سـناء البيـسى

«قالت لى جدتي‮ لا تظن‮ ‬يا حبيبى أنك من أصل فرنسي؛‮ ‬لأن اسمك جوجان فدماؤك الحقيقية من‮ (‬بيرو‮) ‬دماء ملكية‮.. (‬دم‮ ‬الأنكا‮).. ‬وعرفت من جدتى من أين جاءوا بالاسم الغريب؛ فهو ‬تحريف بسيط للغاية لكلمة‮ (‬جوجن‮) ‬بمعنى الجواد الأصيل بلغة الأنكا‮.. ‬وكان لا‮ ‬يسمى جوجن إلا الفتى المرشح للجلوس على العرش‮.. ‬ومن هنا لابد وأن‮ ‬يعرف الجميع أننى لست كأى واحد من الفنانين،‮ ‬فأنا من قبائل الأنكا العريقة ذات الحضارة الممتدة لبطون التاريخ التى عُرفت بالفن والعلم القديم‮!! ‬عُرِفَتْ‮ ‬بالحرية والانطلاق والجسارة والحياة البوهيمية التى‮ ‬أعشقها،‮ ‬فأنا إنسان‮ (ألانكي) ‬خارج عن الصف‮.. ‬مخلوق لا تحده قيود المجتمع المخملى ولا قوانين المعيشة الفرنسية المرفهة»‮.. ومنذ حديث الجدة لحفيدها بول جوجان وليس فى‮ ‬رأسه سوى فكرة السفر إلى أمريكا اللاتينية‮.. ‬إلى ‬أصله وجذوره‮.. ‬وبالفعل أمضى إجازته هناك فى بيرو، لكنه لم‮ ‬يجد أثرًا ‬لأجداده المزعومين فعاد على‮ ‬ظهر السفينة‮ «‬لوزيتانو‮» ‬واجمًا‮ ‬محبطًا.. ‬لم‮ ‬يقابل فى بيرو تلك الحياة البوهيمية التى استشعر من كـلام جدته أنه هنا فى باريس مجرد نيزك شارد من كوكبها النابض بالحياة والثورة هناك فى أمريكا اللاتينية‮.. ‬لم‮ ‬يجد ما توقع‮.. ‬وجد حضارة القرن التاسع عشر الممسوخة المنقولة من أوروبا وأمريكا الشمالية وإسبانيا‮!!.. ‬وبين مظاهر معاناته على ظهر السفينة التقى بمن‮ ‬يخفف عنه حالة الإحباط الذى يعانيه بعد فشل رحلته‮.. ‬التقى بشاب فى مثل عمره العشرين لكنه أكثر مرحًا‮ ‬وإقبالا على الحياة‮.. ‬وعندما وجهه الوجهة الأخرى انقاد له كمن ضلّ‮ ‬ووجد طريقه الصحيح‮.. ‬جزر الجنوب‮.. ‬قال له الفتى إن المعيشة فيها بلا قيود ولا حدود وجميع لذّات الحياة ملك‮ ‬يمينك وفى متناول‮ ‬يديك وما عليك سوى أن تمد‮ ‬يدك لتنال ما تريد دون رقيب أو حسيب‮..

 
‬ويسأل جوجان‮: «‬وماذا عن النساء؟‮!!» ‬جاءته الإجابة على طبق من فضّة وذهب‮: «‬بالآلاف ومن كل الألوان والأعمار فقط تشاور للواحدة فتأتى إليك مهرولة‮».. ‬واشترط جوجان للذهاب أن‮ ‬يصحبه الفتى إلى جزر الجنوب فذهبا معًا وهناك وجد ضالته،‮ ‬أو بالأحرى تلك الحياة البدائية التى طالما تطلع إليها‮.. ‬وما إن عاد من رحلته حتى قدم استقالته من عمله فى الجمارك لينطلق فى عالم الفن‮.. ‬شراء اللوحات وبيعها‮.. ‬ولكى يشترى اللوحات لعرضها للبيع كسمسار فن كان عليه الذهاب إلى المعارض المقامة فى مقاهى المونبارناس والبيجال والحى اللاتينى،‮ ‬وكان عليه الاحتكاك بالنخبة العظيمة من فنانى القرن التاسع عشر أمثال‮ «‬ديجا‮» ‬و«مانيه‮» ‬و«مونيه‮» ‬و«رينوار‮» ‬الذين‮ ‬يتحلقون حول الكاتب‮ «‬إميل زولا‮» ‬الذى أخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن فن مدرستهم الحديثة‮..
وينضم جوجان إلى المنصتين لأحاديث زولا مثل‮ «‬إنهم‮ ‬يزعمون أن مؤلفاتى لا أخلاقية،‮ ‬كما‮ ‬يتهمون لوحاتكم بأنها هذيان مجانين،‮ ‬ولهذا لابد لكم من الدفاع عن موقفنا معًا‮.. ‬قولوا لهم إن زولا‮ ‬يقول لكم‮: ‬بل أنتم الذين لا حياء عندكم ولا فى رؤوسكم عقول ناضجة‮.. ‬إن الفن المعاصر‮ ‬يعكس الحياة‮.. ‬يمثل الحياة بكل جوانبها وألوانها ومنحنياتها وأهدافها ومعاناتها وسلبياتها وإيجابياتها‮.. ‬الفن الذى نقدمه‮ ‬يمثل الخير والشر،‮ ‬والفضيلة والرذيلة،‮ ‬وإذا ما وصفوا هذا الفن بالقُبح فأهـلا‮ ‬بالتسمية المبتكرة ولنطلق جميعًا ‬عليها اسم‮ (‬مدرسة القُبح‮).. ‬إننا نعتقد أن الفن‮ ‬يحاكى الطبيعة مهما تبدت لنا بشعة‮.. ‬ونحن نتفاعل مع الطبيعة ونتناغم معها كيفما وجدت بلا تدخل منا‮.. ‬ونرى أن حقيقة الطبيعة فى أصالتها الصريحة التى لا‮ ‬يدانيها فى جمالها شيء،‮ ‬فجمالها هنا‮ ‬يفوق الكذب المنمّق‮.. ‬نحن نؤمن بأن الألم الفنى جميل لأنه‮ ‬يخاطب أعماق الأحاسيس البشرية،‮ ‬ولما كانت رسالة الفنان هى محاكاة الطبيعة فلنكن إذا من‮ ‬يعكس تلك الحقيقة برونقها وقُبحها وبكل ما تحتويه وتنطوى عليه‮»..‬
 
