د.جهاد عودة
وفاة السفيرة نجوى قدح الدم مستشارة مجلس السيادة السوداني بسبب كورونا كشفت عن تفاصيل جديدة متعلقة بدورها الكبير في تقريب المسافات بين المجلس وتل أبيب، حيث وصفتها تقارير صحفية سودانية ودولية بأنها عرابة التطبيع مع إسرائيل ومهندسة اللقاء الذي جمع بين عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء اسرئيل في العاصمة الأوغندية عنتيبي في فبراير 2020 وكانت  حاضرة ضمن وفد البرهان وفقا لما كشفته الصور .

مجلس السيادة السوداني أصدر بيانًا نعى فيه المستشارة  نجوى قدح الدم، وجاء في البيان أن رئيس المجلس الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) نعيا السفيرة قدح الدم دون ذكر أسباب الوفاة وقال المجلس في نعيه إن المستشارة أسهمت في تعزيز علاقات السودان الخارجية . ولدت نجوى عباس أحمد محمد قدح الدم عام 1966، والدها عباس قدح الدم، إمام جامع يحمل اسم الأسرة بحي العباسية في أم درمان، وورث مشيخة قبائل الفلاتة من والده الذي تعود أصوله إلى قبائل الهوسا والفولاني والبرنو في غرب أفريقيا وتُعرف في السودان باسم "الفلاتة". درست مراحلها التعليمية في مدينة أم درمان، ثم التحقت بجامعة الخرطوم، كلية الهندسة، قسم الهندسة الميكانيكية، وتخرجت فيها عام 1989،وحصلت بعدها على درجة الماجستير في الطاقة المتجددة، ثم التحقت بوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) والعهد العالمى لدراسه الفضاء بمدريد  ، ثم جامعة زيمبابوي. ثم عُيّنت مدرسا مساعدا بكلية الهندسة في جامعة الخرطوم وحصلت على الدكتوراه فى ذات التخصص. 

وخلال رحلتها العلمية تزوجت أستاذها أحمد نومان، ألماني الجنسية، وأقاما في النمسا لظروف العمل مع ابنتهما الوحيدة قبل أن تنفصل عنه. أتاح لها عملها في منظمة تابعة للأمم المتحدة في أوغندا، فرصة الاقتراب كثيرًا من الرئيس يوري موسفيني، الذي يعدها مثل ابنته، كما ذكرت قدح الدم بنفسها، في واحد من حواراتها الصحافية، وقاد ذلك إلى توسطها بين البشير وموسفيني، لتحسين العلاقة بين بلديهما، إثر سلسلة توترات مستمرة سبّبها تبادل الاتهامات بإيواء كل طرف لجماعات متمردة. ونجحت مساعيها عام 2015 في تنظيم زيارة لموسفيني للخرطوم، كانت بمثابة تحوّل في العلاقة بين الخرطوم وكمبالا، وغيّرت تمامًا من نظرة موسفيني للبشير، بل إنه تحوّل إلى واحد من أكبر الداعمين له في معركته ضد المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أمر قبض بحقه في عام 2010.

وكان هذا هو الاختراق الكبير، لقدح الدم ومكانة كبيرة وسط نظام  البشير الذي وثق بها، وكلفها بمهمات عديدة، منها إيصال رسائل إلى عدد من الجهات، ومنها كذلك تنسيق الدور السوداني والأوغندي في تحقيق السلام في جنوب السودان. وبمجرد توقيع هذا الاتفاق، قرر البشير منحها وسام النيلين في عام 2018. كذلك حصلت على جواز دبلوماسي سوداني بدرجة سفير، وفي الكثير من رحلاتها من الخرطوم وإليها كانت تُفتح لها صالة كبار الزوار وتستخدم سيارات الرئاسة. برز أكثر من تساؤل عن علاقتها بموسفيني، الذي حرص في أثناء زيارته للخرطوم على زيارة منزل أسرتها في أم درمان، لكن قدح الدم أشارت إلى أن عملها في أوغندا، وتحديدًا تحقيق الاستقرار بشمال البلاد، هو الذي قرّب المسافات بينها وبين موسفيني.

