الأب رفيق جريش
كثيرون يعتقدون أن الشخص المتدين ليس له الحق أن يعمل فى السياسة، على اعتبار أن السياسة التى فى ذهنهم هى فن المراوغة وعدم الصراحة والإيقاع بالآخر، رغم أن السياسة فى حقيقتها هى «فن الممكن» عن طريق المباحثات والحوار والصداقة بين الشعوب وبين قادتها، هى أيضًا «فن المستحيل» عندما تتأزم الأمور فالسياسة تجد فى الأغلب طرقًا للحل.

اليوم أطرح عليك عزيزى القارئ شخصية علمانية وسياسية بارعة قد لا نسمع عنها كثيرًا وهو روبرت شومان، أحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبى، الذى هو على طريق القداسة، فقد وافق البابا فرنسيس على إصدار مرسوم الاعتراف «بالفضائل البطولية» لروبرت شومان (1886-1963 )، وهى الخطوة الأولى فى عملية طويلة قد تؤدى إلى إسباغ صفة القداسة عليه، وكان لشومان دور مفصلى فى خلق مؤسسات أوروبا الحالية، وقد أثنى العديد من القادة والبابوات على الدور الذى لعبه شومان، الذى كان كاثوليكيًّا مخلصًا، فى كسر حلقة الحروب فى أوروبا.

ولد شومان فى لوكسمبورج، فى 29 يونيو عام 1886. وأصبح مواطنًا فرنسيًّا، واعتقله الجيستابو (الشرطة السرية الرسمية لألمانيا النازية) بعد احتلال القوات النازية فرنسا، من 14 سبتمبر 1940 إلى 12 إبريل 1941، لكنه استطاع الفرار، وبقى مختفيًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

انتخب نائبًا فى الجمعية التأسيسية لفرنسا فى عامى 1945 و1946. وبصفته عضوًا فى البرلمان، تولى مناصب مهمة فى الحكومة الفرنسية، وزير المالية، رئيس الوزراء، وزير الخارجية، وزير العدل؛ ليصبح نقطة مرجعية أخلاقية للبلاد، ويعمل من أجل إنشاء نظام مشترك للنمو اقتصاديًّا واجتماعيًّا.

وإلى جانب الألمانى كونراد أديناور والإيطالى الكيد دى جاسبرى، يعتبر شومان أحد الآباء المؤسسين لأوروبا الموحدة. وقد أدى عملهم إلى توقيع «معاهدة روما» فى 25 مارس 1957، والتى أنشأت المجموعة الاقتصادية الأوروبية (أو السوق الأوروبية المشتركة) عام 1957، ومن ثم «الاتحاد الأوروبى» عام 1993.

ففى عام 1950، اقترح أن يجرى تعدين الفحم والصلب فى أوروبا بشكل متفق عليه بين الدول الأوروبية من أجل تجنب النزاعات المستقبلية. وقد أصبحت الخطة تعرف باسم «إعلان شومان»، ويجرى الاحتفال بيوم إعلانها، وهو 9 مایو، تحت اسم «يوم أوروبا». وفى عام 1958 انتخب بالتزكية كأول رئيس للبرلمان الأوروبى الجديد، وفى العام التالى أصيب بنوع حاد من التصلب الدماغى. وحين تنحى من منصبه بسبب سوء أحواله الصحية منح لقب «أبى أوروبا». وعين رئيسًا فخريًّا للجمعية البرلمانية الأوروبية. وقد توفى روبرت شومان فى فرنسا بتاريخ 4 سبتمبر 1963، عن عمر يناهز 77 عاما.

كان شومان مؤمنًا بأن السياسة هى رسالة وخدمة، وعمل طاعة لإرادة الله. وعاش حياة صلاة بشكل يومى. أثنى على كتابات البابا بيوس الثانى عشر الذى أدان كلًّا من الفاشية والشيوعية. وكان خبيرًا فى فلسفة العصور الوسطى خاصة كتابات القديس توما الأكوينى. وقال البابا فرنسيس العام الماضى، فى الذكرى السبعين لإعلان شومان، إن ذلك الإعلان أدى إلى أن تعيش أوروبا فترة طويلة من الاستقرار والسلام الذى تنعم بمزاياه اليوم.

وهكذا أيها القارئ العزيز نرى أن العلمانيين المؤمنين العاملين فى الحقل الاجتماعى يستطيعون أن يحققوا الحقوق الأساسية للإنسان والبحث عن الخير العام حتى فى السياسة.
نقلا عن المصرى اليوم