محمد حسين يونس
يوليو1952 قفزت الطبقة الوسطي المصرية عن بكرة أبيها تهتف وترقص وتغني لابناءها من الضباط الاحرار الذين إنقلبوا علي الحياة السياسية السائدة التي إتهموها بالفساد ...وعلي تحالف مولانا الملك المعظم فاروق الاول ملك مصر والسودان مع الإقطاع من السخف أن نتصور أن جمال عبد الناصر وفكره .. كان القوة المحركة الوحيدة .. لأحداث زمنه .. و نكساته .. بل يجب أن نضع في إعتبارنا أربعة قوى .. تحركت من خلالها حركة الضباط الأحرار..

الأولي ..هو الموقف العالمي و صراعات القوى ..بين القطبين الرئيسين . و الميل لأمريكا بصفتها حاملة مشاعل التقدمية و حقوق الإنسان .. ثم اللجوء إلي الإتحاد السوفيتي للحصول علي السلاح و المصانع و بناء السد العالي .. ثم الحياد الإيجابي الذى لم يلق إستحسانا من كل من القطبين .

الثانية .. هي ..أن ضباط القوات المسلحة الذين رأوا أنهم سبب التغيير و أن عليهم بالتميز حصاد النتائج بأن يشغلوا كل المناصب الهامة و الحساسة... فأضروا بها لجهلهم بإصول الإدارة و أساليب العمل المدني خصوصا في وزارة الخارجية .. و الحكم المحلي ...و إدارة المرافق الممصرة

الثالثة ..هي نضج الطبقة المتوسطة من خلال عمل سياسي متنوع الإتجهات إستمر لنصف قرن و عدم قبول تهميشها بعيدا عن الحكم بعد سقوط الإقطاع .. و الراسمالية المتحكمة في السوق .

الرابعة.. وجود إسرائيل في المنطقة وهزيمتها للقوات العربية في 1947 ..و حمايتها بواسطة القوى العظمي.

لقد كانوا في اوروبا وامريكا و الاتحاد السوفيتي قد غسلوا أيديهم من حرب مات فيها 50 مليون بشرى منذ سبع سنوات (لا تزيد) وبدأ كل طرف يستعد لدور عالمي جديد.. يدعم به مجاله الحيوى ..و كانت مصر كما يبدو من نصيب الولايات المتحدة ..بعد أن كفت عنها العدوان الثلاثي

وكانت الطبقة الوسطي الصاعدة في مصر قد إستكملت من خلال أحزابها .. و صراعها الديموقراطي الذى يقودة الوفد ..كل أستعداداتها بعد ثورة إجتماعية وثقافية الحقتها ( اى الطبقة ) بركب المتحضرين،

كما انها كانت قد إنتهت من تهميش دورشركاء النضال سواء من قيادات الفلاحين المؤيدين أو من رجال الاعمال، وأصبحت ترغب في تولي أمر نفسها وبلدها مزيحة لسيطرة الحلف غير المقدس بين (الانجليز محتلي منطقة قناة السويس والملك حفيد محمد علي والباشاوات كبار ملاك الاراضي ) فإنقلب البكباشية من صغار الضباط علي قادتهم وعمت الافراح الوادى.

كانت مصر في ذلك الوقت تنقسم الي فسطاطين أحدهما يسكنة من يمتلك الثروة والجاه والنفوذ والالقاب والبرلمان بشقيه (النواب والشيوخ) ويلبس الردينجوت والاسموكينج ويتكلم التركية او الانجليزية..

وفي مواجهته شعب لم تزل علامات كرباج السخرة واضحة علي جلده، جائع، جاهل، تفتك به الانكلستوما و البلهارسيا و الرمد وامراض سوء التغذية حافي لا يرتدى حذاءً، يساق للعمل في تراحيل ولا توجد لديه أية حقوق ومع ذلك يحمد المولي ويحرص علي أداء الفروض وزيارة بيوت الاولياء حيث يجود هناك بملاليمه عندما يطلب العون منها أو عندما يحتفل في زفة مولدها.

وكان بينهما شريحة رقيقة من أبناء الطبقة الوسطي تنظر لأعلي بإعجاب وشبق و تمني ولأسفل بحزن عميق متدثر بفلسفة علمانية تعلمتها حديثا مع خوف من السقوط .

