د. نادر نور الدين محمد
أحد الأسباب المعلنة لبناء السد الإثيوبى، والتى يصرح بها الإثيوبيون فى ندواتهم فى بعض الدول التى يظنون أنهم أعداء لمصر أو يستغلون خلافاتنا المؤقتة معهم، هو أن السد الإثيوبى سيتسبب فى تجفيف بحيرة ناصر، وأن السد العالى سيكون مجرد حائط لا نفع له ولن يولد كهرباء. فنهر صغير مثل النيل الأزرق، بكل مياهه التى لا تزيد على 49 مليار م3 فى السنة، لا يستطيع أبدا أن يقوم بملء بحيرتين كبيرتين، إحداهما فى إثيوبيا والثانية فى مصر، وبالتالى فإن ملء بحيرة دولة المنبع يعنى فراغ بحيرة دولة المصب.

لذلك تعمد إثيوبيا على الإعلان من جانب واحد عن كميات المياه التى ستقوم بتخزينها كل عام طبقا لمدى التقدم فى بناء السد وليس طبقا للاتفاق مع شركائها فى النهر، فعندما وصل حجم البناء فى العام الماضى 72%، وهذا يسمح بتخزين 4.9 مليار م3، قاموا بتخزين هذا الحجم رغم عدم فائدته وأنه سيتبخر خلال العام ولن يتبقى منه شىء للعام القادم، فلا هو يولد كهرباء ولا هو يستطيع مقاومة البخر بالحرارة الشديدة فى بنى شنجول.

وعندما كان مخططا أن يصل حجم الإنجاز فى البناء هذا العام إلى 79% وهذا فيه بعض المبالغات الإثيوبية المعتادة فقرروا أن يخزنوا 13.5 مليار م3 بقرار منفرد أيضا، ومن الممكن أن يعلنوا أنهم سيخزنون فى العام القادم 18 مليار م3. الغرض من كل هذه القرارات المنفردة هو إجبار مصر على السحب المتتالى من بحيرة السد العالى لتعويض ما يتم حجزه فى إثيوبيا، وبهذا التسلسل الخبيث والانفراد بالقرار فى حجم الملء هو أنه عندما يصل الملء فى السد الإثيوبى إلى سعته العظمى بحجم 75 مليار مترمكعب، تكون بحيرة السد العالى قد جفت من المياه وأصبحت لا تولد كهرباء.

.. حيث لن نستقبل بعد ذلك إلا كميات صغيرة على مدار العام بأكمله بدون مياه الفيضان، حيث ستصادر البحيرة الإثيوبية أى مياه فى الفيضان كما سيعمل السد الإثيوبى على استكمال مياه النيل الأزرق لما ينقص من مخزون مياه بحيرة سدها، وتعتمد مصر على ما سيخرج من فتحات التوربينات طبقا لما تولده إثيوبيا من كهرباء، وطبقا لما ستستطيع تسويقه أو نقلة إلى الداخل، وهو أمر قد يستغرق ثلاث سنوات قادمة فى إنشاء محطة الكهرباء وأبراج الضغط العالى المسؤولة عن نقل الكهرباء إلى الداخل والخارج، وقد تستغرق أكثر من ذلك نظرا للتعثر المالى الكبير الذى تعانيه إثيوبيا حاليا، ولأن شبكة نقل الكهرباء تحتاج لنحو 2.5 مليار دولار.

لذلك توقف التقدم فى بناء الحاجز الأوسط الذى سيحجز 13.5 مليار هذا العام إلى 13 مترا فقط، بدلا من المتوقع وصوله إلى ارتفاع 30 مترا، وبذلك لن يحجز سوى ستة مليارات ونصف كحد أقصى هذا العام، بسبب التعثر المالى والفنى، وأيضا ما يصاحبهما من فساد إدارى ومالى واضح أدى إلى انتحار مدير السد واستقالة ديسالين، رئيس الوزراء السابق، بعد انتخابه بعدة أشهر، وتولى أبى أحمد المسؤولية بدون انتخابات، ثم فساد الشركة المسؤولة عن تصنيع قواعد التوربينات والتابعة للجيش الإثيوبى وتحويلهم إلى المحاكمة وإلغاء تصنيعهم لقواعد التوربينات واستيرادها من الخارج، بما يوضح حجم الفساد المستشرى فى بناء السد، بينما لم يشهد بناء السد العالى فى مصر أى شبهة فساد.

مصر تنتبه لهذا الأمر جيدا ولديها تسجيلات لتصريحات المسؤولين الإثيوبيين فى عدة دول، وعلى ذلك فإن المفاوضات القادمة ينبغى أن تركز على هذه المعاندة الإثيوبية وعدم مصارحة الإثيوبيين لشعبهم بتخفيض عدد توربينات السد إلى 13 توربينا بدلا من 16 السابق الإعلان عنها، ولا عن انخفاض كمية الكهرباء المولدة كثيرا عن المعلن للشعب الإثيوبى، ومازالت هاك احتمالات بتخفيضات جديدة فى عدد التوربينات بعد أن تبين أن السد الإثيوبى مبالغ فى حجمه Over Size، وأن حجم تخزين المياه لا يتناسب أبدا مع كميات الكهرباء القليلة المولدة، وأن هذا الأمر كان للسيطرة فقط على مقدرات الأمور فى مصر والسودان فى عدوانية غير مبررة ووضعهما تحت ظروف الضغط المائى، ولكنه فى نفس الوقت أضاف على إثيوبيا أعباء مالية وفنية وإدارية فوق طاقتها وقدرتها على التحمل.

ولذلك فإن المباحثات القادمة ينبغى أن تركز على الاكتفاء بما هو قائم حاليا من السد والوصول بالمياه إلى ما فوق مستوى التوربينات فقط دون مخزون لا لزوم له من المياه، وأن حجم 40 مليار متر مكعب مخزونا فى بحيرة السد يكفى لتوليد هذه الكمية من الكهرباء، بالإضافة إلى أنه سيوفر الوئام والصلح ووقف العداء والكراهية مع مصر والسودان وتحصل إثيوبيا على الكهرباء ولا تحرم مصر والسودان من قدر كبير ومؤثر من المياه، كما تكون نفذت قانون الأمم المتحدة لمياه الأنهار العابرة للحدود، والذى ينص على حتمية حماية الدولة، صاحبة السد الجديد، للسدود السابقة له فى الإنشاء وكل ما يرتبط بكفاءتها فى التخزين وفى توليد الكهرباء، ويكفى لإثيوبيا الضرب بالقوانين الدولية عرض الحائط، ويبدأ ظهورها كدولة تحترم القانون الدولى وتعمل به ولا تدخل فى عداوات مخطط لها مع دولتى المصب والجيرة، لأنه ليس فى صالح إثيوبيا أن تعيش لحظات تحرير الجيوش المصرية والسودانية للمياه، لأن المياه من الأمور الكبرى التى تخاض بسببها الحروب لأنها أمن قومى وحياه واقتصاد وكل شىء.

فهل تستمع إثيوبيا لصوت العقل وتخفض من سعة تخزين سدها إلى 40 مليارا فقط، وألا تفكر فى الإضرار بالسد العالى فى مصر كهدف إثيوبى عدوانى ولا الضرر بسدود السودان؟.. هذا ما نأمله.

أستاذ المياه والأراضى بجامعة القاهرة