جمال رشدي يكتب
يتشبهان في كثير من الصفات، وداخل علاقتهم الفريدة والاستثنائية تجسدت الهوية المصرية بكل معانيها التاريخية، فتكوينهم الجسماني وإطلالتهما الشخصية تكاد تكون واحدة، في ملامحهما تتمثل الجينات الفرعونية لأجدادنا ملوك الأرض وعظماء التاريخ.
 
 الأول هو جمال عبد الناصر الزعيم الخالد الحاضر داخل ضمير الوطن والحلم الذي تعيشه مصر في كل لحظاتها، والثاني هو الزعيم الروحي للكنيسة المصرية الذي أحب الوطن وأحبه عبد الناصر في الوطن.
 
تاريخ طويل ملئ بالأحداث يربط الزعيمان ومواقف لا تنسي داخل سطور الوطن، فمنذ نعومة أظافري عشت حياة شغف في الاطلاع والقراءة عن علاقتهما التي أري فيها مصر بكل وضوح، وفي هذا المقال سأسرد بعض المواقف والإحداث التي جمعت الزعمين .
 
اليوم هو الثلاثاء 9 مارس يحتفل فيه ملايين الأقباط داخل وخارج مصر بعيد نياحة وانتقال البابا كيرلس السادس الذي تنيح في سنة 1971 ، وعلي بعد خطوات من الأسابيع قد سبقه الزعيم جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 . وقال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فى كتابه «خريف الغضب» عن علاقة عبدالناصر والبابا كيرلس السادس «إنها كانت علاقات ممتازة، وكان معروفًا أن البطريرك يستطيع مقابلة عبدالناصر فى أي وقت يشاء».
 
ويروى لنا محمود فوزى فى كتابه «البابا كيرلس السادس وعبدالناصر» أن البابا كيرلس زار الرئيس ذات يوم فى منزله؛ فجاء إليه أولاده، وكل منهم معه حصالته؛ ثم وقفوا أمامه؛ وقال له الرئيس «أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى يتبرع لكنيسة زى اللى يتبرع لجامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها. وقالوا حنحوش قرشين؛ ولما ييجى البابا كيرلس حنقدمهم له، وأرجو ألا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم» فأخرج البابا كيرلس منديله ووضعه على حجره ووضع أولاد عبدالناصر تبرعاتهم؛ ثم لفها وشكرهم وباركهم.
 
وفى حفل افتتاح الكاتدرائية يوم الثلاثاء ٢٥ يونيو ١٩٦٨؛ حضر الزعيم جمال عبدالناصر والبابا كيرلس السادس والإمبراطور هيلاسلاسى إمبراطور إثيوبيا. ومن القصص الجميلة التى تروى عن هذا الحفل أنه أثناء صعود البابا والرئيس لسلالم الكاتدرائية؛ صدرت «أنة» ألم خفيفة من الرئيس الراحل؛ فالتفت إليه البابا وسأله: ما بالك يا سيادة الرئيس ولماذا تتألم؟ لعلنى أنا الذى يحق لى أن أتأوه؛ إذ مازلت أشعر بألم فى ساقى إثر الجلطة التى أصابتنى فى العام الماضى، فرد عليه الرئيس إننى أشعر بآلام فى ساقى أيضا؛ فرد عليه البابا ولماذا لم تخبرنا بذلك، إننا كنا على استعداد لتأجيل الحفل حتى تتماثل سيادتكم للشفاء الكامل؛ فرد عليه الرئيس «لا بل أنا مسرور هكذا.
 
وعندما أعلن الرئيس الراحل خطاب التنحى فى ٩ يونيو ١٩٦٧ توجه البابا كيرلس إلى منزله بمنشية البكرى بصحبة ثلاثة مطارنة ونحو خمسة عشر من آباء الكهنة، وعندما وجدوا طوفان البشر محيطا بمنزل الرئيس، صدرت التعليمات من رئاسة الجمهورية أن تقوم سيارة بفتح الطريق أمام سيارة البابا كيرلس. وعندما دخل المنزل قال أنا عايز أقابل الريس فأخبروا الرئيس برغبة البابا فى مقابلته فتحدث إليه فى التليفون قائلا: «أنا عمرى ما اتأخرت عن مقابلتك فى بيتى فى أى وقت، لكننى عيان والدكاترة من حولي»، فقال له البابا: «طيب عاوز أسمع منك وعد واحد»، فرد عليه الرئيس «قل يا والدي» فقال له البابا «الشعب بيأمرك أنك ما تتنازلش» فرد عليه الرئيس «وأنا عند الشعب وأمرك». وعندما أعلن أنور السادات أن الرئيس قد نزل على إرادة الشعب، توجه البابا صباح يوم ١٠ يونيو إلى القصر الجمهورى بالقبة وكتب كلمة فى سجل الزيارات أعلن فيها عن فرحته بنزول عبدالناصر على إرادة الشعب، والعودة لممارسة مهامه كزعيم للأمة. وعندما توفى الرئيس جمال عبدالناصر فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ أصدر البابا كيرلس السادس بيانا جاء فيه «إن الحزن الذى يخيم ثقيلا على أمتنا كلها؛ لانتقال الرئيس المحبوب والبطل المظفر جمال عبدالناصر؛ إلى عالم البقاء والخلود؛ أعظم من أن يعبر عنه أو ينطق به. إن النبأ الأليم هز مشاعرنا جميعا ومشاعر الناس فى كل الشرق والغرب بصورة لم يسبق إليها».
 
ثم توجه البابا إلى القصر الجمهورى بالقبة وبصحبته وفد كنسى وتقابلوا مع أنور السادات مقدمين له واجب العزاء، وسجل قداسته كلمة فى سجل التشريفات بقصر القبة قال فيها: «يوم حزين على بلادنا وبلاد الشرق العربى؛ ما أعظم الخسارة التى لحقت بنا جميعا. إن اسم هذا البطل سوف يظل مرتبطا بتاريخ مصر والعرب وأفريقيا ودول عدم الانحياز، بل وبتاريخ الأسرة البشرية كلها.
 
وأخيرا أقول إن الزعيمان الخالدان ما زالوا يعيشوا في ضمير الأمة كعنوان وطني عن حضارة الأجداد.