القمص اثناسيوس فهمي جورج
فى مثل هذا اليوم ٢٠٠٠/٧/٢٥م تنيح رجل الله انبا مكارى اول اسقف في العصر الحديث لشبه جزيرة سيناء ، الذى صار مختار الله لخدمه كنيسته القبطية لهذه الايبارشية في زمن ما بعد الحرب والقصف الجوى .. خلفاً للمتنيح الطيب الذكر الانبا باسيليوس مطران الكرسى الاورشليمي( مدينة الهنا ) ... سامه البابا المتنيح الانبا شنودة الثالث ال ١١٧ فى عداد البطاركة الاسكندرانيين ، وذلك يوم ١٩٩٦/١١/١٤ م ... كان انبا مكارى خريجا من كلية الهندسة جامعة عين شمس ، وصار مهندساً بالري ، ثم التحق برهبنة دير القديس انبا مقار الكبير بوادى النطرون ، لابساً الاسكيم فى
١٩٧٣/٨/٢٥.
 
عاش طقس الرهبنة القبطية الاصيلة التى لاباء الاسكيم وعشق طريقة سير النساك ، حتى انه حقق مخطوط ( كتاب السلم الدرجى ) وعاش درجاته فى حياة بسيطة عميقة ، مشبعة بالهدوء ومشعة بالسكون سالكا مصاعد الكمال كما بنار قلبية ولسانية ليرتقى سلماً موصلاً للعرش ، فكل من رآه لمس سلامه ووجهه الفرحان وسط التقلبات والمعوقات وكل المفزعات ، وقد قال عنه المتنيح البابا شنودة الثالث ( انه طيب المعدن ، نشيط الخدمة ، قوى العمل ، مكتفياً بالله . لذلك سمع صوت الله كفاك تعب يا انبا مكارى ) .
 
سلك مسلك الاباء وعيشتهم ، ونهج منهج خبراتهم عندما ترجم الكتب الابائية التراثية من لغاتها الاصلية ، وهو الذى يحيط الماماً باللغات القبطية واليونانية والانجليزية والالمانية والعبرية . ليس فقط على مستوى النصوص والنشر ، لكنه ترجمها قولاً وعملاً فى سيرته العذبه ، فلم يكن غريباً علي من يلتقى به كأنه فى زمكان الشيخ الروحانى وكاسيان ، وكأنه قد زار الاسقيط ونتريا حيث مسيرة الصعود والارتقاء بسلمها المنصوب حتي اعتاب الفردوس .
 
عاش مهندس نبيل رياض منذ نشاته ، حياة التقوي الاسرية والطيبة المسيحية واضعاً نفسه ميدان الركض وفى جعبته سهام اباء البرية ، سائراً الطريقة الضيقة فى صحارى جبال العالم الملآنه شكوكاً وعثرات وفخاخ ، لكنه كان رفيقا وصديقاً للشهداء والقديسين وله دالة عميقة معهم .
 
خدم اثناء تعليمه فى قرى الجيزة وفي الاسر الجامعية بالقاهرة ( ١٩٦١/١٩٥٦) ثم فى سوهاج عندما عين مهندساً للرى ( ١٩٦٢ ) وفى جرجا وطنطا وبسيون وبلقاس ( ١٩٧١ ) اثناء تنقلات عمله الوظيفية . فلم تحده الاماكن ولا الاشخاص ، بحيث صار خادماً اينما كان ، وايضا عندما صار راهباً حمل الاثقال وتمم ناموس المسيح بمسرة روحية فتحت امامه قلوب محبى الخلاص ومجد الكنيسة بسعة سواء فى المنيا واسيوط او فى شبه جزيرة سيناء ، مواصلاً مسيرة رتبها له الله من اجل المقاصد والضرورة التي وضعت عليه .
 
فالشباب الذين خدمهم فى هذه المحافظات رافقهم بمحبته واشار لهم علي فرح المسيح وبهجة الخلاص ، وايضا نحو صدق الوعود ، فازال جبال الهموم عنهم ، كى تستقم المعوقات وتسهل العراقيب امامهم ، راعيا لاولاده الي نفسه الاخير ، وحتى اليوم الذى جاء لهم فيه خبر انتقاله ، بصدمته الحزينة ، فذهبوا وهم يقرعون صدورهم على رحيله الدامى.
وفى يوم تجنيزه قال المتنيح الانبا شنودة ( انه عاش لاجل الناس وتعب لاجل الناس ) . لقد سافرت ياابانا البار وتركت سيرة حياة لم تحدها دائرة مكان ولا زمان ولا مواصفات ولا ظروف ، فصرت حلماً جميلاً تردد اصدائه عبر الاجيال ، بعد ان تركت العالم الذي لم يكن مستحقاً لك . لانك ايقونة زاهية لرجل الله ، وبرهانا لصدق عيشه الانجيل .. تطهرت بزوفاً الروح القدس ، حافظاً ثياب عرسك بلياقه وفاء النذور . لذلك لازالت تتكلم حتي اليوم بزينة هدوءك وبثبات قلبك بالنعمة ، تتكلم بزهدك النادر ،وبصوتك الخفيض الذي يتحدث بكلام الارشاد والفطنة ، تتكلم بسعيك الدؤوب للبنيان ، وبطول اناتك علي النفوس ، تتكلم بتعميرك لمقادس العلى راسما للذين تتلمذوا عليك صورة مسيحك الحلو ... . جاعلاً من صلوات العشيات مدرسة للتعليم ، صانعاً للمعجزات بقوة صلاتك وببحثك عن الضالين والمرتدين ، مقيماً النفوس من الخطية بفعل اقتدار عمل الذبيحة والمذبح ، ففيما كنت تبنى المذابح صرت ترويها كمهندس رى المياه الجارية ، واثقاً فى اعمال الله حسب ما رددت علي الدوام " ده شغله" وهو الذى عال خدمتك ومن هم معك . وسد الاحتياجات ووفي الديون وقضي القرارت بتدابيره العجيبة .
 