و‮.. ‬يتمنى جوجان أن‮ ‬ينتقل من مقعد المشاهد إلى مقعد الفنانين الذين‮ ‬يعكسون الطبيعة بحلوها ومرها فيذهب لرسم لوحته الأولى التى يعلق عليها إميل زولا بقوله‮: «‬لديك موهبة فريدة‮ ‬يا بول،‮ ‬وأنت أفضل من‮ ‬يمثل المدرسة الوحشية البدائية الإنسانية‮».. ‬ومنذ تلك اللحظة كتب التاريخ اسم جوجان‮.. ‬وفجأة‮ يقرر هجر كل شىء‮.. ‬العمل والبيت وابنته‮ «‬إيلين‮» ‬وولده‮ «‬إميل‮».. ‬باع القضية ومضى إلى أرض الوحشية إلى جزر الجنوب ليُكمل مشواره مع التشرد الذى عاشه عند المنعطف الفاصل بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين‮..‬
ما الذى دفعه لتلك الحياة؟‮!.. ‬أسباب وأسباب‮.. ‬منها: أولا أنه ولد أصـلا ‬تحت شعار التشرد والتهجين،‮ ‬من أب فرنسى وأم من البيرو تحمل فى عروقها دماء هندية حمراء‮.. ‬وثانياً‮ ‬تلك المشاكل العائلية التى جابهته مع زوجته الهولندية وجعلته دائم البحث عن مهرب‮.. ‬ثالثًا: تلك النزعة التشكيلية التى جعلته دائم البحث عن كل ما هو‮ ‬غريب وبدائى ومضيء‮.. ‬إنه الذى كتب فى بداياته عن سبب إقامته فى إقليم بريتانى الفرنسى،‮ ‬إن ما‮ ‬يشده إلى المكان هو البدائية والحياة الوحشية الضارية‮ «‬حين‮ ‬يرن وقع خطى صندلى على تلك الأرضية الجراتينية المضيئة أصغى إلى ذلك الصوت الكتوم الجاف والقوى فى دائرة النور الذى أبحث عنه فى رسومي‮».. «‬العميق والجاف والقوى فى دوائر النور‮».. ‬ذلك هو أسلوب بول جوجان الفني‮.. ‬الحياة الضارية والنور الصافى كان من العناصر التى دفعت جوجان إلى الترحال الدائم،‮ ‬وكذلك إلى العيش على الهامش إلى درجة أن رحيله فى جزيرة‮ «‬فاتو إيدا‮» ــ ‬إحدى جزر الماركيز‮ ــ ‬يوم التاسع من مايو ‮٣٠٩١‬‮ ‬لم‮ ‬يعلن فى العاصمة الفرنسية إلا بعدها بشهور،‮ ‬ومن اللافت أن الصحف التى تحدثت عن موت جوجان فيما بعد وصفته‮ ‬يومها بالفنان‮ «‬غريب الأطوار‮» ‬وتحدثت عنه وكأنه معاق عقليًا‮!‬
 
وُلد بول جوجان عام 1848 ‬فى باريس التى كانت وقتها تصخب بأحداثها السياسية الخطيرة،‮ ‬وبعد ثلاثة أعوام من ولادته وإثر الانقلاب الذى قام به لويس نابليون،‮ ‬وجدت أسرة جوجان أن الوقت قد حان للرحيل،‮ ‬وهكذا توجهت العائلة إلي‮ «‬ليما» فى البيرو،‮ ‬ومن خلال مذكرات جوجان نعرف أنه حفيد‮ «‬فلورا تريستان‮» ‬الابنة‮ ‬غير الشرعية لأحد أثرياء بيرو‮ «‬دون ماريامو تريستان وموزسكوزو‮» ‬التى اشتهرت بجمالها الفائق وكانت صديقة للكاتبة چورچ صاند،‮ ‬وتزوجت تلك الجدة من أحد عُمال الطباعة على الحجر الذى كان عند ولادة بول‮ ‬يمضى عقوبة السجن لمدة عشرين عامًا لمحاولته قتل زوجته‮ «‬فلورا‮» ‬خنقًا فى ثورة من‮ ‬غيرته عليها‮..

