إعداد وتقديم الباحث - عصام عاشور
استكمل الباحث عصام عاشور تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وفى هذا الجزء الرابع تناول الحرب الغاشمة على الإسكندرية وبطولة الجنود المصريين فى التصدي للعدوان الانجليزي على المدينة.
 
وقال عاشور، خلال برنامجه "الحكاء.. شذرات من تاريخنا" والمذاع كل خميس على شاشة الأقباط متحدون، فى يوم 11 يونيو وعلى أثر خصام نشب بين رجل مالطى وأحد المكاريين (الحماريين) حدث ما عرف ب (مذبحة الإسكندرية) .. تطورت هذه الخناقة إلى مجمومة من الإشتباكات بالطبع بين المصريين ومجموعات من الأجانب مما حدا بوصفها بالمذبحة التى وصل ضحاياها طبقاً لتقرير لجنة الأطباء التى شكلها القناصل الأجانب بالإسكندرية إلى :

49 قتيل منهم 38 من الأجانب و11 من المصريين والمصابين 300 مصاب .. وهنا غادر معظم الأجانب الإسكندرية خوفاً على حياتهم.
 
وتابع: كانت ما أطلق عليها مذبحة الإسكندرية الحجة الريئسية لما سيقدم عليه الأسطول الإنجليزى بعدها مباشرة وهو (دخول الإسكندرية) .. والحجة هنا هى كما روج لها فى أوربا (حماية المسيحين الغربين  والأقباط المصريين من المسلمين .. وأيضاً التشهير بعرابى والعرابيين) وقد تم حشر الإشارة للأقباط المصريين رغم عدم ما يدل على ذلك إطلاقاً حتى أن ما سمى بمذبحة الإسكندرية لم يعتدى فيها على قبطى واحد). 
 
وعند شروق شمس صباح يوم 11 يوليو 1882 وفى تمام الساعة السابعة صباحاً أصدر القائد الإنجليزى أوامره يإطلاق النار على الإسكندرية وأهلها لايزالون نياماً.. فإنصب الجحيم على المدينة وأهلها.
شاهد أيضا
 
 
 
فأصدر عرابى بياناً إلى الشعب قال فيه :
(أطلق الأميرال الإنجليزى النار غير مبال بأى شرعية أو حقوق للشعوب .. وهو أمر يكسو الحكومة التى وافقت علي سفك دماء الأبرياء ثياب العار ويسجل فى تاريخها صحائف سوداء لا يمحوها مرور الأزمان والأعوام).
 
لكن فوجئ القائد الإنجليزى الذى سبق أن قال : أنه سيتم هد المدينة – الإسكندرية -  على رأس أهلها وتحويلها إلى كومة رماد فى خلال نصف ساعة .. وتقوم برفع الراية البيضاء.
 
فوجئ الأسطول الإنجليزى برد المدفعية المصرية على نيران جهنم التى إنطلقت من مدافع أسطولهم .. وأثبت جنود السواحل شجاعة خارقة وبطولية بالنسبة للتفاوت الجسيم الذى كان بينها وبين العدو من حيث الإستعداد والتسليح.
 
كان ذلك بشهادة الكولونيل الأمريكى قائد المدرعة التى الأمريكية التى أرسلها أمريكا لإجلاء رعاياها. 
 
إستمرت البوارج والمدرعات البحرية وأقوى خمس سفن فى الأسطول البريطانى فى إطلاق القنابل والنيران على الحصون.
 
ولكن كان دفاع القلاع والحصون دفاعاً مستميتاً للدرجة التى جعلت أحد القادة الإنجليز وهو الكابتن (وولتر جودسال) يقول : " ذهلت أمام هذه البطولة اللأسطورية التى لم أصادفها ولم أعرف كيف أفسرها وزاد من عجبى ودهشتى موقف ذلك الحصن (حصن الأطة) إذ وقف بجوار العلم بمفرده والمنظار فى يده يوجه الضرب غير مبال بتساقط القذائف حوله"
 
إستمر القذف المباشر على القلاع والحصون والإسكندرية .. وزادت فى نفس الوقت المقاومة من الجنود والضباط المصريين  .. حتى قال الميجور (تولوك) ضابط المخابرات الإنجليزى الذى كان يراقب المعارك أمام حصن الماكس فى مذكراته:
 
