بقلم  : كمال زاخر 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 ـ رياح التغيير وجذور المصادمات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لوقائع التاريخ البعيد والقريب قراءات متعددة وربما متباينة، بحسب اكتمال صورتها وإلمام من يتناولها بمجمل جوانبها، فضلاً عن الخلفية الفكرية له، لذا يظل التاريخ، أو بشكل ادق، ما توفر للباحث منه، حمّال أوجه، وكلما ابتعدنا زمنياً عن زمن الوقائع والأحداث كلما كان التناول أكثر موضوعية، وقد تخلص من عوامل التأثير والإنحيازات الذاتية بقدر ما. 
 
وقد اعتمدت فى طرحى هنا على أكثر من مصدر؛ منها ما توفر من شهادات معاصرة للأحداث بعضها مكتوب وبعضها مروى من اصحابه فى لقاءات شخصية معهم وكانوا أطرافاً فى الأحداث سواء مشاركين أو معاصرين، بدرجات متفاوتة، وبعضهم اقتربوا بحكم عملهم من اطراف تلك الأحداث، وبعضها عاصرته فى سنى شبابى واقتربت منها بدرجات متفاوتة، 
واشتبكت مع طيف منها واشتركت فيها.
 
وكان لأرشيف "مجلة مدارس الأحد" نصيب وافر فى التعرف على مناخات فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، وقد قدر لى أن اطالعها فى بيت مدارس الأحد فى فترة مشاركتى بالكتابة فيها (1992 ـ 1994) واحتفظ بصور ضوئية لكثير من مقالاتها الإفتتاحية وملفات القضايا المثارة وقتها، فضلاً عن كل مجلدات مجلة الكرازة فى اصدرها الأول، (1966 ـ 1971). وكلاهما يحمل توهج مرحلتين مفصليتين فى سير الأحداث، وشخوصها، التى شكلت الكثير من اشكالياتنا الكنسية المعاشة. 
 
وقدر من مرجعية توثيق هذه الأحداث جاءت من حوارات ولقاءات شخصية ممتدة مع شخصيتين كانتا لصيقتا الصلة بأعلى نقطة فى شخوص المرحلة، أولهما الدكتور حنا يوسف حنا الذى ارتبط بشكل حميمى بقداسة البابا كيرلس السادس، وكان محل ثقة الرئيس جمال عبد الناصر، وهو الذى أشار على قداسته بضم الراهبين الواعدين انطونيوس السريانى ومكارى السريانى إلى طاقم سكرتاريته كمكافأة لدعمهما له فى مشوار اختياره للبطريركية، واشترك الدكتور حنا يوسف حنا مع القمص صليب سوريال فى اقتراح سيامتهما اسقفين عموميين لمعاونة البابا البطريرك دون الحاجة إلى موافقة المجمع المقدس.
 
وثانيهما الأستاذ جرجس حلمى عازر الصحفى والذى كان صديقاً مقرباً لقداسة البابا شنودة الثالث منذ كان راهباً، وشهد منزله العديد من اللقاءات والحوارات المتعمقة بينهما، وهو الذى قدم قداسته للجماعة الصحفية، حين صار اسقفاً للتعليم. وهو الذى رتب مع مجلس نقابة الصحفيين استضافة اسقف التعليم فى النقابة لالقاء محاضرة عن "اسرائيل فى رأى المسيحية" (26يونيو عام 1966) والتى كانت مفتاح ولوج الأسقف الى عالم الإعلام العام، خارج الدوائر الكنسية، ليصير أحد نجومه، وهو بعد اسقف عام للتعليم.
 
على أنه من الضرورى الإشارة إلى أن سطورى لا تطرح الخلافات ذات الصلة بالتعليم والقضايا اللاهوتية، التى يرتكن اليها مريدى الفرقاء ومتربصيهم، فى مفارقة صاخبة ومحيرة، لتناسبها عكسياً مع الواقع التعليمى والمعرفى المتراجع، والذى انعكس على الواقع الحياتى.
 
فضلاً عن أن هذه السطور لا تنتهج مسارات التطويب أو الشيطنة التى تتلبسهم، لكنها تبحث فى قراءة المقدمات والجذور التى انتهت بنا إلى حالة الإحتراب والتربص التى صارت خبز يومنا وأفسدت الكروم أو كادت.
 
والحيز الزمنى الذى تدور فيه ـ فى هذا الفصل ـ يبدأ من العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وحتى نهايات النصف الأول من القرن العشرين، ففى تقديرى أنها فترة شهدت الكثير من الأحداث والتشابكات على المستويين الكنسى والعام، وداخل الجماعة القبطية وبفعل صدمة التعرف على ثقافات الجانب الأخر من "البحر المتوسط" بدأت تتبلور العلاقات بين الإكليروس والعلمانيين، اللافت أن شباب هذه الحقبة تشابهت تفاعلاتهم ـ على تباينها ـ فى كل هذه الدوائر كما فى العام كذلك فى الخاص، وتشابهت ايضاً ردود فعل المؤسسات الحاكمة كما فى السياسة كذلك فى الدين.
 
البدايات كانت مع قدوم البابا كيرلس الخامس والذى أمتد به المقام فى قيادة الكنيسة لنحو نصف قرن ويزيد (1874 ـ 1927م)، وقد عاصر خمسة من حكام مصر؛ الخديوى إسماعيل – الخديوى توفيق – الخديوى عباس حلمى - السلطان حسين – الملك فؤاد الأول.
 