اللوحة التى بيعت ب 300 مليون دولار
‬أما والد جوجان فقد فُصل من عمله كصحفى مناهض للنظام ‬مما جعله‮ ‬يصحب أسرته مغادرًا فرنسا إلى وطنه الأصلي‮ «‬بيرو‮»، ‬لكن لأنه الوارث فى شرايينه الدماء الساخنة فقد قام بمشاجرة مع قبطان السفينة لتنفجر شرايين المخ، ويقضى عليه على متنها فيُدفن وسط الرحلة فى ميناء جنوب شيلي‮.. ‬ويظل جوجان محتفظاً‮ ‬فى ذاكرته بأحداث طفولته فى ‮«‬ليما» وحياته هناك فى كنف العم الثرى المختلطة بالضوضاء والألوان والعطور والمهرجانات‮.. ‬أمضى بول جوجان حتى السابعة من عمره فى البلد الأمريكى اللاتينى المشرق،‮ ‬أى أنه عاش فى بلد الأصول والجذور وشمس النهار أربع سنوات‮.. ‬بعدها عادت العائلة إلى فرنسا ليتلقى دراساته الابتدائية والثانوية ثم التحق بالبحرية التجارية،‮ ‬وعند عودته من إحدى رحلاته ــ التى يقطع فيها المحيط ذهابًا وإيابًا،‮ ‬حيث البحار الدافئة التى تطفو فوقها الجزر كقطع من الفردوس المفقود ــ فوجئ بوفاة الأم وبكومة من الأنقاض مكان البيت الذى دمرته قنابل الألمان،‮ ‬فوجد لزامًا ‬عليه مع الفقر البحث عن عمل،‮ ‬ومن هنا بدأت رحلة الحياة الشاقة لالتقاط لقمة العيش فى نفس الوقت الذى اكتشف فيه أنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يرسم‮.. ‬منذ تلك الفترة صارت حياة جوجان ثُلاثية الاتجاهات‮.. ‬تجاه نحو الرسم،‮ ‬وتجاه نحو البحث عن عمل،‮ ‬وتجاه نحو الترحال الدائم كأنه أحد أفراد البدو الرحل‮.. ‬فى البداية اكتفى بالتنقل بين المدن والمناطق الفرنسية،‮ ‬مرة مع زميله كاميل بيزارو،‮ ‬ومرة في‮ «‬آرل‮» ‬مع فان جوخ الذى سرعان ما اختلف معه،‮ ‬أما ترحاله الأول فكان حين أقام فى كوبنهاجن بالدنمارك بعد أن تزوج من دنماركية‮.. ‬غير أن الفشل كان طوال ذلك كله من نصيبه‮: ‬الفشل فى الحياة العائلية،‮ ‬والفشل الفني؛‮ ‬حيث لم تنل لوحاته الأولى التى تأثر فيها بالمناخ الانطباعى السائد نجاحًا ولا ذيوعًا،‮ ‬والفشل فى الحصول على أى استقرار‮..‬
 
حكاية فشله العائلى كانت بدايتها السعيدة لا تنبئ بها،‮ فقد تزوَّج فى عام ‮٣٧٨١ ‬بحبيبته الدنماركية الحسناء‮ «صوفيا» ‬ومضت السنوات الأولى فى سعادة‮ ‬يحسده عليها أهل الطبقة الارستقراطية التى يعيشون بينها،‮ ‬فقد تمكن من تحقيق ثروة طائلة من خلال أعمال متعددة من بينها البورصة واستطاع فى عام واحد الحصول على مكاسب بلغت أربعين ألف فرنك،‮ ‬وبدأ جوجان‮ ‬يمارس الرسم فى نزهة الآحاد التقليدية متطلعًا إلى اللوحات المعروضة بصالات العرض مقبلا‮ ‬على شرائها كلما توفر لديه المال،‮ ‬واستمر‮ ‬يرسم أربع سنوات إلى أن تحوَّل من التجارة إلى الفن بعد أن قبلت لجنة تحكيم صالونات باريس عرض إحدى لوحاته فى 6781م.. ‬وبدأ جوجان‮ ‬يطوف ضواحى باريس ليرسم بدلا من الطواف برجال المال،‮ ‬واستأجر مرسمًا‮ ‬بشارع‮ «‬كارسل‮» ‬واختلط بجماعة الفن التأثيري‮.. ‬ولم تكد تنتهى سنة 1883م ‬حتى ساءت علاقته بزوجته،‮ ‬وظن أنه قادر على أن‮ ‬يعيش حياة أفضل مع فنه فى مرسمه،‮ ‬وعندما زادت الأحوال المالية سوءًا اضطر إلى الرحيل مع زوجته وأطفاله الثلاثة إلى الدنمارك ليعيش مع أسرتها،‮ ‬ولم‮ ‬يكد‮ ‬يمضى اليوم الأول على افتتاح معرضه هناك حتى أمرت السلطات الدنماركية بغلق المعرض خشية على أذواق الناس‮.. ‬وبدأت كراهية جوجان للدنمارك وأهلها فى الظهور علانية مما أثار عليه حفيظة كل من‮ ‬يتعامل معه هناك،‮ ‬ومن تصرفاته المنفرة دخوله عاريًا ‬فى الصالون فى حفل تُقيمه زوجته لصديقاتها،‮ ‬ورغم نظراتهن المستاءة جلس فى الصدارة محاولا ‬فتح الأحاديث معهن‮.. ‬و‮..‬لم‮ ‬يطق صبرًا على البقاء وسط أجواء الكراهية المتبادلة؛ فعاد إلى باريس مع ابنه الصغير‮ «‬كلوفيس‮» ‬ليكتب إلى زوجته لينبئها بأنه سيبعث إليها بالمال لتلحق به عندما‮ ‬يبيع شيئًا من لوحاته‮.. ‬وظن أن الأمر لن‮ ‬يطول أكثر من أشهر قليلة،‮ ‬لكن الوقت مضى وبدأ‮ ‬يواجه آلام الفقر فبعث إليها قائلا: «‬لا تقلقى على كلوفيس،‮ ‬فالأطفال فى مثل سنه لا‮ ‬يدركون معنى الحرمان كما نفهمه،‮ ‬فهُم‮ ‬يعيشون ويقتاتون على الحب والعطف مهما يكن نوع الطعام الذى يملأ بطونهم‮».. ‬وفى رسالة أخرى كتب‮: «‬استلمت جوارب كلوفيس وهو سعيد بأن‮ ‬يجد شيئا‮ ‬يضع فيه أقدامه العارية‮.. ‬إننا ننام على ألواح من الخشب ونتدثر بما تبقى لدينا من ملابس قديمة،‮ ‬وليس‮ ‬غريبًا أن‮ ‬يكون التوازن فى حياتى ممثلا فى الكفاح مع النهار والأرق فى الليل‮»‬،‮ ‬واضطر جوجان بعد أن ضاقت به السبل أن‮ ‬يعمل فى المساء فى لصق الإعلانات على الجدران بأجر عشرين فرنكًا فى اليوم،‮ ‬ورغم هذا العسر استطاع أن‮ ‬يظهر من نُبل صفاته كفارس ما‮ ‬يشهد به أشد الناس استنكارًا ‬لفنه‮.. ‬و‮..‬أخيرًا ‬عادت الزوجة لتأخذ الابن الذى شرده والده معه تأخذه معها إلى كوبنهاجن‮.. ‬و‮..‬وهناك فى جزر تاهيتى تصله رسالة من الزوجة التى عانت من زواجها بفنان‮ ‬غير عادى تقول‮: «‬بول‮.. ‬لقد ماتت ابنتنا (إيلين) بعد مرض لم‮ ‬يمهلها‮.. ‬وابنك (إميل) فرّ‮ ‬إلى الجزائر‮.. ‬و(كلوفيس)‮ ‬يمضى وقته خارج المدينة‮.. ‬إننى أعيش وحيدة‮.. ‬أرجوك لا تدعنى للفاقة والمرض‮».. ‬ورغم نيران أعماقه فقد صاح رافضًا‮: «‬لا‮.. ‬لن أعود إلى سجن المدينة مرة أخري‮.. ‬لن أبيع حريتى بعد أن حصلت عليها‮!!».. ‬وهو فى ذلك‮ ‬يسير على منهج أستاذه إميل زولا الذى قال أمامه‮ ‬يومًا‮: «‬يحصل الإنسان على إنسانيته الحقة عن طريق الآلام‮»..‬
 
