كتب : القمص اثناسيوس فهمي جورج
 
تودع اليوم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مشارق الأرض ومغاربها، أعظم وأقدس وأنقى وأشهر كهنتها. تودع دُرة تاجها وعمود من أعمدتها. تودعه محاطًا بنفوس وقلوب وعقول شعبها البار الحافظ للأمانة الأرثوذكسية، الشعب الوفي العارف أتعاب الآباء الرعاة الحقيقيين. فيا كلّ قديسي الزمان.. اليوم طارت نفس حبيبكم أبونا لوقا رفيق أبونا بيشوي كامل في الدرب. طلعت نفسه من برية هذا العالم، كعمود دخان، معطرة بالمر واللبان والميعة والسليخة وكلّ أذرة التاجر. ويا كلّ مختاري الله.. اليوم تستودعوا نظيرًا للآباء الرسوليين والسكندريين والكبادوك، ولكلّ الآباء القديسين حسني العبادة والوديعة... تودعون سليلًا للأقمار الذين تشرف وافتخر بهم ثوب الكهنوت. لقد سافر اليوم شريكًا لكم ولحافظي السرّ ولختم حجال الملك. عبرت نفسه التي تدهنت كلّ أيامها بدهان الطيب الناردين، وانسكبت سكيبًا، حتّى فاحت وعطرت كلّ الأرجاء، وستبقى حية للتأمل والتسليم والإقتداء إلى يوم الربّ العظيم.
 
إنَّ اليوم يوم وداع أبونا لوقا الذي علمنا "سرّ المسيح"، شاهدًا لغناه ورضاه بالقول والعمل. أنّه يوم وداع الكاهن البار الذي لوحته شمس التجارب والضيقات ومحاربات الشياطين، وتزينت خدمته بالأعراق والأسهار والأسفار والتأسيس والبناء والتعليم والإرشاد والافتقاد والتلمذة والسجون وقيود السلاسل في الزنازين. بينما هو سفير المسيح الذي رعى القطيع الملكي عند مساكن الرعاة، و صار أزهى أيقونة للكاهن القبطي في هذا الزمان الحاضر... مركبة لإسرائيل وفرسانها، التي ردت كثيرين إلى البر، وأضاءت اليوم كالكواكب في ملكوت الابن الوحيد إلى أبد الدهور. متقلدًا قلائد وأوسمة القابضين على سيوفهم، المتعلمين لفنون الحرب، جبار بأس وسط هول الليل، حارسًا لتخت سليمان ليلًا ونهارًا.
 
‎إننا نودعك أبانا البار يا صاحب الذكر الحسن، بعد أن علمتنا فرديًّا وجماعيًّا. ورأينا عن كثب عمل الله معك وفيك، منذ الطفولية، لكننا لن نعود بعد نرى وجهك المشرق بملامح المسيح الأبرع جمالًا من كلّ بني البشر، وجهك الذي تجلى فيه نور الثالوث، ذلك الذي بهر ناظريك من فرط صدقيته، ولمعانه ومخافته، من صرامته وقداسته الجوانية التي أفصح عنها ذاك الوجه. أننا لن نعود نري عينيك الثاقبة الصاحية، عينيك النافذة للنفوس. ولن نعود نسمع فمك الطاهر الذي تكلم بأعماله وعمل بأقواله. فم الحكمة اللهج بالمعرفة والناطق بالحقّ الصريح، متسلقًا للمرتفعات، ليهز القلوب ولينير الشعوب ويعزي المدن، موقظًا العالم من الفساد والرقاد. غير قابل لمجد الناس حافظًا لأسرار النعمة الإلهية، بعيدًا عن الإعلانات والافتخار الباطل.
كلماتك كانت دومًا حاضرة، تخترق القلوب اختراقًا. فيصمت الجميع لأنك تتكلم ولأنك تفسر وتعلم. وقد شاهدت بعيني معاشرة الحي للحي.. شاهدت معاملاتك مع القديس البابا كيرلس الذي سامك بيده الرسولية، في أمر غير معتاد، ورأيت بعيني معاشرتك للآباء القديسين المعاصرين، وكيف كنت تحبهم ويحبونك: الأنبا مكسيموس والأنبا مينا أفا مينا والأنبا تيموثاوس وأبونا ميخائيل إبراهيم وأبونا بيشوي كامل وأبونا كيرلس داوود وأبونا تادرس يعقوب وبابا صادق والمقدس يوسف حبيب وألبير نوار ودكتور عيسى أبراهيم جرجس. فالمثيل يستريح إلى مثيله. حقيقة أنَّ كلّ صورة ومشهد حفظته لك، عدسات العين أو التصوير تحتاج إلى إمعان وإلى شرح وتعليق وتفسير.
 
