محمد حسين يونس
الشعب المصرى كان منذ الأزل الشعب الأعمق تدينا والأكثر حرصا على أداء الطقوس و حضور الإحتفالات  الدينية و الطاعة لوصايا  الكهان .
 
المصرى زاول منذ زمن أوزيريس وآمون الصلاة والتطهر والصيام والحج ( في الموالد و المواسم لمقرات النتر )  والنسك و الرهبنة . 
 
وأدى مراسم للوفاة والدفن وزيارة المقابر (حاملا القرابين) .. بأسلوب لا يفترق كثيرا عما يزاوله انسان القرن الحادى والعشرين المؤمن الموحد الملتزم .
علي الجانب الأخر كان التدين  بين العامة محصورا فى أداء الطقوس ، دون التعمق فى فلسفة الدين مما أدى إلي جمود فكرى دام لالاف السنين طبع المصريون بطابعه .. وجعلهم عاجزون عن فهم مغزى المسموح والممنوع انسانيا أو التفكير في الأسباب.
 
فالعقيدة أى عقيدة - إبراهيمية كانت او مستنبطة من المجتمع -  تنقسم فى الغالب الى فرعين رئيسيين أحدهما يتصل بعلاقة البشر بما هو فوق إدراكهم من وجود الكون وتسييره ومصيره وهو ما يطلق عليه الميتافيزيقيا ... فهي امور لا تشغل العامة .. بقدر ما هي أساس الإيمان لدى المتبحرين من الواصلين .  
والآخرينظم علاقة البشر بالبشر و يسعي لتهذيب النفس والحد من الجور والبغى وهو ما يدرج فلسفيا تحت عنوان قيم ( الحق والخير والجمال ) .
 
التعاليم الدينية المتصلة بإسلوب التعايش تحولت لدى المصرى  إلي طقوس تؤدى بصورة تلقائية .. و عندما يمارسها  البعض  تعتبر دليلا وعلامة من علامات التقوى .. و الإيمان و حسن الخلق .  
 
فى مصر كانت الميتافيزيقيا ( دوما ) غامضة علي العامة ..,حكرا على الملك و الكهنة و بعض من رجال السلطة .. 
لذلك كانت  متغيرة الأشكال .. وفي نفس الوقت متصلة .. 
 
بمعني  تكسب ديانة الملك الجديدة  شرعيتها من إحتواء ما قبلها من فلسفات الديانة القديمة مثل (امن - رع ) .. 
وظلت علي حالها لمدة الفين سنة  لم تتغير إلا في حالة  دين رب إخناتون (أتن ).. الواحد الأحد الممثل في قرص الشمس و الذى ساد لفترة قصيرة .
  
أما الشعب فقد كان عليه ألايفكر .. بقدر ما يحرص على أداء الطقوس فى مواعيدها ليضمن رضا إلآرباب...و حسن الصيت و القبول من المجتمع .
 
في مصر عاشت الأديان المختلفة متجاورة فى سلام وأمن ( الايزوريسية الخاصة بعبادة التجدد  ثم مختلطة في زمن أخر بالحورسية ) بجوار (الرعوية أو الآمونية الخاصة بعبادات السماء ) ، 
 
حقا كانت الأولى دينا للشعب  ولم تحكم أبدا .. والثانية للصفوة المتحكمة .. الا ان أى من هما لم ينتقص من حق الآخر. أو ينفيه . 
 
فى زمن لاحق وبعد الغزو العربى تجدد المشهد ، فالشعب الذى كان يدين أغلبه بالقبطية ( دين تجدد أقرب للاوزيريسية ) ، تقبل الحكام الذين يدينون بالاسلام ( الدين السماوى الأقرب للأمونية )..
 
اما الحكام فلم يكن يعنيهم الأمر لقد كان هدفهم الحصول على الجزية والخراج أكثر من الدعوة لدين جديد فتركوا الشعب على ملته مادام يؤدى ما يقرر عليه  لبيت المال .
 
الخلل فى التوازن بين الأديان جاء مع حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيون الذين إضطهدوا الشعب فى دينه بقسوة  يحكي عنها بوفرة في الكتب القديمة ، جعلت العديد منهم يتسربون من المعسكر القبطى للمعسكر الاسلامى درءا للخطر .. و تجنبا للإضطهاد و التفرقة .
 
 وظل المصرى علي مر الزمن  مسلما أو قبطيا حريصا كما فعل أجدادة على أداء طقوس دينه وتعاليم العلاقات الحميدة  مع الطبيعة ..و بين البشر و بعضهم ..، دون التعمق فى فلسفة الأديان و الإكتفاء بما يملية علية رجال الدين ذوى العمم البيضاء أو السوداء .. 
 
