة والقدس، كان الباشا يوصيهم فيها بحماية الرهبان والزوار الوافدين إلى القدس كعادتهم كل عام، حاملين قفص الشموع إلى كنيستهم بالقدس وبحمايتهم وإكرامهم عند وصولهم إلى غزة والقدس.
 
   أما عن الحملات الحربية التي كان يشنها محمد على فقد تحمل الأقباط المسيحيون نصيبهم في النفقات واشتركوا فيها كجنود وقواد واختلطت دماؤهم مع أخوتهم المسلمين في غزوات الشام وجبال المروة وسهول آسيا الصغرى، وقد دفع الأقباط الأرثوذكس مائتي ألف ريال مساهمة في دفع مرتبات الجنود ودفع الأخوة الكاثوليك ثمانية آلاف ريال.
 
   كان محمد علي باشا حاكماّ عبقرياً، فقد أدرك أنه لكي ينهض بمصر، ويقيم الدولة القوية الحديثة، فلابد من الاستفادة من كل الخبرات والكفاءات المصرية، بصرف النظر عن ديانتهم والالتزام بمبادئ العدالة بينهم، أو ما نسميه فى أيامنا هذه «المواطنه»، وتطبيقاً لهذه الأفكار، نقرأ فى كتاب «قصة الكنيسة القبطية» ص262 مايلي: 
 
ـ أسند محمد علي باشا منصب كبير المباشرين، إلى المعلم غالي أبو طاقية (والمباشرون هم من كانوا يقومون بجمع الضرائب)، ومنصب كبير المباشرين، يعادل حاليا منصب وزير المالية. وكان المعلم غالى هو اليد اليمنى لمحمد علي باشا، وهو الذي وضع نظاما متقدما لجباية الضرائب. 
ـ ويقول «أمير نصر» في كتابه «المشاركة الوطنية للأقباط في العصر الحديث» ص21: إن الأقباط قد تبوأوا مراكز عليا فى الدولة، حيث قام محمد على باشا بتعيين نسبة كبيرة منهم حكاما للأقاليم (وهذا المنصب يعادل اليوم منصب المحافظ)، فعلى سبيل المثال تم: 
1ـ تعيين فرج أغا ميخائيل، حاكما لمركز دير مواس.
2ـ تعيين بطرس أغا أرمانيوس مأمورا لمركز وادي برديس (وتضم قنا ومديرية جرجا)
3ـ تعيين ميخائيل أغا عبده حاكما للفشن ببنى سويف.
4ـ تعيين تكلا سيداروس حاكما لبهحورة.
5ـ تعيين أنطون أبو طاقية حاكما للشرقية.
6ـ تعيين مكرم أغا حاكما لأطفيح.
7ـ تعيين المعلم وهبة إبراهيم فى منصب كبير الكتبة، وهذا المنصب يعادل حاليا منصب رئيس ديوان رئيس الجمهورية.
8ـ اختار المعلم باسيليوس ليتولى الإشراف على التنظيم الإدارى، وإضافة لهذا فقد أحاط محمد على باشا نفسه بعدد من المستشارين الأقباط المسيحيين.
   من هنا نجد أن محمد على باشا كان شخصية كاريزمية طموحة، فسخر كل الإمكانيات لتقدم مصر لمواكبة الدول الكبرى، فاتجهت سياسته نحو استغلال كل الخبرات والكفاءات مهما كان دينها أو ملتها مادام هدفه هو مصر أولاً. لذلك استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل بين دول العالم.
 
بعد انسحاب الجنود المصرية من بلاد الشام وفصلها عن مصر وعودتها للدولة العثمانية بدعم دولي كبير، وبعدما تبيّن أن فرنسا ليست مستعدة لخوض حرب في سبيل مصر وواليها، أصيب محمد علي باشا بحالة من جنون الارتياب وأصبح مشوش الفكر ويعاني من الزهيمر نتيجة تقدم السن. وما زاد حالتة سوءًا كانت المصائب التي حلت بمصر وعليه شخصيا، ففي عام 1844م تبين لشريف باشا رئيس الديوان المالي أن ديون الدولة قد بلغت 80 مليون فرنك فرنسي، وأن المتأخرات الضريبية قد بلغت 14081500 قرشا من الضريبة الإجمالية المقدرة بحوالؤ 75227500 قرشا. وعندما علم محمد علي باشا بذلك فاق غضبه ما توقعه الجميع، ولم يهدأ باله ويستكين خاطره إلا بعد مرور ستة أيام. وحين اشتدت عليه الشيخوخة، وبحلول عام 1848م اضيب بالخرف وأصبح توليه عرش الدولة مستحيلا، عزله أولاده وتولي ابراهيم باشا الحكم. حكم إبراهيم باشا مصر لـ 6 أشهر فقط، قبل أن يتمكن منه المرض وتوافيه المنيّة في العاشر من نوفمبر 1848م، فخلفه عباس حلمي ابن أخيه طوسون. عاش محمد علي باشا بضعة شهور بعد وفاة ولده ابراهيم، وتوفي في قصر رأس التين بالاسكندرية في 2 أغسطس 1849م، ثم نقل جثمانه إلى القاهرة حيث دفن في مسجده بالقلعة.