"من أعجب ما شهدت فى حياتى جنود حصن المكس فى الإسكندرية وكنت قد شاهدت عجائب كثيرة ولكن هذه كانت من أعجب الخوارق (رأيت الجنود يقفون ثابتين ملازمين مدافعهم لا يتخلون ولا يتزحزحون عنها رغم سيل نيران جهنم التى كانت تنهمر عليهم .. ورأيت أكثر من قذيفة تدخل فوهة مدافعهم .. وكنت أقطع بأنها قضت على المدفع وطاقمه تماماً .. ولكن ما لا ألبث حتى أجد نفسى صائحاً .. لا يمكن .. لا يمكن لأن المدفع عاد يرد ويطلق قذائفه .. وفى إحدى المرات كان الرد سريعاً بحيث قفزت إلى حافة السفينة ورفعت يدى أحييهم .. وأصيح أحسنتم أيها الجنود المصريين.
 
وكتب البارون (دى كيورك) وكيل مصلحة الجمارك المكلف عند بدأ المعارك بحمل أموال المصلحة واللجوء إلى الأسطول يقول : 
كانت المدرعات الإنجليزية تصب نيران مدافعها بتركيز فى وقت واحد .. وكانت تهيئ لمن يراها أنها دكت الحصون ودمرتها عن آخرها وحطمت كل مدافعها .. ولكن لا تلبث أن تستأنف الرد مهما إنقلبت المدافع أو نسفت مخازن البارود.
ويقول (دى كيورك): 
 
بعد إيقاف إطلاق النار غادرت ونزلت إلى البر وأخذت أطوف بالبطاريات  (مواقع المدافعية) القريبة من رأس التين وكانت مناظر البعض منها تدمى القلب .. وجدت خمسة ضباط وستة جنود شجعان متشبثين بمدفعهم الذى إنقلب وقضى عليهم .. وتأكت بعد هذه الجولة أن قليل من البشر كانوا يستطيعون أن يؤدوا واجبهم مثلما أداها أولئك الجنود الذين كانوا فى الحصن فى ذلك اليوم .. ولا يمكن أن يخفى أحد عجبه وإعجابه بلا حدود بالجنود الذين صمدوا وردوا على النيران الجهنمية التى كانت تنهال عليهم من كل جانب .. لقد رأيت جنود يستميتون فى رفع مدفع إنقلب بهم ويعيدينوه ويستأنفون الضرب .. وكثيراً ما تكرر هذا المنظر أمامى .. وابل من النيران ومدفع يسقط وينجح طاقمه فى إعادته وإستئناف الضرب.
 
وأخيراً يمكن أن نذكر شهادة قائد الحملة الأميرال (سيمور) الذى إختتم بها تقريره المرسل لقيادته قال فيها : 
(قاتل المصريون قتال الأبطال بأقدام ثابتة وكانوا يردون على النيران الشديدة التى تصبها مواقعنا على حصونهم بحنكة وشجاعة وقتل عدد كبير منهم).
 
وفى الساعة الخامسة توقف إطلاق النار بعد إحدى أعنف المعارك وأطولها فى تاريخ البحرية البريطانية (فى وقتها).
حيث صبت ثمانية وعشرين سفينة حربية بريطانية جحيم نيرانها على الإسكندرية لمدة عشر ساعات.
وقد إعترف كثير من الضباط الإنجليز بعد ذلك أن تدمير الإسكندرية وبالطريقة التى تمت بها كان عملاً غير مقبول .. ولم يكن ضرورياً وأن المسؤل عنه هو القائد الإنجليزى وطموحه وشهرته بالتعطش للدماء والدمار فى أن يقرن إسمه بحدث من الأحداث التاريخية الكبرى.
ورغم كل هذه المقاومة الباسلة التى إعترف بها العدو ونتيجة لكثافة هذه النيران .. أجهز الإنجليز على طوابى الإسكندرية وأسكتوا مدفعيتها.
فإحتل الإنجليز الإسكندرية .. وإنسحب الجيش إلى كفر الدوار.
 
هناك واقعة ذكرها بعض المؤرخين ولم يذكرها كثير منهم وهى أن :
(الجيش عند إنسحابه من الإسكندرية قد أشعل النيران عمداً فى أبنيتها الفخمة ليسهل نهب مخازنها ولئلا يتركوها لقمة سائغة فى أيدى الإنجليز).
 