يذكر للبابا كيرلس الخامس دوره المتميز فى دعم منظومة التعليم بانشاء العديد من المدارس،التى استكمل فيها بناء سلسلة مدارس الأقباط ومنها مدارس خصصت للبنات، واخرى للتعليم الصناعى، وافتتح المدرسة الإكليريكية، فضلاً عن دعم أواصر العلاقات مع كنيسة اثيوبيا، وشهد عصره بروز العديد من الرموز القبطية فى الدوائر الدينية والاجتماعية والسياسية، لعل ابرزهم سينوت حنا - جورج خياط - ويصا واصف - مكرم عبيد، اعضاء الوفد المصرى الذى ترأسه الزعيم سعد زغلول.
 
فيما برز فى المجال الروحى الاستاذ حبيب جرجس مؤسس منظومة مدارس الأحد ورائد تأسيس وتطوير الكلية الإكليريكية، والأنبا ابرآم مطران الفيوم والجيزة ايقونة العطاء، والعلماء اللاهوتيين الايغومانس فيلوثاؤس ابراهيم اشهر وعاظ الكنيسة، والقمص عبد المسيح البرموسى الباحث المدقق الذى ترك للمكتبة القبطية العديد من الكتب البحثية.
 
كان البابا والقيادات الكنسية ابناء المجتمع الأبوى، لذلك لم يتقبلوا مشاركة غير الإكليروس فى ادارة الكنيسة، أو حتى السؤال عن موارد الكنيسة وقنوات صرفها، واعتبروا ظهور "المجلس الملى" افتئات على ابوتهم وانتقاصاً منها، وكان اعضاء المجلس متأثرين برياح التغيير القادمة من الغرب، ولم يقبلوا استمرار الانساق الأبوية على النحو القائم، فى مؤسسة تعد الأبوية فيها عمودها الفقرى، ربما استندوا الى مواقعهم الاجتماعية والسياسية وانتسابهم إلى الطبقة الرأسمالية، يتقدمهم وكيل المجلس بطرس باشا غالى رئيس الوزراء، ولهذا سيطرت ازمة البابا والمجلس على سنوات حبريته الطويلة، بل وامتدت مع كل الباباوات وكل المجالس الملية المتعاقبة، ومثلت واحدة من جذور الأزمات المعاشة. والتفاصيل يسكنها كثير من الارتباكات، ونكتشف فيها تحالفات ومصادمات داخل دوائر الإكليروس فيما بينهم، والعلمانيون كذلك، ونلمح تدخلات من خارج الكنيسة، وقد انتهت بلجوء الأقباط الى عقد المؤتمر القبطى (1912م) بأسيوط، فى أول تحرك جمعى شعبى نخبوى معاً، يطرح اشكاليات الأقباط ومتاعبهم مع الدولة والمجتمع واصرارهم على ايجاد موضع لأقدامهم فى المعادلة المصرية السياسية والإجتماعية، فى مواجهة اصرار مقابل باستبعادهم، ولهذا قوبل الحراك القبطى بمؤتمر اسلامى فى القاهرة وكاد أن ينتهى الأمر الى صدام مدوى بين المصريين وبعضهم، على ارضية طائفية، لو تدخل الحكماء من الطرفين. عبرت الأزمة لكنها خلفت شرخاً وجراحاً لم تلتئم.
 
يرحل البابا كيرلس الخامس وتشهد الكنيسة خروجاً على الأعراف المستقرة فى أن يقتصر اختيار البابا البطريرك على طغمة الرهبان، دون الاساقفة والمطارنة، ويمتد الخروج فى اختيار الثلاث باباوات التاليين، البابا يؤأنس التاسع عشر، الذى انشأ مدرسة الرهبان بحلوان، فى محاولة جادة للإرتقاء بالرهبان وتهيئتهم للاختيار للأسقفية، والبابا مكاريوس الثالث، الذى لم يطل اقامته فى موقع البطريركية سوى عام واحد (1944 ـ 1945) إلا أنه استطاع ان يقتحم العديد من الأزمات لعل اهمها دعم العلاقات مع كنيسة اثيوبيا، ووضع قانون منضبط للأحوال الشخصية، ومخاطبة الدولة لتعديل القوانين القائمة لتأتى متسقة مع العقيدة المسيحية، ومحاولة ضبط منظومة الرهبنة، وعودة الرهبان إلى اديرتهم، ووضع سجلات لاحصاء وتسجيل الأسر المسيحية، وتشكيل لجان لفحص ومراجعة الكتب الدينية والطقسية، لكن بقى النزاع مع المجلس الملى قائماً ومؤرقاً. 
 
كان ثالث البطاركة الذين تم اختيارهم من بين الأساقفة البابا يوساب الثانى، (1946 ـ 1956)، وعنده مفاتيح كل الأزمات والإشكاليات المعاصرة، وعبر سنواته العشر تتجمع خيوط الصراعات والمصادمات بين شباب ذاك الجيل، الذين اختلفوا فيما بينهم، واختلفوا بدرجات مع مجمع الاساقفة، لكنهم اتفقوا، ثلاثتهم؛ جماعة مدارس الأحد، وفارسها نظير جيد، وجماعة الأمة القبطية بقيادة ابراهيم فهمى هلال، ومجمع الاساقفة ـ بغير اعلان ـ على محاصرة البابا يوساب وعزله، كل بطريقته، وكانت القوى السياسية خارج الكنيسة قريبة من مطبخ الأحداث، واشتركت فى رسمها.
ولهذا حديث قادم.