فيفيان سمير 
 
تزلزلت الأرض تحت قدميها وهي تستمع لصراخ والدة خطيبها، وكلماتها القاسية الجارحة عبر الهاتف، متهمة اياها بالكذب والخداع فيما يخص حقيقة سنها، فقد رأت بطاقتها الشخصية ضمن أوراق عقد القران، وعلمت أنها في الثامنة والثلاثين منة عمرها فانفجرت ثورتها، رغم أن أبنها يكبر عروسه بسنتين، زادت في إيلامها بأنها ترغب في أحفاد، لا في زوجة على مشارف سن اليأس، يطوف بها ولدها المستشفيات، وأنهت المكالمة بصفعها أنها يجب ألا تفكر في الزواج بعد الان فقد فاتها القطار. 
 
رغم علم خطيبها بحقيقة سنها منذ اليوم الأول، وحبه الشديد لها، إلا أنه لم يستطع التمسك بها، والدفاع عنها أمام جبروت والدته، وإصرارها على عدم إتمام عقد القران وفسخ الخطوبة، ضاربة عرض الحائط بكل تبعات الغاء الفرح قبل موعده بثلاثة أيام. 
 
انهارت العروس المصدومة، دخلت في نوبة اكتئاب حادة استغرقت شهورا لعلاجها بالمستشفى، خرجت منها فاقدة الثقة في نفسها، غير راغبة في الحياة، خجلي من مواجهة الناس، بل رافضة لمخالطتهم حتى في مجال عملها كطبيبة. 
 
تألم والديها كثيرا لرؤية ابنتهما بهذا الضعف والحزن، وعجزهما عن مساعدتها أو التخفيف عنها، إلى أن اهتديا إلى فكرة أبعادها عن كل ما يذكرها بما حدث، وسفرها لتقييم مع أخيها الأكبر في إنجلترا، لتستكمل دراسة الدكتوراه التي أجلتها كثيرا، وتنشغل عن التفكير في أحزانها. بالفعل سافرت وفرح بها أخيها وأسرته وكانوا لها خير عون. 
 
أقبلت على دراستها بنهم، انغمست في عملها بسعادة الهتها عن التفكير في أي شيء آخر، شيئا فشيئا بدأت تعود لطبيعتها المرحة القوية، لكن من ان الى اخر كان يدوي داخلها ذلك الصوت الصارخ بانتهاء صلاحيتها كأنثى، لها كل الحق في الزواج والامومة، فتحاول اسكاته والهروب منه. 
 
في أحد أيام العمل بالمستشفى الجامعي اختلفت مع الممرضة حول أسلوب علاج أحد المرضى، أخبرتها الممرضة أنها تعليمات رئيس القسم، الذي كان يقف على مقربة منهما وسمع مناقشتهما الحادة، فتدخل بهدوء طالبا من الممرضة الانصراف إلى عملها ومن الطبيبة اللحاق به بعد قليل في مكتبه. 
 
دخلت مكتب رئيسها، الذى لم تلتقى به منفردين من قبل، وفى تحدى وانفعال دافعت عن وجهة نظرها في خطأ العلاج الذى حدده للمريض، وبمنتهى البرود الإنجليزي المعروف، أجابها أنها لا تعرف الحالة جيدا، لا تعرف أن المريض لديه مشاكل صحية كثيرة تمنعه من تعاطى بعض العقاقير الأكثر فاعلية كما تظن هي، كما أنها أخطأت في مناقشة السياسة العلاجية للمريض أمامه، فهذه الأمور تتم في المكاتب وليس بين المرضى، فاعتذرت عن اندفاعها وحماسها الزائد، همت بالانصراف، لكن أوقفتها كلمات الطبيب بالعربية وبلهجة مصرية صحيحة "مع السلامة"، التفتت له غير مصدقة، فملامحه الأوروبية وأسمه يدلان على أنه إنجليزي الجنسية، لكنها علمت فيما بعد أن والدته مصرية. 
 
أزداد تقاربهما يوما بعد يوم، وتسلل ذلك الساحر الخفي إلى قلبيهما. في أمسية شديدة الرومانسية، طلب منها الزواج، حينها فقط تذكرت مأساتها السابقة، خاصة وأن والدته مصرية قد تحمل نفس العقلية والمفاهيم الظالمة كغيرها، وهى في النهاية أم، غير أن عمرها أضيف له سنتين، لاحظ ترددها وارتباكها، للوهلة الأولى تخيل أنها لم تحسم أمر علاقتهما بعد، افلتت دموعها رغما عنها للذكرى الأليمة والخوف الذى تملكها من تكرارها، وقف حائرا أمام حالها الغير مفهوم بالنسبة له، لم يجد أمامه غير الانسحاب في صمت، ربما يخفف ذلك من اضطرابها ويعطيها الوقت الكافي لاتخاذ قرارها دون ضغوط، وقف لينصرف، في حركة سريعة تشبثت بيده في رجاء صامت ألا ينصرف، في هذه اللحظة بالذات هي أحوج ما تكون لدعمه، لوجوده، لطمأنته لها وتقويتها أمام هواجسها، منكسة الرأس، وهى الفتاة القوية، خرجت كلماتها الخجالى تروى له كل شيء، صارحته بمخاوفها أن تواجه ذات الموقف ثانية، أو أن تعجز بالفعل عن تحقيق حلم الأبوة له، أبتسم، مد يده ليمسح دموعها، أحتوى وجهها الحزين في لحظة الفرح بين كفيه، وجاء صوته الواثق مؤكدا لها، أنه لا يرغب إلا في أن يقضى ما بقى من عمره معها، وإن لم يرزقا بأطفال فستكون هي طفلته، التي لن يمل من تدليلها، أما بالنسبة لوالدته، فلا يعنيها إلا سعادته وهى السيدة التي عاشت أغلب عمرها في مجتمع يحترم خصوصية الأخر حتى لو كان أبنها. 
 
حضرا معا لمصر، وتمت إجراءات الزفاف وسط فرحة الأهل والأصدقاء، ثم عادا لاستئناف حياتهما بإنجلترا، لكنها لم تستطع إسكات صوت الإرهاب العاصف، الذي زرعته داخلها يوما سيدة تملكها الجهل وتجردت من الانسانية والرحمة، ظل يتردد داخلها ويعكر صفو حياتها، إلى أن سمعت الصوت الذي بدد صداه وأقتلع الشوك وجراحه، صراخ طفليها التوأم.