ويفشل جوجان فى زيارته لمدينة‮ «‬آرل‮» ‬للإقامة مع الفنان فان جوخ‮.. ‬يفشل فى العثور على الشمس والضوء واللون والدفء والنور المطلق فكل ما شاهده في‮ «‬آرل‮»: «‬صغير وقليل وفقير‮.. ‬الطبيعة والناس‮» ‬على عكس جوخ الذى ظل‮ ‬يراسل جوجان ويلح فى دعوته ويوسط الأصدقاء ويهوّن عليه مصاعب الرحلة،‮ ‬وكان جوجان من عشاق الألوان البراقة الصارخة على درب المدرسة التأثيرية فى الفن‮.. ‬ومن أجل أن‮ ‬يحوز المضيف على إعجاب الضيف صاحب المزاج الخاص هرع‮ ‬يطلى بيته الصغير باللون الأصفر المضئ،‮ ‬وباشر بنفسه زراعة الزهور الملونة من حوله،‮ ‬ولم‮ ‬يكتف بخارج البيت بل امتدت الألوان إلى الداخل أيضًا ليُطلى الجدران بالأزرق والأحمر والأخضر والبرتقالى،‮ ‬وعندما اكتملت سيمفونية الألوان سارع‮ ‬يكتب لجوجان‮: «‬كل ما سوف تقع عليه عيناك حتى سريرك أصبح فى لون الزبدة الطازجة‮».. ‬وفجأة وبلا مؤشر بعد أن زهد جوخ فى قدوم جوجان‮.. ‬أقبل جوجان‮.. ‬يصحبه الصخب والحيوية الدافقة،‮ ‬وكان أول سؤال من صاحب البيت‮: «‬لابد وأن الجو هنا سيجعلك ترسم لوحة رائعة على الفور؟‮»،‮ ‬فأجابه «بول» بفتور ساخر‮: «‬لست بآلة‮ ‬يا من تتخذ الفن حياتك،‮ ‬حتى تظننى أضع حقيبتى لأتناول الفرشاة لأترجم من أجلك أشعة شمسك فى التو كمن‮ ‬يغسل أطباق الحوض المتبقية من وجبة الإفطار‮».. ‬وفى محاولة لإخفاء إحباطه دعاه جوخ للخروج معه ليرى أجواء الريف فى البلدة الرائعة،‮ ‬وعندما عادا عاد لسؤاله‮: «‬كيف رأيت الناس هنا‮ ‬يا بول؟‮».. ‬فأجابه المتمرد دومًا‮: «‬للأسف لم‮ ‬يوحوا إليّ‮ ‬بشيء جديد‮.. ‬جميع الوجوه فى كل مكان متشابهة‮»..‬
 
ويعيب جوجان على ڤان جوخ اللون الأصفر الفاقع على سطح لوحاته،‮ ‬وروتينية رسمه للزهور ويسأله‮: ‬
 
‬ماذا ترسم فى الطبيعة‮ ‬يا جوخ المسكين؟
 
‮- ‬أرسم‮ ‬يا بول المحترم الحركة‮.. ‬أرسم تدفق الحياة‮.‬
‬وماذا من واجبى أن أفهم من ذلك؟‮!‬
‮- ‬عندما أقوم برسم الشمس أجعل العين تشعر بها تغلى فى سرعة مهولة ليسطع الضوء وتموج الحرارة فى قوة خارقة‮.‬
 
‬قلت لك إن الفن لا تسجنه النظريات‮..‬
‮- ‬ألا ترى الحقول التى تدفع بسيقان القمح إلى السماء،‮ ‬الجدول الذى تتقلب فيه دفقات الماء،‮ ‬وعناقيد العنب،‮ ‬وآثار الذكريات على ملامح العجوز‮.. ‬كلها‮ ‬يا بول نفس الشيء الواحد،‮ ‬وحدة الحياة‮.. ‬وحدة اللحن الخالد الذى يرقص على تجاوبه كل شيء‮.. ‬البشر والجدول والحقول والقمح والشمس‮.. ‬أنت عندما تحس بذلك اللحن الكونى الذى يتحرك فيه كل شيء على الأرض سوف تفهم الحياة‮.. ‬سوف تعى وجود اللـه‮.‬
 
‬أرى أنك قد صعّدت نفسك، والمجال هنا لا‮ ‬يتسع،‮ ‬والمهم أننى الآن فى حاجة إلى الموديل الأنثي‮.‬
 
ولم تهدأ ثائرة فانسنت جوخ الذى بادر بتحذير جوجان الاقتراب من حبيبته الصغيرة‮ «‬راشيل‮» ‬التى أخذت فى مداعبته داخل الحانة فقرصته من أذنه بدلال الأنثى:‬
 
