بقلم : د.ماجد عزت إسرائيل

ولد البابا ديسقوروس الأول البطريرك رقم 25(444-454م) في مدينة الإسكندرية في أواخر القرن الرابع الميلادي. وكانت عائلته تسكن في الحي اليوناني بذات المدينة ،وتعلم في مدارس هذا الحي ولذلك إتقن اللغة اليونانية تحدثنا وكتابتنا. وإلتحق بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية وعمل بها مدرساً ثم أصبح ناظراً لها بعد ذلك. وقد إختاره البابا كيرلس الأول الطريرك(24) (412-444م)، تلميذا له، ولمكانته العلمية في اللاهوت والدراسات القبطية إصطحبه معه في المجمع المسكوني بأفسس عام(431م) حيث كان يشغل منصب ناظر المدرسة اللاهوتية بالأسكندرية. 
 
وبعد نياحة البابا كيرلس الأول وخلا الكرسي المرقسي، إختار أراخنة وشعب الكنيسة القبطية البابا "ديسقوروس الأول" بطريركاً في عام(444م) في عهد الإمبراطور الروماني "ثيودوسيوس الثاني" أو "ثيودوسيوس الأصغر"(1 مايو 408– 28يوليو450م)، وورث تركة ومسئولية وعبء ثقل، ولم يجد راحة يوماً ما ولم يترك له خصومه فرصة يلتقط فيها أنفاسه بل تألبوا عليه وتآمروا عليه وكانت بيدهم كل الإمكانيات ليسلبوا راحته. ولقيمته بين الآباء البطاركة والقديسين تلقبه الكنيسة"بطل الأرثوذكسية".وأيضًا الشيخ الوقور والروحاني واللاهوتي.ولاننكر أنه تحلي بالشجاعة المسيحية والصلابة في الحق والرغبة في التضحية حتى الموت من أجل الإيمان.  
 
على أية حال عقب وفاة الملك ثيودوسيوس الأصغر أي عام450م، والذي كانت الكنيسة تلقبه بالملك الأرثوذكسي، أن اعتلى عرش المملكة االإمبراطور مرقيان وزوجته الإمبراطورة بوليكاريا. وفي ذات اللحظة احتدم الجدل اللاهوتي حول طبيعة السيد المسيح ما بين كنيسة روما وكنيسة الإسكندرية وأساقفتها العظام، بِسَعيّ من لاون أسقف روما لدى الملك مرقيان وزوجته. وكان المجمع بالصورة التي عقد بها يدل على أن هناك مؤامرة تدبر ضد الإيمان .
 
 ومن أجل وضع حد للجدل اللاهوتي عقد مجمع خليقدونية عام(451م) وقد حضره نحو630 أسقفا في الفترة ما بين(8 أكتوبر1نوفمبر451م) وحرص الإمبراطور وزوجته ورجال البلاط الإمبراطوري على حضور جلسات المجمع ولم يحضر لاون وإنما أناب عنه أسقفين وقس وكان المجمع بالصورة التي عقد بها يدل على أن هناك مؤامرة تدبر، ومن الكنيسة القبطية حضر البابا ديسقوروس الأول ومعه تلميذه فيما بعد القديس أنبا مقار الأسقف الذي كان لقداسته ونقاوته وصلاته وسيرته الطيبة دافعاً للبابا أن يتَّخذه عضواً في الوفد المُرافق له.
 
 وفي أول جلسات مجمع خليقدونية عام(451م) إعترض نواب أسقف روما على جلوس البابا ديسقوروس الأول في مقدمة الآباء، مدعين أنه قد جيء به إلى المجمع لمحاكمته، لأنه عقد مجمع "أفسس الثاني" دون إذن كرسي روما، ولكن القضاة أدركوا فساد الإدعاء وقالوا أن البابا لم يعقد مجمع من نفسه بل بأمر الملك. وقرأوا صورة رسالة الملك لعقد المجمع فرفضوا مطلبهم. كما قام أحد المقطوعين أيضًا وإدعى ظلما على البابا ديسقوروس بأنه عزل "فيلافيانوس" ، وفي أثناء قراءة قرارات مجمع أفسس الثاني دخل أقف قورش المقطوع لنسطوريته وطلب الإنضمام إلى أعضاء المجمع بدعوى أن أسقف روما أعاده إلى كرسيه. وفي ذات اللحظة حدث شغب وضوضاء في المجمع ولكن تدخل القضاة فعاد الهدوء للقاعة المجمع ، وفي أثناء استكمال قراءة  قرارات مجمع إعتراض أسقف أفسس وبعض الأساقفة بأنهم لم يوافقوا المجمع المشار إليه إلا بلإرغام تحت تهديد الجنود شاهري السلاح وهنا قال لهم أساقفة مصر:" إن جندي المسيح لا يرهب القوى التي لا تخيف إلا الجبان ... "تأثر الأساقفة الذين حضروا المجمع وإدعوا على البابا كذبا لتأنيبه لهم وضعفوا أمامه فوقفوا في وسط المجمع وقالوا: "أخطأنا ونطلب الغفران"، وحين أدرك خصوم البابا ديسقوروس أنهم سيخرجون من المجمع خاسرين رفعوا الجلسة. وعقد هذا  المجمع نحو15جلسة على حسب ما ذكر من بعض المؤرخين المعاصرين للحدث أظهر فيها بابا الإسكندرية شجاعة نادرة وعلما زائدا وقداسة فائقة .
 
 وقد ورد في مضابط جلسات هذا المجمع أن البابا ديسقوروس الأول كان يصرخ قائلاً:" أنا لا أقبل أن يقسم المسيح إلى أثنين وأردد ما قرره الآباء .. إن المسيح إله متإنس كان ولم يزل إلها ، إن الله إتخذ له جسدا ظهر فيه كإنسان فهو الله في صورة إنسان وبهذا المعنى هو إبن الله ، والإتحاد الذي تم في المسيح إتحاد حقيقي وكامل ولذلك فقد صارت الطبيعتان الإلهية والإنسانية طبيعة واحدة من غير إختلاط بين الاهوت والناسوت، فالمسيح طبيعة واحدة هي طبيعة الله المتأنس من غير إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير كإتحاد الحديد بالنار أو الفحم المتوهج بالنار يصيران بالإتحاد طبيعة واحدة لها خصائص الإضاءة والإحتراق وهي طبيعة النار". ومن هذا المنطق الإنجيلي والآبائي دافع بابا الإسكندرية عن الإيمان الأرثوذوكسى من أجل الإيمان.
  وحدث مشهد تاريخي خلال جلسات مجمع خليقدونية عام(451م) ما بين البابا ديسقوروس والإمبراطورة بوليكاريا فحينما عجزت الأخيرة في إقناع البابا ديسقوروس بالعدول عن مقاومة الإمبراطور والتوقيع على طومس لاون أن خرجت " بوليكاريا " عن المألوف وذكرت قائلا:"يا  ديسقوروس لقد كان في زمان والدتي (أندوكسيا) إنسان عنيد مثلك (يوحنا ذهبي الفم) وأنت تعلم ماذا جرى له نتيجة عناده ومخالفته الرأي مثلك وإني أرى حالك سيكون مثله"أجابها ديسقوروس بشجاعة :" وأنت تعرفين ما جرى لأمك نتيجة إضطهادها لهذ القديس وكيف إبتلاها الله بالمرض الشديد الذي لم تجد له علاج حتى مضت إلى قبره وبكت وإستغفرت الرب وحملت جسده وجاءت به بكرامة عظيمة إلى القسطنطينية فتحنن الرب عليها وشفاه، وها أنذا بين يديك فإفعلي ما تريدين وستربحين ما ربحته أمك".
 
الخلاصة أن الإمبراطورة تهجمت على البابا ديسقوروس الأول، ومدت يدها ولطمته لطمة شديدة إقتلعت فيها ضرسين نظرا لشيخوخته وتهجم عليه رجال القصر مع الأساقفة المقطوعين وأوسعوه ضربا أليما ونتفوا شعر لحيته أما هو فبقي صامتا محتملا وهو يردد قائلاً: " من أجلك نمات كل النهار ".ثم جمع الضرسين مع شعر لحيته وأرسلهما إلى شعبه مدينة الأسكندرية وكتب رسالة لهم ذكر فيها قائلاً: "هذه ثمرة جهادي لأجل الإيمان، إعلموا أنه قد نالتني آلام كثيرة في سبيل المحافظة على إيمان آبائي القديسين، أما أنتم الذين بنيتم إيمانكم على صخرة الإيمان القويم فلا تخافوا السيول والهراطقة ولا الزوابع الفكرية". كما أدي هذا إلى إنقسام الكنيسة لكنيسة شرقية وآخرى غربية،أو كنائس خلقيدونية أو غير خلقيدونية وأيضًا الخيانة والظلم لبابا الإسكندرية  حيث عقدوا جلسة سرية لهذا المجمع المشؤم لم يحضرها القضاة ولا البابا ديسقوروس فحكموا عليه غيابيًا، بعد أن حيل بينه وبين حضور المجمع، وذلك بعد أن كتب هو على قرار المجمع بخصوص الإيمان حرمًا لكل من يتعدى حدود الإيمان المستقيم. وفي النهاية قرروا نزع درحة الأسقفية من البابا ديسقوروس وعزله من خدمة الكهنوت. في الواقع أدين ديسقورس لا لهرطقة عقيدية وإنما لظروف سياسية لعبت الدور الرئيسي في المجمع. وقد أكد الأب رومانيدس ذلك قائلاً:" لقد حُسب ديسقورس أرثوذكسيًا تمامًا في إيمانه في نظر بعض الآباء القادة في مجمع خلقيدون مثل أولئك الذين مثّلوا أناتوليوس بطريرك القسطنطينية". أما الأب ميثوديوس مطران أكسيوم فعلق قائلاً:" المعلومات التي لدينا لا تصور ديسقورس كهرطوقى، فمن المعلومات التي بين أيدينا واضح أنه كان إنسانًا صالحًا، بل والأسقف لاون نفسه حاول أن يكسبه إلى جانبه... هكذا في خطاب بعث به الإمبراطور ثيؤدوسيوس إلى ديسقورس دعاه فيه إنسانًا تشع منه نعمة الله، وديعًا، أرثوذكسي الإيمان. صادق الإمبراطور على قرار المجمع وأصدر أمره بنفي البابا إلى جزيرة جاجرا أو غاغرا بآسيا الصغرى. وبقى في منفاه مدة خمس سنوات صرفها في هداية الضالين عن الإيمان وتنيح في سبتمبر 454م.
 
 وعلى الرغم من  إنقسام الكنيسة إلى كنيستان إلا أن الوحـدة المسيحية آتية، ولا ريب في ذلك، لتتحقَّق كلمات ربِّنا يسوع المسيح: «رعيَّة واحدة وراعٍ واحد» (يو 10: 16).