أبناء الطبقة الوسطي في أغلبهم كانوا من أصول ريفية (يحملون كل أمراض الريف) بعد أن استطاع أهلهم توفير فرص تعليمهم فحصلوا علي مؤهلات تسمح لهم بأن يشغلوا وظائف عامة كضباط و قضاة ومهندسين وأطباء وصحفيين ورجال أعمال وكتبة ويعيشون (هكذا ) في المدينة

أو كانوا من رؤساء العمال أو صغار التجار والحرفيين والمدرسين أو إجمالا من الذين ليسوا من كبار الملاك أومن القابضين علي مفاتيح الحياة الاقتصادية وفي نفس الوقت لم يكونوا (ايضا) من المعدمين المعتمدين علي إيرادات الترحيلة .

عندما دفعت الطبقة بوجوه شابة جديدة للحكم وضعت في سلة التكليف بجوار الامنيات الطيبة مشاكل وتناقضات عديدة أيضا ..

أهمها التغلب علي ذلك الفارق الحضارى بين أهل الريف (من الآباء و الاجداد ) و أهل المدن المطعمون بالاجانب واليهود..

التغلب علي الانفصام بين ما يتعلمه ابناء الريف في الكتاتيب و مدارس الازهر الدينية و بين ما يتعلمه ابناء الحضر في الليسيه و الانجليش سكوول و فيكتوريا كولدج ومدرسة فاروق الاول الثانوية ..

بين ما يتناوله الفقير بالمدينة بسهولة إذا جاع سندوتش فول او طعمية او رغيف ابيض وبيضة مسلوقة.. وما يتناوله الريفي بجهد فعليه النهوض كل صباح مبكرا من أجل اللحاق بالحلب والخبيز ..

الكهرباء في المدينة ولمبة الجاز في الريف، المياة النظيفة في المدينة و الطلمبة الحبشي في الريف، الشوارع المسفلته في المدينة والدروب الترابية في الريف، الامن المستقر في المدينة وشيخ الغفر الحرامي في الريف ..

الدعاة المتعلمون في جوامع المدينة و كسر الفقهاء في زاوية او مصلية القرية.. النظافة في المدينة والذباب والناموس وباقي الحشرات والقوارض في الريف .
.
لذلك كان أول قرارات المنقلبون الذين مازالت أحذيتهم متربة بتراب جرن الوالد .. تدمير منظومة الزراعة بشجاعة يحسدوا عليها منتقمين من كبار الملاك بتأميم الارض و تحديد الملكية و توزيع فدادين خمسة علي المعدمين وتوسيع مساحة الطبقة المتوسطه الريفية مع السيطرة عليها بواسطة زبانية الجمعيات التعاونية ...

لقد كانوا ينفذون قانونا تم إعدادة بواسطة الوفد و لم يوضع في التطبيق .. لكن ما جرى علي أرض الواقع كان شيئا اخر لقد نزح أهل الريف هربا من الجوع وقلة الخدمات الي المدينة وعاشوا حولها في عشوائيات يغزونها كل صباح منتشرين في طرقاتها بحثا عن اى عمل وباى اجر ناشرين معهم أسلوب حياتهم في شوارعها و حول مرافقها أو بمعني أخر ( أريفة) المدينة بدلا من( تمدين ) الريف

التكليف الاخر الذى لا يقل أهمية عن الاول كان إزاحة سيطرة الاجانب بعيدا عن مفاصل الحياةالاقتصادية

فالاجانب كانوا يسيطرون علي شركات المياة و توليد وتوزيع الكهرباء والغاز و النقل و يديرون بكفاءة السكك الحديدية والتليفونات والرى .. ويمتلكون منافذ بيع عصرية عملاقة لتجارةالجملة والقطاعي ويوجهون المدارس والبنوك و مؤسسات المجتمع المدني

وكانت هناك حركة سياسية بدأت مع طلعت حرب و إستمرت تدعو الي مواجهة الصناعات الاجنبية بتكتلات محلية (مثل مشروع القرش لبناء مصانع طرابيش بدلا من إستيرادها )..

لذلك كان القرار الثاني لرجال الانقلاب هو تمصيرممتلكات الاجانب و التخلص من أغلبهم بما في ذلك من يديرون قناة السويس علي أن يحل محلهم مصريون ظلوا يتخبطون في إدارتهم ولا يتقنون العمل لتتدهور كل المرافق التي تم تأميمها ،وفي مرحلة تالية تلحق بها المصانع التي تم ضمها الي القطاع العام الذى لم يصنع الابرة ولم يطلق الصاروخ .

التكليف الثالث كان الاستقلال التام او الموت الزؤام والذى ضحت من أجلة الجماهير بالعشرات بل بالمئات من الفدائيين والمتظاهرين والمقاطعين للعمل في معسكرات الانجليز

وهكذا بدأت مفاوضات الجلاء فورا ثم إنتهت عام 1954 بفصل السودان عن مصر وتقديم ضمانات وتعهدات(مصرية ) لتنظيم حماية الملاحة في القناة جعلت الانجليز يحتفظون بمخازن معداتهم لا تمس لاستخدامها في حالة الرجوع لتأمين المنطقة و الدفاع عنها ،و هو ما حدث فعلا ففي نفس السنة التي غادرفيها الانجليز بورسعيد عادوا ومعهم فرنسا و إسرائيل لتبدأ معارك كر وفر حول المنطقة فتنقطع الملاحة بالقناة لاكثر من مرة وتحبس سيناء عن الوادى لعقود طويلة و ها هي المعارك لم تنته بعد.

التكليف الرابع كان تكوين جيش قوى حديث يعيد أمجاد ابراهيم باشا (دون هزائمه ) و يحمي ارض مصر من عدوان (عصابات الدولة المزعومة ) و لكن كان هذا يستلزم إعادة تسليح القوات المسلحة ، الذى فشلت مفاوضاته غربا فإتجهت الطبقة المتوسطة الحاكمة شرقا لتكون جيشا (شرقيا )خاض خمسة حروب (56، اليمن، 67 ثم الاستنزاف، 73 ) لم يحقق فيها نصرا حاسما أبدا .

بقي من سلسلة التكليفات إقامة حياة ديموقراطية سليمة..

وكان تصور ابناء الطبقة الوسطي الحاكمة له ( بسبب عجز كوادرهم الحزبية المدربة ومحدودية خبرتهم ) أن أفضل نماذجها هو ما طبقه (ستالين ) كمركزية ديموقراطية مسيطره بواسطة حزب واحد علي مقدرات الجميع وأن تحالف قوى الشعب العامل ستكون الأداة المناسبة للبناء وحلا يتناسب مع طبيعة شعبنا التي لا تقبل صراعات ديموقراطية الغرب.

ثم اثبتت الايام والليالي ان التحالف كان بين عناصرالانتهازية غير العاملة و المتفرغة للتسلق ونهب الاموال وتسليم الشرفاء لاجهزة الامن التي لها سجون ومعتقلات أكثر من المدارس و المستشفيات.

اما العدالة الاجتماعية فقد كانت تعني في تصور الحكام إفقارالاغنياء وضرب حلفاء الماضي من رجال الصناعة والزراعة و الاستيراد والتصدير.. بتأميمهم ليتساوى الجميع (عدا سعداء الحظ من رجال الاتحاد الاشتراكي ) في الوقوف في طوابير الجمعية لشراء دجاجة وزجاجة زيت بالبطاقة .

لقد فشلت الطبقة الوسطي البيروقراطية في أن تحقق المهام الموكلة إليها حتي ملامح تحرر المرأة ومساواتها مع الرجل التي ظهرت في المدارس و الجامعات و مجلس الشعب و اماكن العمل نتيجة لكفاح خاضته الجدات منذ ثورة 19 تقلص وترك مكانه لميكانيكا التحرش الذى ساد بين الجميع (خصوصا بين الراقصة والسياسي )..

وسيادة قوانين المواطنة بين اصحاب الديانات المختلفة تحولت لتعصب وكوته منحطة مذلة للطرفين الطالب و المانح ،
والفن الراقي الذى بني اساساته ثروت عكاشة تحول الي رقاعة لا تتم الا في الكباريهات

.. والتعليم المجاني أصبح أكثر أنواع التعليم في العالم كلفة وأقلها فائدة ..

هل نكمل أم نعرف جميعا ما حدث ويحدث حولنا منذ اربعة عقود حكمت فيها مصر طبقة متوسطة عاجزة ( نكمل حديثنا غدا )

#دفتر_إنكسار_أهلك_يامصر