في مثل هذا اليوم 12 يناير1950م..
تولى عميد الأدب العربي الدكتور "طه حسين" في عام 1950 وتحديدًا في الثالث عشر من شهر يناير منصب وزير المعارف، ليصبح وزيرًا في الحكومة الوفدية بقيادة "مصطفى باشا النحاس" في عهد الملك "فاروق" الأول، لتبدأ مرحلة هامة في حياة المفكر الكبير، ورغم قِصَر المدة التي قضاها، فقد خرج من منصبه عام 1952( وسقوط حكومة النحاس باشا؛ بعد حريق القاهرة الذي ظل عالقًا في وجدان الشعب المصري) إلا أنه أخذ على عاتقه مهمة رسم مستقبل الثقافة والتعليم في مصر خلال تلك الفترة.

نادى "طه حسين" بمجانية التعليم منذ رفع شعاره الشهير "العلم حق للجميع كالماء والهواء" وإن كان البعض يحاول نسبة هذه المقولة إلى "نجيب باشا الهلالي"، والمدهش أن "طه حسين" نفسه يؤكد ان دعوته للمجانية لم تكن مجرد دعوة أطلقها مفكر لنفع بني وطنه لانتشالهم من الجهالة التي يعيشون فيها؛ ولكن هذه الدعوة كانت باتفاق مع "النحاس" باشا حتى يضمن لها التنفيذ.

 ويرصد الكاتب إبراهيم عبدالعزيز،  بعض الحقائق الغائبة في كتابه "رسائل طه حسين"- الصادر عن دار "ميريت"  للنشر، والمتعلقة بدخول "طه حسين" الوزارة فيقول: (إنها قصة مختلفة غير تلك الحكاية الشهيرة التي ذاعت وانتشرت، وأكدها الدكتور "محمد حسن الزيات" - زوج ابنة "طه حسين" - ونشرها "الزيات" بمجلة المصور قبل أن يجمعها في كتاب "ما بعد الأيام" والذي ذكر فيه: حضور "النحاس" باشا إلى منزل "طه حسين" دون موعد سابق، فيفاجئه بأن يطلب منه أن يتقلد منصب وزير المعارف في حكومته التي يجري تأليفها، فيشكره على ثقته.

ولكن يطالبه "طه حسين" بمعاودة التفكير لعدة أسباب منها، أنه ليس عضوًا في الوفد، وأعضاء الوفد الذين شاركوا رئيسهم جهاده أحق بالاشتراك معه في الحكم، بالإضافة إلى غضب السراي عليه منذ زمن بعيد.. ولا ينتظر أن توافق على تعيينه في الحكومة، سبب آخر متعلق بالتزامه أمام نفسه وأمام الشباب ببرنامج تعليم سبق أن شرحه عام 1937، الذي يؤكد مجانية التعليم الابتدائي والثانوي، وراح "النحاس" باشا يفند هذه الأسباب محاولًا إقناع "طه حسين" إلى أن يصل بنا "الزيات" في كتابه المشار إليه، إلى قول "طه حسين": (وإذا أصبحت أنا وزيرًا للمعارف فإن رفعتكم ستحبون قطعًا إعلان مجانية التعليم في أول خطاب للعرش تلقونه أمام البرلمان)، ويسأل "النحاس" باشا: هذا شرط؟ فيجيبه "طه حسين" بالنفي ويضيف بأنه توقع لا أكثر.

ويكشف لنا "إبراهيم عبدالعزيز" في كتابه زيف تلك الواقعة، وأن هذه القصة ليست دقيقة سواء فيما يتعلق بالمجانية أو دخول "طه حسين" الوزارة، فالمجانية اتفق عليها مع "النحاس"، خارج الحكم مُنذ وقت مبكر، أما دخوله الوزارة فيرويها عميد الأدب العربي في مقال مجهول نشُر في الأهرام بتاريخ 3/ مايو/ 1952 يؤكد فيه دخوله الوزارة فجأة دون أن يستشار، كما أخرج منها دون سابق إنذار، ويضيف في مقاله "لم أرني ذات ليلة وقد أنبأني رئيس الوزراء بأني خرجت منها كما دخلتها، لم أختر أن أكون وزيرًا، ولم أختر أن أخرج منها، وإنما هو قضاء الله".

وتُعبر صحف تلك الفترة عما رواه "طه حسين"، فلم يكن الرجل مطروحًا بالمرة في آخر تشكيل وزاري لـ"لنحاس" 1950، وأن ترشيحه جاء في اللحظات الأخيرة قبل صدور الأمر الملكي، ولم يطرح سوى اسم "نجيب الهلالي"  لتولي وزارة المعارف.

تعرض "طه حسين"  بعد تقلده للمنصب للاتهام بأنه مدح الملك "فاروق"، بل ووصل الأمر إلى حد القول بقيامه بتقبيل يد الملك، بعد أن وافق بصعوبة على تعيينه  وزيرًا للمعارف، فيرد على تلك الأقاويل بمقالة نشرته مجلة "روزاليوسف" بتاريخ 29 مارس سنة 1954: "أي من المصريين يجهل أني كنت وزيرًا للمعارف في يوم من الأيام، خطبت أمام "فاروق" في مواقف كان لابد أن أخطب فيها، حين وضع حجر الأساس لجامعة الإسكندرية، ومعهد الصحراء، والناس جميعًا يعلمون أن الوزراء ما كانوا ليخطبوا أمام "فاروق" فيعيبوه أو يذموه، ويدلوا على ما كان يتورط فيه من طغيان، وما كان يغترف من آثام".

ويستطرد "طه حسين": بأنه لم يكسب لنفسه جاهًا أو مالًا فقد كان غنيًا، وإنما كسب لمصر ما نفع أهلها في حياتهم، فأنشأ لها معهدًا في مدريد، وكرسي للغة العربية في جامعة أثينا.

خاض عميد الأدب العربي معارك أدبية وسياسية زادته قوة وإصرارًا، ولم يتوان في خدمة وطنه وأقر مجانية التعليم حينما كان وزيرًا، وأصبح رمزًا للتنوير في مصر بعلمه وكفاحه.!!