وأذاع عرابى فى نهاية المعارك بياناً قال فيه : 
"كانت حامية الحصون مكونة من الالاى (تقريباً ما يماثل تشكيل اللواء) واحد مجموع قواته 1762 ضابطاً وجندياً وهذا الالاى هو الذى قاتل فى ذلك اليوم الرهيب رغم كل عيوب الحصون ونقضها رغم التفاوت بين القوتين المتحاربتين وضآلة معداته .. ظل يدافع بروحه ودمه عن شرف الجيش والعلم المصرى بشجاعة تعلى قدره وترفع رأسه حيا الله أولئك الذين راحوا ضحية الدفاع عن الأوطان وتغمدهم الله بواسع رحمته ورضوانه ولم يقاتل الجنود والضباط فقط بل إنضم الأهالى .. وفى أثناء القتال تطوع كثير من الرجال والنساء فى خدمة المجاهدين ومساعدتهم فى تقديم الذخائر وإعطائهم الماء وحمل الجرحى منهم وتضميد جراحهم ونقلهم إلى المستشفيات .. وقد أستشهد فى ذلك اليوم من جميع الطوابى مائتى رجل وإمرأتان من اللواتى كن يضمدن الجرحى".
 
وهكذا إعتقد القائد الإنجليزى أن المعركة مع مصر قد إنتهت وأن عرابى سوف يطلب موعداً لكى يسلم سيفه .. وظل ينتظر مندوب القيادة المصرية ليحدد موعد لإستقبال عرابى. 
 
وفى هذه المدة طلب الخديوى توفيق الحماية من القوات الإنجليزية خوفاً من القوات المتمردة التى تحيط بقصره كما قال رسوله إلى القائد الإنجليزى.
 
إستجاب القائد الإنجليزى لطلب الخديوى فى نفس اليوم وقبل الساعة الرابعة كان قد خصص لحمايته 700 بحار.
 
أيضا فى نفس الفترة عين القائد الإنجليزى نائبه لإعادة النظام بمدينة الإسكندرية .. ووضع تحت إمرته قوة من البحارة .. واتخذ من مقر المحكمة الموجودة بميدان المنشية مقراً لعقد المحاكمات الميدانية المستعجلة خاصة لمن قبض عليهم متلبيسن بقتل الأجانب أو نهب المنازل أو حرقها .. وكانت الأحكام تنفذ فوراً وعلناً بعد ربط المحكوم عليهم إلى شجرة فى وسط الميدان وبعد أن يحفروا لهم قبورهم أمامهم.
 
هكذا إنتهى يوم 11 يوليو 1882 الذى بدأ فى الساعة السابعة صباحاً .. وإنتهى فى الساعة الخامسة مساءاً.
أصداء ضرب الإسكندرية حيث أحدث هذا هزة عنيفة بين المسلمين .. فدعا علماء تركيا إلى حمل السلاح .. كما ثار مسلمو الهند على الإنجليز مما جعل الحكومة تسارع إلى تحديد إقامة جمال الدين الأفغانى .. وفى الشام حمل الرجال السلاح وأعدوا كتائب من المتطوعين ولكن منعهم السلطان العثمانى من التوجه إلى مصر .. وفى تونس ناصرت صحافتها عرابى ومثلته فى صورة البطل الذى سينقذ مصر والبلاد العربية من التدخل الأجنبى .. وفى ليبيا إصل عرابى بالسنوسى وحضه على القتال والجهاد فى سبيل الله .. وإتصل عرابى أيضاً بعبد القادر الجزائرى فى منفاه بدمشق .. وكذلك إتصل بأبناء فلسطين .. وثوار السودان بزعامة المهدى حتى إضطرت الحكومة إلى إرسال تعليمات إلى حكمدار السودان بعدم الإصغاء إلى تعليمات العرابين .. كذلك أجبر الإنجليز السلطان العثمانى على أن يرسل أوامره إلى كل من والى طرابلس وبنى غازى لمنع الأهالى من الإنضمام إلى المصريين .. أيضاً طلبوا من الحاكم التركى فى فلسطين منع تقديم المساعدة إلى عرابى كما تم إلقاء القبض على كثيرمن العرب المتعاطفين.