‮- «‬ألا تريد أن تعطينى أذنك الصغيرة هذه برهاناً‮ ‬لحبك‮».. ‬وبعد أن طبعت قبلتها على الأذن تصاعدت الدماء الفائرة ليقول لها جوخ‮:‬ «‬عندما أخلعها عن رأسى يا حبيبتى سوف أقدمها لك هدية متواضعة‮».‬
 
جوجان عاش بالطول والعرض والفقر
ويأتى الصيف من بعد ربيع الألوان،‮ والعراك مازال قائمًا على قدم وساق بين جوجان وجوخ،‮ ‬ورغم العراك‮ ‬يظل العبقريان كل منهما‮ ‬يمارس فنه،‮ ‬وتشح النقود ولا‮ ‬يأكـلان سوى الخبز الجاف مع الدخان والشراب‮.. ‬ويقف جوخ وسط الحقول تحت الشمس مستغرقًا فى إبداعه لا‮ ‬يلتفت لجوجان الذى أخذ‮ ‬يرسمه،‮ ‬ولما أتم اللوحة نظر جوخ إليها قائلا‮: «‬إنك رسمتنى كشخص مجنون‮».. ‬وفى المساء‮ ‬يذهبان إلى الحانة،‮ ‬وفجأة‮ ‬يقذف جوخ صديقه بالكأس‮ ‬يريد قتله،‮ ‬لكن جوجان تفاداه وحمله متهالكاً؛‮ ‬حيث نام لتوّه‮.. ‬ولكن‮ ‬فى جوف الليل‮ ‬يستيقظ جوجان ليجد عين جوخ تحملقان فيه وسط الظلام بلمعة مجنونة فسأله‮: «‬ماذا بك‮ ‬يا متهور؟‮».. ‬فما كان من جوخ إلا مغادرة الغرفة،‮ ‬وفى الليلة التالية حدث نفس الشيء،‮ ‬لكن جوجان بدأ‮ ‬يشعر بالقلق البالغ،‮ ‬وفى المساء تعاركا على العشاء؛ لأن جوخ سكب بعض الألوان فى طبق شوربة جوجان‮.. ‬ويظل جوخ أيامًا لا‮ ‬يتكلم ولا‮ ‬يمسك بفرشاته،‮ ‬وما إن‮ ‬يغادر جوجان البيت حتى أحس من خلفه بخطى قصيرة متسرعة فالتفت ليجد جوخ مقبلا‮ ‬من خلفه مشرعًا‮ ‬فى يده موس حادة فهتف‮ ‬يؤنبه،‮ ‬فوقف جوخ على بُعد خطوتين مُتسمراً،‮ ‬ثم طأطأ رأسه وعاد مهرولا ‬للبيت ليمضى جوجان فى طريقه‮.. ‬وبعد دقائق لا‮ ‬غير وجدت راشيل جوخ قادمًا‮ ‬إليها معصوب الرأس بضمادات ملوثة بالدماء قائلا ‬لها‮: «‬جئتك بتذكار‮.. ‬هدية‮ ‬غالية حافظى عليها جيدًا».. ‬وناولها لفّة صغيرة فرحت بها،‮ ‬لكنها عندما فتحتها سقطت مغميًا عليها،‮ ‬فقد كانت تضم أذن ڤان جوخ تقطر منها الدماء‮.‬
 
وعاد جوجان للبيت فرأى جمهرة من الناس فدخل مسرعًا ‬ليجد جوخ مسجى فوق الفراش،‮ ‬وعندما اقترب منه وأمسك بنبضه أدرك أن الحياة مازالت تنبض فى جسده،‮ ‬فترك‮ ‬يد الفاقد وعيه ليهمس فى أُذن رجل البوليس الذى أتى للتحقيق‮: «‬رجائى يا سيدى أن توقظه بهدوء وحذر،‮ ‬ولتكن رحيمًا ‬به،‮ ‬وإذا سألك عنى قل إنى عدت إلى باريس،‮ ‬فأنا أعلم تماما أنه قد وجب الرحيل،‮ ‬فرؤيتى أمامه مرة أخرى ستقتله حتمًا فقد أصبحت بالنسبة إليه‮ ‬غريمًا‮ ‬لا‮ ‬يُغفر له ذنب‮»!.. ‬يرحل جوجان بعدما أدرك أن التأثير الأكبر على فنه كان من جانب ڤان جوخ،‮ ‬ومع اكتشافه للقرابة اللونية بين لوحاتيهما وجد أيضًا ‬أن هناك نبعًا‮ ‬آخر لإلهامه قادمًا من الرسوم الفرعونية القديمة التى كانت قد بدأت تنتشر فى أوروبا‮.. ‬ومن هنا كانت خلطة الفن الجديدة فى لوحاته تجمع بين تلوين الانطباعيين،‮ ‬وتشكيل الفراعنة،‮ ‬وحرية ڤان جوخ،‮ ‬والشاعرية الكافية فى عمق أعماقه هو نفسه،‮ ‬واكتشف أن تلك الخلطة رفيعة المستوى ما هي‮ إلا ‬الأسلوب الرمزي‮.. ‬وحين اكتشف ذلك قرر أن‮ ‬يُحدث تبديلا ‬أساسيًا‮ ‬فى حياته،‮ ‬وأن‮ ‬يهاجر هذه المرة إلى تاهيتي؛‮ ‬حيث بقى عامين حقق خلالهما أشهر لوحاته‮.‬
 
ركب البحر تاركًا الكل وراءه،‮ ‬وراح‮ ‬يبحث فى البحار الدافئة عن جنة عدن‮.. ‬عن الحياة الدافئة البِكر التى لم تلوثها المدينة‮.. ‬ذهب إلى الحلم فى جزيرة نائية،‮ ‬حيث‮ ‬يعيش الناس وسط الأحراش عيشة البداوة والفطرة النقية‮.. ‬وجد ضالته في‮ «‬تاهيتي‮»؛ ‬حيث نساء الأحلام وسط الطبيعة البِكر‮.. ‬نساء ساحرات بلون الذهب‮ ‬يتحدثن معه بكل لغات القبلات والسعادة والألم،‮ ‬وهناك رَسَمَ أجمل لوحاته التى لم تكن فقط تصويرًا ‬لنخيل جوز الهند ونساء الجزيرة،‮ ‬ولكنها أعظم محاولة فى تاريخ الفن التشكيلى لتجديد الرسم بترك مساحات كبيرة تتنفس بالألوان الدافئة‮..
 
