يدمن التونسيون استهلاك "الهريسة "بأنواعها التقليدية والمعلبة، وهي معجون غذائي من الفلفل الأحمر يكاد لا يغيب عن المائدة التونسية.. ويميز التراث الغذائي للبلاد حتى أن مطبخها يشتهر بهذا المنتوج في العالم.

"الهريسة" تقدم مقبلات أو تستعمل مكونا أساسيا في أغلب الأطباق مثل الكسكسي والمعجنات. وتعد ثاني منتوج غذائي الأكثر إنتاجا واستهلاكا ضمن الصناعات التحويلية للخضار والفواكه بعد معجون الطماطم.
 
وأمام النمو الهام لهذا القطاع تعمل وزارة الصناعة على تطوير جودة منتوجات "الهريسة" والرفع من القدرة التنافسية للمصانع بما يستجيب لمتطلبات الأسواق العالمية، حيث بلغت صادرات "الهريسة" بحسب مجمع صناعة المصبرات الغذائية نحو 15 ألف طن تصدر إلى 27 بلدا أهمها فرنسا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج وروسيا.
 
ويهتم المزارعون بتطوير المساحات المخصصة لزراعة الفلفل حتى تلبي احتياجات التحويل، وقد قدرت في السنوات الأخيرة بأكثر من 20 ألف هكتار فيما قدر معدل إنتاج الفلفل الخاضع للتحويل إلى مادة "الهريسة" الموجهة للاستهلاك المحلي أو التصدير بـ35 ألف طن.
 
هذا المنتوج يحظى بقيمة رمزية لدى المستهلك التونسي وتتفنن العائلات خاصة في محافظتي نابل والقيروان في صنع مؤونتها السنوية من "الهريسة " بتتبيلات متنوعة، وفي سياق هذا الاهتمام الشعبي تعمل الدولة على ترسيمها على قائمة التراث اللامادي العالمي.
 
وقد أعلن المندوب الدائم لتونس لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو غازي الغرايري في تصريح لوكالة الأنباء التونسية الرسمية أن تونس تقدمت رسميا بملف تسجيل الهريسة على قائمة التراث اللامادي سعيا لتثمين المنتوج الغذائي الذي يختص به المطبخ التونسي، وحماية للمعارف والممارسات الاجتماعية المتعلقة بالهريسة.
 
ويذكر أن محافظة نابل شرق البلاد تحتضن سنويا وفي فصل الخريف "مهرجان الفلفل والهريسة"، حيث يجتهد الطباخون على تقديم وصفات طبق "الهريسة العربي" بتوابل مختلفة تنافسهم في ذلك ربات البيوت اللواتي حفظن وخبرن وصفات عتيقة لصنعها.
 
وإلى جانب الحرفيين الذين يمتهنون صناعة "الهريسة" تحرص العائلات في مثل هذا الوقت من كل عام على إعداد مؤونتها السنوية أو ما يعرف بـ"العولة" لتخزينها.
 
في منطقة المعمورة من محافظة نابل تجمعت عشرات النسوة وسط حوش دار إحداهن تحت ظل شجرة الياسمين تكدست أمام كل واحدة منهن كومة فلفل أحمر حار مجفف نشر لأيام تحت أشعة الشمس، بدأت زينة بإزالة بذور الفلفل وقص أطرافه بحركات سريعة ومتقنة، من أجل مؤونة من "الهريسة العربية" وهي التسمية الشعبية للهريسة ذات النكهة التقليدية الأصيلة.
 
وتحدثنا زينة "اقتنيت ما أحتاج من الفلفل منذ شهر أغسطس وقمت بتجفيفه وجهزت الثوم والتوابل واليوم نجتمع لصنع "الهريسة"، أما منى (35 عاما) فتخبرنا أن سر الجودة يكمن في التوابل المستعملة من ثوم وكروية مع المحافظة على طريقة إعداد الهريسة الموروثة من الأجداد.
 
وتضيف منى "نصنع ما نحتاجه للاستهلاك العائلي وما زاد عن ذلك نبيعه للحرفاء وهم خاصة من سكان العاصمة أو المقيمين بالخارج والزوار الجزائريين والليبيين وأيضا بعض السيّاح الأجانب".
 
أما عائشة (53 عاما) فذكرت بتتويج حرفيي الجهة المختصين في الهريسة بجوائز عالمية في عدة مناسبات على غرار المهرجان الدولي للأغذية التقليدية بميلانو الإيطالية والمعرض الدولي للفلاحة بباريس وعدة معارض مغاربية.
 
من جهتها اعتبرت خديجة (62 عاما) أنه لا توجد عائلة في المنطقة لا تصنع مؤونتها من "الهريسة"، وحتى الشابات يحرصن على ذلك، فالوصفة التقليدية لا تبدو معقدة غير أنها تحتاج وقتا وإتقانا وفق تعبيرها.
 
وتضيف "لا غنى عن الهريسة خاصة في موسم الشتاء والأنفلونزا فهي غذاء ودواء تحمي من البرد كما علمنا آباءنا وأجدادنا".
 
من جهة أخرى أكد أستاذ التاريخ أنور المرزوقي أن الموطن الأصلي للفلفل الحار هو الصين والهند وقد كان مادة رئيسية في المبادلات التجارية خلال العصر الوسيط، ووصل إلى تونس مع سقوط غرناطة وهجرة الأندلسيين في القرن السادس عشر ومنذ تلك الفترة توسعت زراعة الفلفل الحار في محافظة نابل بالخصوص، مشيرا إلى أن اليهود التونسيون كان لهم دورا كبيرا في ترسيخ عادة استهلاك الفلفل الحار بأنواعه أخضرا وجافا ومرحيا، وتفننوا في إعداد الهريسة التي توارثتها العائلات التونسية منتوجا شعبيا محبوبا لدى الصغار والكبار رغم طعمها اللاذع.