كمال زاخر

4 ـ مسارات البحث عن الذات
كنا فى مؤتمر يضم اطياف من كنائس شقيقة، فى اطار مد خطوط التواصل والتعارف، وكان محدثى أحد الآباء المطارنة من المشرق العربى، باغتنى بسؤال، هل تدرى سر بقاء كنيستكم حتى الآن فيما اندثرت كنائس مثيلة وصارت أثراً بعد عين، ككنيسة شمال افريقيا، والتى قدمت للمسيحية رهط من العلماء اللاهوتيين والقديسين الذين مازلنا نحن وانتم ننهل من ذخائرهم اللاهوتية وسيرتهم؛ اغسطينوس وترتليانوس، وكبريانوس فى مقدمتهم؟!.

وقبل أن أجيبه اشار إلى الحقول المحيطة بنا، وقال "السر فى اجداد هذا الفلاح الملتصق بأرضه وكنيسته وعقيدته"، واستطرد وهو يستحضر المشهد من تلك القرون الغابرة التى حوصرت فيها الكنيسة وطورد كهنتها فمات من مات وهرب الى البرارى من هرب، فكان الأسقف بنزل الى القرى ويذهب الى حقولها، وحين يصادف واحداً من فلاحيها، يسأله، "حافظ القداس والتسبحة"، فيجيبه قبطى وعربى يابونا الاسقف، فيدعوه للكهنوت، ويقوم برسامته، حدث هذا بامتداد القرى والنجوع، وجمع الفلاح بين عمله فى أرضه وواجباته ككاهن دون أن يلفت انظار المتعقبين للكنيسة، حتى زالت سنوات المطاردة، وتكفلت الليتورجيا (منظومة صلوات الكنيسة الطقسية وفى مقدمتها القداس والتسبحة)، بالحفاظ على بقاء الكنيسة، حتى لو افتتقرت الرعية، وربما الرعاة، آنذاك، لاستيعاب مضامينها اللاهوتية، فيما يشبه بقاء المريض حياً فى غرف الانعاش، "كانت الليتورجيا هى أجهزة العناية المركزة، التى ابقت الكنيسة على قيد الحياة".

هكذا اختتم محدتى طرحه، والذى قفز الى ذهنى، مجدداً، وأنا اتناول احداث نهايات النصف الأول من القرن العشرين وأطرق أبواب نصفه الثانى. فى محاولة لفهم ملابسات حالة الإحتراب المعاشة.

وجدت تلك الأجيال ـ القبطية ـ نفسها أمام متغيرات متلاحقة، فى اجواء الحرب العالمية الثانية، واعادة تشكل القوى الكبرى، بين افول القوى التقليدية وبزوغ قوى جديدة، فيما يمور الداخل اقليمياً ومحلياً بسعى القوى الراديكالية لاسترداد مجد غائم، على خلفية دينية اسلامية، وقد انزوت الخلافة فى طورها العثمانى، وذهبت تركيا لتؤسس دولة علمانية بقيادة كمال اتاتورك، فيما حَسبت جماعة الإخوان نفسها الوريث الشرعى المحمل بمهمة الإحياء.
تباينت تفاعلات تلك الأجيال فى سعى استرداد وعى الأقباط.

• طيف منهم طرق ابواب "وصل ما انقطع"، عبر اعادة بناء منظومة التعليم، ومن روادهم البابا كيرلس الرابع، والبابا كيرلس الخامس، والبابا يؤانس التاسع عشر الذى انشأ مدرسة الرهبان لانتباهه لأهمية اعداد المرشحون للأسقفية لاهوتياً وثقافياً وادارياً، وكان من الرهبان الذين تخرجوا فيها الراهب اقلاديوس الانطونى، وقد أوفده البابا كيرلس الخامس إلى اليونان، لنبوغه ونهمه للعلم، حتى أنه اجاد عدة لغات،؛ اليونانية والفرنسية والقبطية بجوار اللغة العربية، وفى جامعة اثينا اللاهوتية يعكف على الدراسة أربعة سنين ويحصل على إجازتها العلمية، وبعد سنوات من عودته يتم اختياره بطريركاً بإسم البابا يوساب الثانى، اللافت أن كل من البابا كيرلس الرابع، أبو الإصلاح، والبابا ديمتريوس والبابا يوساب، كانوا محل اعتراض ومقاومة شديدة من التيارات الراديكالية داخل الكنيسة، وثلاثتهم تعرضت سيرتهم للتشويه، وثلاثتهم لم تطل اقامتهم على الكرسى البابوى، فالأول مكث ست سنوات وجاءت وفاته غامضة، محملة بشبهات جنائية، تبادل الفرقاء الاتهام بها، والثانى مكث سنة واحدة، فيما بقى الثالث عشر سنوات ليرحل وهو فى المستشفى القبطى بقرار من مجمع الاساقفة فيما يمكن اعتباره تحديد إقامة جبرية!!. اللافت فى حالة الأنبا يوساب أن اجتمع عليه الفرقاء، رغم تباين توجهاتهم.