 لذلك كان صيدا سهلا للوهابية فى الزمن التالى لتوقيع معاهدة كامب ديفيد. .مزاولا التعصب .. و عدم قبول الأخر .. و في بعض الأحيان نفيه و معاداته .
 
كهنة الوهابية الذين تعلموا فى السعودية أثناء هروبهم من اشتراكية عبد الناصر ، عادوا ليطرحوا مناقشة جميع القضايا التى كانت قد حسمت فى زمن النهضة بواسطة الافغانى ومحمد عبده و علي عبد الرازق .. وخالد محمد خالد ..  وحتي جيهان السادات ..
فتعود المرأة الى خدرها وتمنع عن العمل ، ويصبح لصلاة الجماعة الأولوية عن لقمة العيش ، وتثار الزوابع على فوائد البنوك لإتاحة الفرصة لشركات توظيف الأموال النصابة .
الهم الأكبر الذى أدى الى تدهور الوعى المصرى ، كان التفسير الوهابي لمعنى الجهاد وتكفير المجتمع والدعوة للاسلام بالقوة المسلحة .
 
إنعكس هذا على العلاقة مع غير المسلمين الذين طالب بعض من أصحاب الفتاوى أن يدفعوا الجزية للحكومة الاسلامية ، وبدأوا يجبونها بالقوة عن طريق مهاجمة محلات الصاغة التى يملكها غير المسلمين
 
أو علي السلوك العدائي ضد السياح كما حدث في ساحة معبد حتشبسوت أو تفجير الكنائس و الأديرة و مهاجمة الحجيج .
 
الحجاب والنقاب والاسدال وغيره من مخترعات التحريم ، انتشر بين سيدات وفتيات مصر بعد أن  كن المصدر الأساسى للموضة الحديثة .. و وصل حتي  سيدات الطبقات العليا و.. المثقفات و الممثلات .
 
بعد أن احتلت الوهابية مصر ..
 
تجد رجالها بلحاهم غير المهذبة والجلباب الذى لا يصل الى القدم ، وأغطية الرأس المختلفة المستوردة من الخليج وإيران فى المدارس والجامعات والمحاكم ودور البحث ، فى المحلات ودور السينما .. فى كل مكان يحثون الطلاب وغير الطلاب على إتباع أفكار مفتى السعودية التي  تحض على استبدال الأدوية بحبة البركة والعسل وبول الابل ، واستثمار الأموال فى شركات اسلامية وتفسير كل الظواهر العلمية والتاريخية من خلال آيات القرآن أو الأحاديث النبوية .
 
ويتحول الكثيرون الى دراسة الفقه بدلا من الهندسة والطب والصيدلة لنجد الطب النبوى والصيدلة الاسلامية .. وليتغير إسلوب التعليم و مستوى الخريجين... بعد أن تنفق الحكومة المليارات علي التعليم الديني .. و الأزهرى  وتنتشر بنوك و جمعيات جمع الصدقات و التبرعات ..و أكفل يتيم أو أكفل قرية في الصعيد .
  
حتى كرة القدم اللعبة التى لا يمكن تجاهل شفافيتها ، أصابها ما أصاب المجتمع الوهابى فاللاعب الذى يخطئ يتعلل بأنها إرادة الله وما شاء فعل ، أما الذى يصيب فانه يسقط ساجدا شاكرا المولى على أنه قد وفق 
 
فريق الكرة المصرى بدلا من التدريب والتثقيف وتعلم فن الكرة ، يمضى وقته فى المقرأة  وشرح التفاسير ، و ترديد الأدعية .. و الأوردة .. و ينتظر معجزة من السماء .. فيتدهور المستوى ونخسر اللاعبين و لا نكسب دعاة وشراح واعدين.
 
الرجل المصرى الذى كان يحترم أسرته ويقدس الحياة الزوجية يدعمها وتدعمه ، أصبح يتزوج مثنى وثلاث ورباع ، وكلما زاد دخله زاد عدد حريمه .. خصوصا إذا كان من الدعاة التلفزيونيون . 
 
وتسقط قيم الحب الراقية والتعاطف والتوافق لتحل محلها قيم السوق ( بكم ) ( ماذا تدفع ) وتنحدر أحوال الأسرة مع كل زيجة جديدة . 
 
المشكلة أن الفن يؤطر هذا ( الحاج متولى )نموذج لهذا الفحل الذى يشترى بماله جميع أصناف الحريم من تلك التى تفك الخط حتى الحاصلة على أعلى الشهادات الجامعية .
 
الكارثة الحقيقية فى مسألة الزواج هو ظاهرة الزواج من الأطفال ، الذى كان ممنوعا بالقانون وممجوجا بالعرف ، فأصبح له سماسرته ومسهليه وعاقدى الزواج من محامين وفقهاء .
 