‬ويكتب جوجان مذكراته وسط ديكور‮ ‬يليق بأحلامه‮: «‬كل شىء فى هذه الطبيعة كان‮ ‬يثير دهشتى وانبهارى،‮ ‬وعند مجيئى من أوروبا لم أكن قد توصلت بعد إلى اللون المطلوب،‮ ‬مع أنه لم‮ ‬يكن هناك أسهل من أن أضع فوق سطح اللوحة الأحمر والأزرق‮».. ‬أما عن مقابلته مع زوجته التاهيتية الأولى فقد سجلها فى مذكراته عندما سألته إحدى سيدات الجزيرة بقولها‮: ‬إلى أين أنت ذاهب؟ فأجابها‮: ‬للبحث عن زوجة فهنا الكثير من الجميلات‮.. ‬فعادت تقول له‮: «‬إذا كنت تريد بالفعل فسأعطيك ابنتي».. ‬ولما تأكد من أن الابنة شابة وجميلة وتتمتع بصحة جيدة قال‮: «‬اذهبى واحضريها‮».. ‬فخرجت المرأة لتعود بعد ربع ساعة تتبعها شابة فارهة الطول،‮ ‬فائقة الجمال وفى يدها لفافة‮.. ‬كان‮ ‬يحلم بالعودة إلى حياة البداوة،‮ ‬ولم‮ ‬يكن‮ ‬يتصور قط ‬مشهد الزواج بهذه البساطة وبتلك التلقائية الطبيعية‮.. ‬وكتب‮ ‬يقول‮: «‬عدت إلى فنى والسعادة تلى السعادة فى كل‮ ‬يوم مع شروق الشمس، الذى يأتينى بالضوء البهيج الذى يملأ مسكنى ويفيض على وجه‮ (‬تيهورا مانا‮)‬؛‮ ‬فنذهب إلى البحيرة المجاورة، كأننا فى طريقنا إلى الفردوس لنغطس فى الماء المنعش الذى يجدد الخلايا‮».. ‬ولم‮ ‬يكتف جوجان بعدما عثر على مفاتيح السعادة في‮ ١٩٨١م ‬على بيته فى تاهيتى بل‮ ‬غاص بعيدًا على مسافة ‮٥٤ ‬كيلومترا هناك فى جزر الماركيز؛ ‬حيث وجد كوخًا ‬استأجره واستقر به فى عالم الخُلد الذى وصفه بقلمه‮: «‬البحر من ناحية‮.. ‬ومن الناحية الأخرى شجرة المانجو المرتكزة على الجبل،‮ ‬وكوخ آخر‮ ‬يجاور الكوخ الذى أسكنه،‮ ‬وعلى مسافة من هنا قارب‮ ‬يرسو على الشاطئ،‮ ‬وبينما شجرة نخيل جوزالهند المريضة تبدو مثل ببغاء كبير‮ ‬يرخى ذيله الذهبى ويقبض بين مخالبه عرجون الجوز،‮ ‬كان‮ ‬يمكننى أثناء استرخائى تصور الفضاء الذى يعلو رأسى هو القبة السماوية اللانهائية،‮ ‬ما من سجن‮ ‬يخنقها‮.. ‬كوخى يسكن الفضاء وأنا مخلوق فضائى لا شيء من حولى سوى الحرية‮».. ‬ووسط تلك الأجواء شَعَرَ جوجان كم كان على حق أن‮ ‬يستمع إلى صوته الداخلى وأحاسيسه التى كانت دومًا ‬تحثه منذ الطفولة على السفر‮.. ‬على الهروب‮.. ‬على ترك الجدران والأبواب والأسقف والزيف‮.. ‬تحرضه على الهروب‮: «‬كنت دائمًا شغوفًا ‬بهذا الهروب لدرجة الجنون،‮ ‬ومنذ التاسعة وأنا فى مدينة (أورليان) الفرنسية راودتنى فكرة الفرار فى الغابة مع منديل مليء بالخبز مُثبت على طرف عصا أحملها فوق كتفي‮».. ‬لقد استعاد إنسان المدينة جذوره الطبيعية وأصبح جسده جزءا من نتاج الطبيعة البِكر كأنه شجرة تنمو إلى الأعالي‮.. «‬كل‮ ‬يوم أجمل مما سبق‮.. ‬جيرانى لا‮ ‬يشعرون نحوى بغربة؛ فقد أصبحت واحدًا‮ ‬منهم‮.. ‬قدماى العاريتان بملامستهما اليومية لحبات الزلط اعتادتا ملمس الأرض،‮ ‬وجسدى شبه العارى لم‮ ‬يعد‮ ‬يخشى الشمس‮.. ‬المدينة تدريجيًا تنحسر من داخلى،‮ ‬وغاب التعقيد عن أفكارى والحقد عن مشاعرى،‮ ‬وبدأت أتصرف بحرية وطبيعية مع‮ ‬يقينى بأن الشمس تشرق من أجلى كل صباح مثلما تشرق للعالم أجمع بنفس الصفاء‮.. ‬أصبحت أخيرًا ‬هادئًا‮ ‬ومحبًا‮ ‬بل ودودًا‮»..‬
 