كانت صحيفة الإدعاء فى كل مرة "محاولة الخروج على المستقر، وإحياء اليونانية على حساب القومية، توطئة للتواصل مع الهراطقة"(!!). ويستبيح مقيمو الدعوى استخدام كل الوسائل لاثباتها بغض النظر عن مشروعيتها أو ستقامتها أو نزاهتها، فضلاً عن اثارة النعرة القومية فى ربط مجحف بينها وبين صحة الإيمان فى مغازلة للشارع القبطى حتى تصرخ الجموع "اصلبه ...اصلبه"
ما أشبه اليوم بالبارحة.

• طيف ثان استنسخ المنهج السياسى وتبنى التغيير داخل الكنيسة بالقوة، وشكل ما عرف بـ "جماعة الأمة القبطية"، وقد التقيت بزعيمها الدكتور ابراهيم فهمى هلال، المحامى، بمكتبه بوسط القاهرة، وكان لنا حوار مطول أودعته كتابى الأول "العلمانيون والكنيسة" ـ 2009 ـ فى فصل يحمل عنوان "الجماعة الغامضة ؛ حلم أم كابوس ـ جماعة الأمة القبطية"، ضمنته دعوتها وأهدافها وشعارها، وبرنامجها المعلن، وتتبع للنشأة والإنقضاء.

كان اللافت تطابق شعارها مع شعار جماعة الإخوان المسلمين، الى درجة المحاكاة، ففيما كان شعار جماعة الإخوان "الله غايتنا، الرَّسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الرَّسول زعيمنا، الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا “، يأتى شعار جماعة الأمة القبطية "الله ملكنا، ومصر بلادنا، الإنجيل شريعتنا، والصليب رايتنا، والمصرية لغتنا، والشهادة فى سبيل المسيح غاية الرجاء".

ويحسب لها حراكها فى المشاركة بمذكرة ضافية قدمت للجنة وضع دستور جديد للبلاد ـ 1954 ـ برئاسة الفقيه الدستورى الدكتور عبد الرزاق السنهورى، كانت الدافع لاعتقال قياداتها وتقديمهم للمحاكمة وادانة غالبيتهم وصدرت احكام بالحبس فى حقهم، على الرغم من قرب زعيم الحركة من الرئيس محمد نجيب، وربما بسبب هذا القرب.

الأمر الذى يدفع بالعديد من التساؤلات:
• حول علاقة ظهور الجماعة، فى توقيت له دلالته، بضباط يوليو،
• وحول صدور قرار بحلها، (تأسست 11 سبتمبر 1952ـ صدر قرار بحلها فى 24 ابريل 1954)، لتلحق بقرار حل جماعة الإخوان، الذى صدر فى سياق أخر.
• وعلاقة قرار الحل بصراعات اجنحة يوليو التى انتهت بابعاد واعتقال محمد نجيب، ومسارعة حكومة الثورة بتعقب الجماعة وفك اسر البابا يوساب ـ المختطف بواسطة الجماعة ـ واعادته الى كرسيه، وقد ارسل قداسته خطاباً الى قيادة الثورة يعلن فيه عفوه عن الجماعة ويطلب عدم محاكمتهم، وكان له ما أراد.

ويرجح المحللون عدم ارتباط قرار حل جماعة الأمة بحادثة اختطاف البابا، ويردونه إلى إما محاولة إحداث حالة من التوازن بعد صدور قرار حل جماعة الإخوان المسلمين (14 يناير 1954)، وربما تخوفاً من أن تتطور الأمور فتفضى إلى نشوء حزب مسيحى أو على الأقل تيار سياسى مسيحى بشكل مؤسسى.

لكن التساؤل عن علاقة الجماعة بجناح من اجنحة ضباط يوليو، ومدى ارتباط قيامها وانقضائها بأجهزة النظام وقتها يظل قائماً.

• طيف ثالث أظنه الأبقى والأقوى تمثل فى منظومة مدارس الأحد، وسنفرد لها المقال القادم