ولفتت إلى أن علاقتها بموسفيني ليست الوحيدة في وسط الرؤساء وحكام الدول، متحدثة عن علاقات لها مع رئيس زيمبابوي الراحل روبرت موغابي والنيجيري أولوسيغون أوباسانجو، وزعماء الكونغو ورواندا والأردن وجنوب أفريقيا ورؤساء آخرين نمت علاقتها بهم في أثناء عملها في الأمم المتحدة. السفيرة قدح الدم المعروفة إعلاميا بـمهندسة اللقاء الذي جمع البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير 2020  في أوغندا. وبعد إنجاز ملف العلاقة مع أوغندا، تحوّلت جهودها إلى التوسط بين البشير ومعارضيه، وعملت لإنجاح مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا إليه البشير، مع نشاط آخر في عملية السلام في جنوب السودان. توفيت جراء اصابتها بفيروس بعد تدهور حالتها فى الأربعاء 27 مايو رغم محاولة طاقم طبي إسرائيلي إنقاذها، فيما أعلنت النيابة العامة إصابة ثلاثة من مساعدي الرئيس المعزول عمر البشير المعتقلين بالفيروس.

كانت قدح الدم تعمل في دائرة ضيقة قرب الرئيس موسفني، ولوحظ أنها لا تتمتع بودّ فى دائره القيادات  الاوغنديه العليا . في هذه الدائرة التي تتكون من ابنه الجنرال موهوزي كاينروجابا الذي عينه كبيرًا للمستشارين منذ عام 2017 في خطوة وصفها معارضوه بأنها تتجه نحو توريثه، واتصف الابن بشراسته التي أدت إلى هروب دافيد سيجوز رئيس الاستخبارات الحربية السابق بعد انتقادات وجهها إلى ديكتاتورية موسفني، قبل أن يعود بعفو رئاسي ثم يُعتقل، وتكتمل الدائرة بسالم صالح أخ الرئيس الذي يشغل منصب مستشار رئاسي، وزوجته جانيت موسفني، ورئيس الاستخبارات الأوغندية جوزيف أشوت، وربما يكون رئيس الاستخبارات أكثر من ارتاح لرحيلها، ذلك أنه أثناء لقاءات موسفني مع رؤساء الدول، كان أكثر من يبدو عليه التوتر والامتعاض بسبب تحركات قدح الدم بين الوفود وحرصها على الجلوس خلف الرئيس مباشرة على الرغم من سهولة رؤية الخط الفاصل بين كونها سياسية أو موظفة دبلوماسية تؤدي عملها، إلَّا أن نجوى قدح الدم المستشارة الدبلوماسية للرئيس الأوغندي يوري موسفني، لفتت الأنظار مبكرًا بحركتها الدؤوبة بين السودان وأوغندا وإسرائيل، كما أثارت جدلًا مستمرًا بلغ ذروته عندما عملت على تنسيق اللقاء بين رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير2020.   وبوفاتها فُتحت بوابة على الأسرار والغموض الذي كان يكتنف حياتها مثلما اكتنف محاولة إنقاذها، وقد نجت من الموت مرتين، الأولى عندما اعترفت لبعض المقربين منها بأنها قد تكون تعرَّضت لمحاولة قتل بالسم، وذلك إثر وعكة ألمَّت بها في أوغندا وتعامل الكل معها على أنها ربما تتوهم ذلك بسبب ما يحيط بأجواء القصر الرئاسي الأوغندي من صراع حول دائرة الرئيس الضيقة، أما الثانية فكانت بعد تأثرها بإصابتها نتيجة حادث سير أودعها أحد مستشفيات الخرطوم لفترة من الزمن كانت تلازمها حراسة أمنية مشددة.

ومنذ أن بدأت الأنظار تتسلَّط على تحركاتها الأخيرة، نُبشت سيرة جدها الذي كان مواليًا للإمام محمد أحمد المهدي، ولكنه لم يكن على وفاقٍ مع خليفته عبد الله التعايشي، وذكر أحد المراجع الموجودة في متحف الحرب الإمبراطورية ببريطانيا التي كتبها ضباط الحرب آنذاك، أنه كان ينقل ما يحدث في مجلس التعايشي إلى ونجت باشا مدير الاستخبارات البريطانية للحملة على السودان ما مهَّد لهزيمة الأنصار في معركة كرري في الثاني من سبتمبر 1898 ودخول جيش هربرت كتشنر أم درمان.  وكافأه ونجت باشا عندما صار حاكمًا عامًا على السودان بأن عيَّنه ناظر عموم الفلاتة في السودان، كما يُتداول أن والدها في عهد الاستعمار عيَّنه إدوارد عطية رئيس الاستخبارات البريطاني، سكرتيرًا لنادي الخريجين لمدة 16 عامًا بغرض كتابة تقارير عن نشاط الحركة الوطنية السودانية.