الفن عموما لدى الوهابيين مرفوض ، فلا موسيقى ولا نحت ولا رسم ، وقد شهد الكونسيرفتوار شيخا مبجلا جاء ليعظ طلاب المعهد فأفتى بان الموسيقى التى يتعلمونها والبالية حرام .
 
على نفس النمط قد يتولى عامل مطبعة مصادرة كتب لفنانين عظماء مثل ( وليمة لاعشاب البحر .. للكاتب حيدر حيدر).. لأنه شك فى نية الكاتب عندما كتب جملة او كلمة لم يفهمها السيد العامل.. 
 
قضايا الحسبة لتجريم الفكر والفن أصبحت وسيلة إرتزاق للعديد من المحامين وسبيل لشهرتهم فى مجتمع يحبذ كل ما هو رجعى حتى فى أحكامه القضائية .
 
 مجتمع يسكن نصفه فى البيت ويطارد من تأبى الكمون ..فى الشارع والاتوبيس والسوق وأماكن العمل و يأمن العقاب .. بسبب فتاوى الشيوخ و تخريجات المحاميين  ... وحديثا يمكن أن يهاجم الجيران سيدة وحيدة لان لديها زائر و يتسبب في أن تلقي من البلكونة  فيسأل المحقق الطب الشرعي .. هل مارست الجنس قبل النحر .. أو يسحلون أسرة لان إبنتهم وقفت في البلكونه مع خطيبها في وضع محبة ..  و يترتب علي ذلك أن  تطرد  العائلة من منزلها و تهجر . 
 
مجتمع لا يعمل طوال شهر رمضان ويعاقب من يعلن إفطاره حتى لو كان مرخصا له ، مجتمع يحول المدن والقرى الى سلخانات للخراف ويلوث البيئة ويسد المجارى مستهلكا لحوم لم تفحص بواسطة البيطريين ،
 
 مجتمع يصر على رفع الأذان بميكروفونات ذات ذبذبات عالية تزعج المؤمن وغير المؤمن ، مجتمع أصبح الدعاة فيه أكثر من الأطباء والمعلمين .. لما يدره هذا العمل من كسب سهل للرجل والمرأة مهما كانت ثقافتهم او تعليمهم متدهورا
 
مجتمع  تنفق الدوله فيه المليارات علي التعليم الديني والازهرى و تبخل بها علي التعليم العصرى  أو الصحة و مقاومة الأوبئة .
 
ورغم هذا الايمان المفرط  و بسببه فان المجتمع يغرق فى الخرافات ومعجزات الجن والعفاريت ومآثر الملائكة التى حاربت أثناء عبور القناة مع الجنود ، أو ظهرت في رابعة ..أو  شدت الباخرة الجانحة في القناة و سيرتها ..
 
 وينفق المليارات على الحج والعمرة كإظهار للفضيلة ومداراة فظائع من الأفضل عدم ذكرها .
 
رغم أن الدستور ينص على أن الشريعة أحد مصادره إلا ان أنصار الوهابية يريدونه بكامله دستورا دينيا لحكما دينيا وسيطرة كهنوتية .. 
و في بعض الأحيان يغالون .. و يقولون لا نريده من الأساس .. بل لا يقفون عند عزف السلام الوطني أو تحية العلم لاسباب .. تعلي من الحس الديني علي المشاعر الوطنية . 
 
لتنزاح العلوم والفلسفة تاركة مكانها للفقه والتشريع وتغلق المدارس والأندية ليبنى مكانها دور عبادة ، ويتوقف التطور الثقافى والحضارى عند ألف وأربعمائة سنة ماضية..وما جمع من سيرة و احاديث بعد خمسة قرون من ظهور  الإسلام . 
 
السؤال ..
ما الذى جعل من مصر مستعمرة وهابية وتابع أمريكى إسرائيلى ، رغم انها كانت زعيمة حركة عدم الانحياز ومحركة الثورات والانفجارات بين دول المنطقة ، ورائدة الاشتراكية والوحدة العربية
 
و ما الذى جعل بلد مثل السودان تعلن فصل الدين عن الدولة ..و الإمارات بعدم بحث الحالة الزوجية عند سكن فردين مختلفي الجنس معا .. و السعودية إلي تغير جذرى في القوانين التي تحكم المجتمع .. في حين أننا نرسل قانون الأحوال الشخصية للأزهر لإعدادة و الموافقة علية .. مع علمنا .. ماذا سيكون إتجاه المشايخ  .
 
ما الذى أجهض الثورة التنويرية والليبرالية التى قادها الوفد منذ 1919 ...و سهل للمشايخ الجمود  بالمجتمع عند حدود  القرن الثامن عشر ..  هل هي جينات ورثها المصرى عن الأجداد .. أم هو حكم العسكر  الذى فرخ و راعي و أنعش الإسلام الراديكالي و تحالف معه .. موضوع المقال التالى (( نكمل حديثنا باكر )) .