لقد دخلت‮ «‬تيهورا آمانا‮» ‬حياة جوجان لتبدله‮.. « ‬امرأة فاتنة ذكية تفهم كل شيء‮.. ‬وتفهمني‮.. ‬قليلة الكـلام‮.. ‬حزينة وساخرة‮.. ‬كـلانا‮ ‬يتأمل الآخر عن بُعد وعن قُرب‮.. ‬كان من الصعب النفاذ إلى داخلها،‮ ‬وبسرعة من جانبى هزمت فى هذه المعركة وأصبحت بالنسبة لـتيهورا كتابا مفتوحا تقرؤنى فيه بغاية البساطة‮.. ‬أحببتها واعترفت لها بحُبى،‮ ‬وبدت لى أنها الأخرى تحبنى،‮ ‬لكنها أبدًا ‬لم تعترف ليّ‮ ‬بذلك‮».. ‬أصبحت‮ «‬تيهورا آمانا‮» ‬هى الأنثى فى لوحات‮ «‬الأرض الأمان‮» ‬و«راعيات تاهيتي‮» ‬و«السعادة‮» ‬ومن اللوحات ستين لوحة من بينها لوحته الخالدة‮ «‬روح الموت‮» ‬التى قال عنها‮: «‬اضطررت‮ يومًا للذهاب إلى تاهيتى وعدت مع المساء فى منتصف الليل لأجد الكوخ فى ظلام دامس،‮ ‬فانتابنى الشك متوجسًا من شر قد أصاب حبيبتى،‮ ‬وعندما أشعلت عود الثقاب رأيت جسدها ساكنًا وعيناها متسعتان من شدة الخوف،‮ ‬ولم أرها من قبل أكثر فتنة وجمالا ‬من هذا الشكل‮»؛ ‬ثم قالت بصوت مرتجف‮: «‬إياك أن تتركنى مرة أخرى فى الظلام‮»‬،‮ ‬وما أن تبدَّد خوفها وعادت إليها ثقتها بنفسها حتى بادرتنى بسؤالها‮: «‬ماذا كنت تفعل فى المدينة؟ إيّاك أن تكون قد ذهبت للرقص واللهو‮» ‬ولما لم تكن لدى رغبة فى الشجار مرت الليلة دافئة كغيرها من الليالى،‮ ‬لكنى فى الصباح أسرعت لأرسم اسكتشات للوحة‮ «‬روح الموتي‮».‬
 
فى تلك المرحلة اتسمت أعمال بول جوجان الفنان بالروعة والإبداع،‮ ‬ولكن جوجان الإنسان لم‮ ‬يكن على مستوى هذا الإبداع فقد كان مريضا،‮ ‬ويصاب بنزيف حاد،‮ ‬فترحله السلطات إلى فرنسا،‮ ‬وهناك‮ ‬يبيع ما أنجزه من لوحات بأبخس الأثمان وذلك لأن «سيزان» كان وحده الفنان المثالى لتلك الفترة فى فرنسا،‮ ‬ورغم ذلك‮ ‬يقوم الفنان‮ «‬ديجا‮» ‬بشراء واحدة من لوحات جوجان إعجابًا ومساعدة‮.. ‬ومن المرات النادرة التى حالفه الحظ فيها ــ عن طريق آخر‮ ‬غير لوحاته ــ كان عندما توفى عمه ليَرّث ألفى دولار أقام بها مرسمًا ‬فى مونبارناس؛‮ ‬حيث كان‮ ‬يموج كل ليلة بالعديد من أهل الفن والأدب من شتى الطبقات،‮ ‬وانتهى الأمر بالفنان البوهيمى إلى الفقر المرير مرة أخري؛‮ ‬حيث وجد مسكنا متواضعًا بباريس عاش فيه مع ببغاء وقردة وعشيقة جذورها من أب أسود وأم بيضاء‮.. ‬وللمرة الأخيرة‮ ‬يُقرر جوجان الرحيل وهو‮ ‬يعلم أنه لن‮ ‬يعود لفرنسا مرة أخرى‮.
 