صادفت قدح الدم الرئيس الأوغندي يوري موسفني في النمسا خلال مؤتمر للأمم المتحدة حول الموارد المائية عقد عام 2002 في فيينا، ثم عند خضوعه للعلاج في النمسا، ظلت تتابع حالته بصورة منتظمة إلى أن شفي، واستمر تواصلها معه إلى ما بعد عودته إلى أوغندا واقترحت عليه أن تأتي مع طاقمه العلاجي لمراجعته، وظلت معهم في قصره مدة ثلاثة أسابيع بحسب تصريحها عندما استفسرتها مجلة سودانية عن سرّ العلاقة بينهما، وتوطدت صلتها بأوغندا أكثر بانتقال شركة زوجها للعمل هناك في مجال الطاقة البديلة، ووعدت موسفني بتحويل بلاده إلى جنة، وهو ما لم يحدث بالطبع، ومع أنها انتقلت إلى أفريقيا في إطار مشروع تجاري، إلا أنها سرعان ما أصبحت مستشارة  موسفني فى الشؤون الدبلوماسية.

في سنوات التمرد الجنوبي على الحكومة في الخرطوم، كان موسفني يدعم الجيش الشعبي لتحرير السودان بلا حدود، لرؤيته التحررية من جوار العرب وانتقامًا من الحكومة في الخرطوم التي اتهمها بدعم "جيش الرب" المتمرد على نظامه بقيادة الجنرال جوزيف كوني.  ولكن تدخلت أمريكا في عام 1999 وأشرفت على التوقيع على الاتفاقية الأمنية بين البلدين، والتي قضت بعدم دعم أي من البلدين للمعارضة المسلحة في البلد الآخر.  ثم بعد أن عُقدت قمة الإيقاد بالخرطوم عام 2001 تم تبادل الدبلوماسيين، واتفقا على دعم العلاقات الثنائية بينهما، بعد ذلك، لعبت قدح الدم دورًا بارزًا في تحسين العلاقات بين السودان وأوغندا. ومن أبرز الملفات التي عملت عليها هي زيارة يوري موسفني إلى الخرطوم في سبتمبر 2015، وملف إطلاق أسرى الجيش السوداني (125) أسيرًا في مارس 2017، كانوا لدى "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بواسطة الرئيس الأوغندي الذي قام بتسليمهم بدوره إلى حكومة السودان.  وبعد أن تم إعفاؤها بواسطة لجنة إزالة التمكين وهى اللجنه التى تظرت فى المتعاملين مع البشير بعد سقوطه، واصلت العمل على ملف العلاقات مع إسرائيل الذي بدأته منذ العهد السابق.

قامت السفيرة نجوى قدح الدم بفتح باب هذا التقارب  من خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب . إذًا المسار الذي فتحته السفيرة السودانية يبدو أنه  تم استكماله بعد وفاتها بأشهر عدة. فقد أعلن وزير الاستخبارات الإسرائيلي، إيلي كوهين، في تصريحات صحافية أن "وفدا سودانيا سيزور تل أبيب قريبا، وإنه سيتوجه لاحقا إلى الخرطوم، على رأس وفد إسرائيلي". وتم  التأكيد على ان إسرائيل ستتعاون مع السودان في عدة مجالات، وتوقع إقامة تعاون أمني بين البلدين، وتبادل للسلع وللاستثمارات. الامر الذى ساهم  فى قرار الرئيس الأمريكي رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب كان مهد الطريق أمام الاتفاق.

كما كشفت التقارير أيضا عن  أن قدح الدم لديها علاقات قوية مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومع مدير المخابرات السودانية الأسبق الملاحق بواسطة الإنتربول صلاح قوش. كما تربطها علاقات قوية مع عدد من رجال السياسة في ألمانيا. ومن المعروف انه تم في تسعينيات القرن الماضي، خلق قنوات تواصل مع اسرائيل.  وكان من يدير ملفاتها الاستخبارات السودانية والموساد الإسرائيلي كل من رئيس الأمن الوطني السوداني المقال صلاح قوش ورئيس جهاز الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين.  وقد كشف موقع ميدل إيست آي البريطاني عن التقارب الاستخباراتي السوداني الإسرائيلي مؤكدا أن لقاءً جمع قوش وكوهين على هامش مؤتمر ميونخ للأمن الذي عقد في فيراير 2019، وأكد الموقع أن اللقاء نظمه وسطاء مصريون تدعمهم السعودية والإمارات وذلك دون علم رئيس النظام السوداني حينذاك عمر البشير .