‎اليوم يدفن جسدك العفيف الناسك، الذي لجمته بالأصوام وأتعبته بالأسفار، وقد صهره المرض. سيدفن جسدك النير الذي تجلى وأفنيته في بناء أعمال إلهية، وقدمته ضمن ظاهرة سيمفونية مارجرجس سبورتنج التي عزفت أرقى ألحان اللاهوت الرعوي، بانسجام وهارموني عزى وشدد حاضر ومستقبل كنيستنا المجيدة. فعلى قدر عظمة تاريخك ومسيرتك، وعلى قدر علو مكانتك الرعوية إلّا أنك كنت ذليلًا في الحاضرة، قديسًا عميق السريرة قوي الإرادة صريحًا في الإيمان. والمجال لا يتسع هنا لذكر ما قلته قدسك للمسؤولين أثناء معاكسات بناء كنيسة العذراء بالدخيلة والعذراء كليوباترا، و قنابل ليلة عيد الميلاد في كنيستي سبورتنج وغيط العنب. وأيضًا مواقفك في أحداث المدينة الجامعية، وتبعات مظالم عديدة لا تقع تحت حصر، ومعاناة وكلاء البطريركية الذين كنت لهم الظهير والسند كجبار البأس الذي لا يخف هول الليل. شجاعًا في ثقة وصريحًا بغير جفاء وقبطيًّا في الحقّ ضيغم، ولن أنسى أبدًا لقاءك ليلة سفرك مع وفد الكهنة الذين أعدوا مذكرة ليسلموها للرئيس السادات في شبين الكوم! فالذكريات تتزاحم، كنت فيها كاهن الكنيسة الجامعة.
 
‎لقد كنت يا أبي من الآباء الرؤوس، في كلّ شيء في التدبير وفي غزارة المعرفة وفي صدق الخبرة وعمقها، نافذًا بالتعليم السهمي للقلوب، أصيلًا في عيشك للإنجيل، وفي حافظًك لاعتراف الأمانة الأرثوذكسية، وفي عذوبة التسبيح وحسن سجود العبادة، لذلك صار أسمك معادلًا لأيقونة الرعاية في كنيستنا، وسيبقى في سجل افتخارها على مر الزمان ، وها يوم الخميس ٣ سبتمبر يوم تجنيزك هو ذات اليوم الذي نلت فيه اكليل الاعتراف للمسيح عندما قبضوا عليك الخميس ٣ سبتمبر ١٩٨١ .
 
‎ضعوا اليوم البدر في القبر... وهناك انثروا حوله الرياحين ، واسكبوا الاطياب ... انشدوا لحن رجاء القيامة الأبدية (ⲭⲣⲓⲥⲧⲟⲥ ⲁⲛⲉⲥⲧⲏ ⲉⲕⲛⲉⲕⲣⲟⲛ) المسيح قام .. بالحقيقة قد قام. نياحًا وراحة لنفسك العزيزة أبونا لوقا، اذكرنا في المجد ، وقدسك تعلم ما حدث وهو معلوم لديك، وقد تحدثنا عن ما دار.