وتشهد سنواته الأخيرة أعمالا ‬رائعة لجوجان منها لوحة لرفيقته الجديدة‮ «‬ياهدرا‮» ‬التى أنجبت له طفلة ماتت فور ولادتها‮.. ‬ومع شدة ضيق العيش أخذ‮ ‬يراسل أصدقاءه فى باريس طالبًا ‬منهم المعونة المادية بما‮ ‬يساوي‮ ٠٤ ‬دولارا شهريا ليعيش ويرسم،‮ ‬إلا أن الفكرة لم تلق ترحيبًا‮ ‬يُذكر عند أحد،‮ ‬فطلب إليهم بيع لوحاته المعروضة عندهم بأى ثمن،‮ ‬فكان‮ ‬يصله بين الحين والآخر مبلغ ضئيل ‬من المال،‮ ‬حتى ضاق ذرعًا ‬بالحياة وحاول الانتحار أكثر من مرة،‮ ‬وابتلع ــ وهو فوق قمة جبل‮ ‬يطل على الخليج فى الجزيرة التى يعيش فيها‮ ــ قدرًا من الزرنيخ،‮ ‬ورقد مكانه فى انتظار النهاية لكن الساحر أنقذه فى الوقت المناسب‮.. ‬وبعد أن استرد بعضًا من عافيته كتب‮ ‬يقول‮: «‬لقد رأيت العلامة التى رسمها الساحر بأصابعه فى الهواء وهو‮ ‬يغادر كوخي‮!! ‬لقد ظن أننى لا أفهم معناها،‮ ‬ولهذا لم‮ ‬يهتم بأن‮ ‬يخفيها عني‮!.. ‬رسم الساحر فى الهواء ثلاث دوائر متقاطعة،‮ ‬وهذا معناه أننى سأموت بعد ثلاثة أيام أو ثلاثة أسابيع،‮ ‬أو ثلاثة أشهر،‮ ‬أو ثلاثة أعوام‮.. ‬لا أدرى وإن كنت أرجح أننى سأموت بعد ثلاثة أشهر‮!»، ‬وكما توقع بول هنرى جوجان فقد زاره الموت فجأة بعد ثلاثة أشهر من‮ ‬يوم أن رسم ساحر الجزيرة له العلامة‮.. ‬مات جوجان بعد أن خلف للبشرية ثروة فنية ستظل خالدة على مر الزمان‮.. ‬رحل جوجان بعدما حاول الانتحار أكثر من مرة، ففشل فى الموت كما فشل فى الحياة،‮ ‬فعمل كاتبًا فى عاصمة الجزيرة النائية؛‮ ‬حيث ظل تمرده ملازما له فحكمت عليه السلطة هناك فى عام ‮٣٠٩١ ‬بالسجن والغرامة بسبب شجاره مع رجال الشرطة لسوء معاملتهم للأهالى،‮ ‬وكان قد أسس جريدة معارضة أسماها‮ «‬السعادة‮» ‬وقبل أن‮ ‬يستأنف الحكم اشتد عليه المرض، وبدأت صحته فى التدهور إلى جانب معاناته من آلام الرُكبة،‮ ‬ودخل المستشفى للعلاج وخرج إلى كوخه البسيط الذى أطلق عليه‮ يومًا اسم‮ «‬بيت المتعة‮»‬،‮ ‬وعلى أرض الكوخ لفظ أنفاسه الأخيرة وهو فى الرابعة والخمسين من عمره‮ ‬يوم ‮٩ ‬من مايو ‮٣٠٩١ ‬وسط وحدة مطبقة؛ ليحطم رجال السلطة الباب، وتُباع مخلفاته تعويضًا للغرامة ألف فرنك التى لم‮ ‬يتمكن من دفعها،‮ ‬وفى مزاد علنى بباريس عام ‮٠٥٩١ ‬تم بيع آخر ورقة كتبها الرسام الخالد جوجان قبل وفاته بمبلغ‮ ٠٥ ‬ألف دولار بينما مات جوجان نفسه من شدة الفقر والمرض والجوع،‮ ‬وكانت الورقة تقول مُذيَّلة بتوقيعه‮: «‬إننى الآن شهيد ضائع قهره الفقر والمرض‮».
 
جوجان رائد الفن الرمزى الذى سعى لجعل دنيا الواقع وعالم الخيال توءمان‮ ‬يتواءمان،‮ ‬وأعلن الثورة على التجسيم قائلا ‬بصراحة‮: «‬لا تُقيدوا أنفسكم بالموديل حتى لا تتقيدوا بالمظاهر الحية؛‮ ‬لأن الفن تجريد‮ ‬ينبع من ذهن الفنان وخياله وليس صورا منسوخة‮».. «‬الفنان الواعى لا‮ ‬يقف فوق أكتاف من لا أكتاف لهم،‮ ‬ولا‮ ‬يقف على أكتاف المعوقين والمهرجين الذين‮ ‬يعدون شعر الحمار».. «‬الفنان الحقيقى ليس سحابة من دخان وإنما صاعقة‮.. ‬صاعقة تولد الرعد والبرق وتظل تطوف فوق القمم‮».. وأبدًا لم تكن لوحات جوجان فى حياته كلها لا تلقى رواجًا، فقد باع منذ بداية احترافه للرسم وحتى عام ‮٥٩٨١ ‬قبل رحيله إلى تاهيتى لفندق دروا الفرنسي‮ ٠٣ ‬لوحة بمبلغ‮ ٠٠٨٩ ‬فرنك،‮ ‬وباع لوحته الشهيرة‮ «‬كفاح جاكوب ضد الملاك‮» ‬بـ 009 ‬فرنك،‮ ‬واقتنى الرجل المصرى الثرى الذوّاقة محمد محمود خليل من أعمال جوجان ثلاث لوحات ضمها لمجموعته المعروضة فى متحفه الخاص كان أهمها لوحة‮ «‬الحياة والموت‮» ‬التي‮ كانت دول العالم تتنافس على استعارتها كلما أُقيم معرض حول أعمال جوجان،‮ وفى حياة محمود خليل بلغت قيمة هذا العمل الفنى الخالد ‮٥٨ ‬مليون دولار نفس القيمة التأمينية عليه عندما‮ كان ‬يُعار للخارج لفترة العرض فقط‮!!‬
 
الدُنيـــا حــــر
ــ إليكم درجات الحرارة حاليا: الصغرى سلق.. والعظمى حرق!ــ إذا استمرت سرقة الآثار بنفس المعدل فلن يتبقى فى مصر إلا آثار الحكيم!
ــ البلد دى فيها ناس عايشة كويس، وناس كويس إنها عايشة!
ــ نربى الكـلاب فى الشقة والفراخ فى المنور والأطفال فى الشوارع!!
ــ مع استمرار ظاهرة التدين الشكلى التى تنتشر، أصبح معظم سائقى التاكسى يشغلون القرآن ومع ذلك لا يشغلون العداد!
ــ معظم الهاربين بفلوسنا، كانوا يقيمون لنا موائد الرحمن.. وأتارى احنا اللى عازمينهم.
ــ قواعد راحة الدماغ العشر: حاضر. معرفش. مسمعتش. مشوفتش.. نسيت. معنديش. معييش. معلش. مفهمتش. إنت صح.
ــ للرجال فقط: حتتحبس حتتحبس بعد إقرار الاغتصاب الزوجى، إن كنت مابتعرفش حاتتخلع.. وإن كنت بتعرف حتتحبس.
ــ اوعى تكون زى الطبق الصينى أى خبطة تكسرك.. خليك زى المواطن المصرى حلة بريستو نار تحت وضغط فوق وقاعد يصفر!
ــ أنا مش فاهمة إيه فايدة الودان عند الرجالة.. لا هم بيلبسوا حلق ولا بيسمعوا الكـلام!
ــ الست مالهاش إلا بوزها وعيالها!!
نقلا عن جريدة الاهرام