لاجل ذلك كله صنع الله معك العجائب والايات فى كل معجزة شفاء وفى كل عمل رعاية وفى حل كل المشكلات . وايضا في كل مبني قمت بتشييده ، وقد اعطيت انت المجد لله على عمله العظيم في ايبارشية سيناء الحديثة ! والتي طالها تخريب الحروب .. صامدا حيال مقاومات ابليس وعراقيله ، اذ لم يكن يطيق لا صليب القبة ولا جرس المنارة وعرش المذبح . فللحديد معجزاته ولصب الخرسانات معجزاتها وللرسومات
والمؤن والتراخيص معجزاتها .
 
ونحن في ذكراك العشرين نتعجب هل حقاً كنت تعيش هنا معنا ؟ وهل يوجد من هم مثلك ؟ ... نعم لان عصر الاباء لم ينتهى ولان الروح القدس يعطى فى كل زمن شهود اتقياء ، ليضعهم على المنارة فيضيؤا لكل من فى البيت - "فى الكنيسة" - مضيئا في اذهاننا بوقوفك فى الصلاة وعيونك المرفوعة نحو الساكن فى الاعالي ، مضيئا باجترارك للصلاة بهذيذ ، وبعبادتك التي صارت محفورة فى الاذهان "عابداً ساهراً صائماً زاهداً مكتفياً ومرعباً للشياطين " . حقا علمت الناس محبة الله والتدقيق فى القانون الروحى والحس المرهف نحو رضا ربنا القدوس ، مواظباً على صلوات السواعى الليلية والنهارية ، غير مكتفياً بقانون الصلاة بل حياتك كلها صيرتها صلاة ، مستعداً للرحيل حتي يوم السفر السعيد ، فقد شكل الله انسانك الداخلى
وكنت انت ملتمسا وجهه الالهي المريح .
اعطيت المثل فى محبة اولادك واحتضانك للجميع ، غير ساع للكرامة منجياً نفسك من علل الهوان ، حتى انك لم تجلس على كرسى الاسقفية إلا يوم تجليسك ... لم تذم احد ولم تذكر متاعب الماضى ، مقتديا بسيدك لا تصيح ولا يسمع احد فى الشوارع صوتك ، مفتدياً الوقت ومسطراً كل يوم فى وريقات الاعمال
المطلوبة منك.
 
لكن وداعتك هذه لم تمنع شجاعتك وكونك لا تهاب احدا قط ... تبدأ مراسلاتك بعبارة "الرب يسوع حبيبك وحبيبى (فلان) " ساعيا لحمل الاتعاب والاعراق والاسفار عبر مساحات شاسعة من اجل بنيان الكنيسة والنفوس والارواح التى لن يغيب ذكرك عنها ، اكراماً ومجداً للثالوث القدوس .
لانك لم تملأ عمرك برعاية النفوس ، وبالعمار فقط لكنك ملأت اعمالك بالحياة وبالروح . فبقدر ما عمرت من الطوب والحجارة والرخام والمضايف والقلالى والمغاير ، بقدر ما جعلتها حيه بروحك المثقفة بالحق والتسبيح والابديات وفى جميعها اتت تزكيتك فى السماء وعلى الارض ، ودرساً لافتداء العمر والبناء على الصخر " صخر الدهور" .
 
ان عطر سيرتك قد عطر الارجاء وتقلدت عقد الزهور الالهى الذى قلد عنقك بزنابق الجمال المضيئة حول هامتك ، فقد بذلت حياتك وصرت بالاخير ذبيحة وتقدمه طحنت وانصهرت وتخضبت معجونة بمر الالام وعطر البصخة نحو عبور كبير على مذبح الحملان الذين غلبوا العالم بكلمة شهادتهم وبدم الحمل ولم يحبوا حياتهم حتى الموت ، فالمجد لله الهنا الذي اعطانا مثال سيرتك