عاطف بشاي
عشت فترة الطفولة والصبا مع أسرتى فى مدينة «طنطا»، التى كانت تنعم فى الستينيات من القرن الماضى بجمال خلاب يسبغ معالمها.. ميادينها وشوارعها ومبانيها ونواديها ودُور عروضها وحديقتها الغنّاء الفوّاحة بعطر الأحباب وشذى العشاق.. وتزدهر بتحضر وألق وبهاء يشمل كل مناحى الحياة وكل أنشطة الفنون والثقافة والرياضة.. وتخطر فى شوارعها الحسناوات الرشيقات سافرات بإشراقات الحسن.. وتومض ثغورهن بأسرار السحر وأغاريد الزهور.. وتقطر فساتينهن البهية بألوان بهيجة «المينى أو الميكرو»، وإذا استطالت فى الهواء الطلق يهفو إلى ملاطفتها على استحياء.. وربما تشاركه مغازلة ممازحة من شاب تداعب عيناه نحورًا متألقة وصدورًا ناهدة يُطيِّر رسائل تحية للجمال بحرارة وطرافة ونشوة ساحرة.. وغبطة شادية وحرية مطلقة تخلو من تحرش ذميم أو تنمر رخيص أو اشتهاء شائن.

لكن عندما داهمنا قراصنة الشر.. أعداء الحب والمرأة.. دعاة الظلام ومصادرو الحريات.. إرهابيو العصر.. الإخوان.. استحالت المدينة الجميلة إلى أطلال موحشة تغتال البلابل على أغصان الحرية وتوغل فى التوحش والدم.. والتخلف والبشاعة.. وتحولت حديقة الحب والمؤانسة إلى خرابة مظلمة بالقبح والكآبة.. تداعت منارة مشرقة وعتيدة، هى مسرح وسينما البلدية، فصارت مرتعًا لغربان وكلاب ضالة وخفافيش مروعة.. وأوصد قصر الثقافة الوضّاء بالمواهب البازغة أبوابه، وتحولت السافرات المنطلقات بالبشر اليانعات بالدنيا الباهرة والجمال الفصيح إلى وجوه جهمة وعيون منطفئة مذعورة تتوارى داخل أستار سوداء كثيفة.

■ ■ ■

بعد أن انزاحت الغمة وسقطت دولة الكراهية التى أقامها هؤلاء التكفيريون.. وبدأت ثورة (30) يونيو بقيادة الرئيس «السيسى» ترميم الصدع واسترداد الوطن وإعادة البناء والانتصار لهويتنا المصرية.. وعرف «هو» و«هى» وهما فى عمر الزهور أثناء دراستهما الجامعية قال لها: لن يبدو الفرح بعد الآن مستحيلًا كالغول والعنقاء والخِلّ الوفى.. لقد انتزعناه فى الميدان من براثن حزن ربض داخل النفس المكسورة... والأيام الممرورة فى ظل هكسوس الجهامة وخفافيش الكآبة.. يمكننا الآن أن نمد أكفنا للسعادة، فلا تتسرب من بين أصابعنا التى كانت ترتعش بالخوف واليأس.. لن تعود السعادة أمرًا عارضًا أو ظرفًا استثنائيًا أو حكمًا افتراضيًا.

وأكملت هى: ولن تأفل أضواء الحب وشموع الحرية ووهج الحضارة.. كنا نتوجس من اقترابنا من مشارف الدخول فى التوحش والتخلف والقبح والدمامة.. وعصور البربرية والقمع وقانون الغاب، حيث السماء من حجر وعيون القادمين من خارج الزمن من زجاج.. ألسنتهم تنطق بالورع والتقوى والإيمان.. وقلوبهم تضمر الشر والطغيان.

وأردفت فى رقة وعذوبة وهى تحتويه بنظراتها الحالمة:
- سوف تفتح الجميلات النوافذ والستائر، وتفك «مصر» العجوز ضفائرها لتعود حورية شابة سافرة تعانق نسائم الحرية وموج البحر ونغم الحب..

واتفقا على إنشاء دولة الحب، وأعادا سويًا قراءة كتاب «مائة رسالة من الحب» لـ«نزار قبانى»، وردد معها لمحبوبته: إننى أضع جميع ممتلكاتى أمامك.. ولا أفكر فى حسابات الربح والخسارة.. ربما ليس عندى أرصدة فى البنوك.. ولا آبار بترول أتغرغر بها.. وتستحم فيها عشيقاتى.. وليس عندى ثروة «أغا خان» ولا جزيرة فى عرض البحر مثل «أوناسيس»، فأنا لست سوى شاعر.. كل ثروتى موجودة فى دفاترى.. وفى عينيك الجميلتين.

وقررا إعلان الخطبة.. فأعد لها مفاجأة بإعلان تلك الخطبة بطريقة مبتكرة تتناسب وحبهما الرومانسى فى فناء الجامعة بين الزملاء والأصدقاء باحتفال بسيط يتناسب وإمكانياتهما المتواضعة.. وفى غمرة فرحهما بتتويج قصة حبهما احتضنها وقبّل جبهتها.. فوشى به البصّاصون من كتير المطوعين الجدد، مؤكدين للإدارة الجبارة المهيبة، التى تسعى إلى تكريس قيم الأخلاق الحميدة وشيوع الفضيلة فى ربوع الأرض الطيبة، أن واقعة الفحشاء ارتُكبت نهارًا جهارًا على رؤوس الأشهاد، وبسبق الإصرار والترصد، فدنس مرتكباها الحرم الجامعى وأساءا إلى قدسيته وخدشا حياء السجايا العطرة.. فقرر العميد تحويل الطالب والطالبة إلى التحقيق تمهيدًا لفصلهما، ذلك بدلًا من أن يشاركهما فرحتهما ويدعوهما إلى الاحتفال فى مكتبه بقطعتى جاتوه وفنجانين من الشاى.

وانصرفا بعد التحقيق وقد مادت بهما الأرض.. مكسورى النفس.. مجروحى القلب والكرامة.. وتمتم لها بصوت مخنوق وعبارات حبيسة فى المآقى بكلمات نزار: «عندما قلت لك أحبك كنت أعرف أنهم سيتعقبوننى بالرماح المسمومة.. وأن بصماتى ستُوزَّع على كل المخافر.. وأن جائزة كبرى ستُعطى لمَن يحمل لهم رأسى ليُعلق على أبواب المدينة..».

تذكرت تلك الواقعة التى حدثت منذ عدة سنوات بعد قيام ثورة يونيو فى نفس جامعة طنطا، التى شهدت مؤخرًا واقعة «فستان حبيبة»، الطالبة التى استنكر فقهاء فرض الوصاية والإقصاء والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر سفورها وجسارتها فى ارتداء فستان، وهذا يعنى بما لا يدع مجالًا للشك أن التكفيريين رغم زوال دولتهم، فإن عقولهم السلفية المُوصَدة.. وأفكارهم الظلامية المتحجرة مازالت تؤثر فى الشارع، مُحاوِلة إفساد دعائم دولة مدنية مستنيرة تتسق وحضارتنا الضاربة فى عمق التاريخ.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم