هانى لبيب

المشهد المهيب لافتتاح قاعدة 3 يوليو البحرية يعكس بجلاء قوة الجمهورية الثانية، ووقوفها على أرض صلبة. لم تعد تلك الجمهورية مجرد حلم بعيد، وإنما أصبحت حقيقة تتجسد على أرض الواقع، وعهدًا جديدًا ومستقبلًا يحفظ كرامة المواطن وسلامته وأمن مصر داخليًا وخارجيًا.

الجمهورية الثانية أو دولة 30 يونيو -كما أحب أن أطلق عليها- أعادت حق المواطن المصرى فى أن يطمئن تمامًا إلى سيادة منظومة المواطنة، من خلال حياد مؤسسات الدولة كلها، وحرصها على الفصل بين الدولة والنظام السياسى الحاكم رئيسًا وحكومة وأحزابًا، بحيث تقدم الدولة خدماتها لكل المواطنين، على أساس العدالة والمساواة الكاملة بينهم بصرف النظر عن انتمائهم السياسى أو عقيدتهم الدينية، أو غير ذلك من الفروق الطبيعية.

فى سبيل تأسيس الجمهورية الثانية، كان لا بد أن تنطلق عملية جادة لإعادة بناء مصر ومراجعة طريقة حكمها وأسلوب إدارتها والعمل على إصلاح المؤسسات العامة، بعد أن أصابها الترهل والرتابة، كى تستعيد كفاءتها وتقوم بتطوير أجهزتها الإدارية وتحديثها، وتصبح قادرة على القيام بمسئولية النهوض بمصر الحديثة، وهو ما يتطلب إصلاحات جذرية لكنها ضرورية لا مفر منها الآن بعد أن أعلن الشعب المصرى رفضه لسياسة المسكنات، وترحيل المشاكل التى طالما عانى منها على مدار عدة عقود، كما أنه يرفض هيمنة أى فصيل حزبى على أجهزة الدولة ومؤسساتها، فمصر للجميع دون أى إقصاء أو استبعاد أو تهميش أو تمييز.

إن عملية إعادة البناء ومسيرة الإصلاح تتطلب منا الصبر والتحدى، فلم يعد أمامنا بديل بعد أن قرر الشعب المصرى عبر ثورته العظيمة فى 30 يونيو تصميمه على بناء مصر التى تليق به وبتاريخه.

ترتكز آليات التقدم الحضارى على التراكم فى التجارب والخبرات، والتكامل بين المراحل التاريخية المتعاقبة، مما يجعل من تصحيح الأخطاء ضرورة حتمية قد تستلزم إحداث قطيعة مع بعض الممارسات والسلبيات فى تاريخنا المعاصر، ولكن الإيمان بنضال الشعب المصرى للتحرر من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية كان هو الدافع الأساسى لثورتى1919 و1952، وما سبقهما ولحقهما من انتفاضات شعبية أصبحت علامات مضيئة فى تاريخ مصر الحديث، على أن الإيمان بالقيم المدنية والديمقراطية التى بشرت بها هذه الثورات لا يعنى إنكار ما وقعت فيه من أخطاء فى الممارسة والعمل على تصويبها، ومع الإيمان بالنظام الجمهورى الذى رسخته ثورة يوليو 52 ودورها فى قيادة قضايا التحرر الوطنى لشعوب العالم الثالث، فإن ذلك لا يعنى تجاهل أهمية الارتكاز على مبادئ الديمقراطية وتداول السلطة فى بناء نظام سياسى جديد ناجح.

لقد مثلت ثورة 30 يونيو العظيمة الطريق لتحقيق التقدم والتنمية والرخاء، وقد تبلورت طموحات الشعب المصرى وتطلعاته العادلة بما يجعل من اللازم تحويل طاقة الاحتجاج ورفض الظلم التى فجرها إلى طاقة عمل وإنتاج وبناء، قادرة على أن تنقل البلاد نقلة حضارية واجتماعية حاسمة، فتجارب التغيير الناجحة هى التى تقدم البدائل السياسية والاجتماعية التى تستجيب لتطلعات الشعوب وضرورات المستقبل.

إذا كان النظام الجمهورى الديمقراطى الذى ترسخ فى الدساتير المصرية هو أساس نظام الحكم فى مصر، فإن النظام الجمهورى فى مضمونه هو منظومة من القيم والمبادئ وليس مجرد شكل سياسى؛ فهو يعتمد على الحرية والمساواة والعدالة والاستقلال الوطنى والالتزام بالقيم الدينية التى توافق عليها المواطنون المصريون، وقد طوت صفحة الملكية دون رجعة، وتأسست نظم اتسعت لمشروعات جمال عبدالناصر وأنور السادات، لكنها تكلست ووقفت بعد ذلك دون أن تتقدم لتحقيق الديمقراطية، وهى تعود الآن لاستئناف مسيرتها وتقاليدها واستكمال أطرها، ومن هنا رفض الشعب أى مشروع فيه اختطاف الدولة لحساب فئة أو طبقة أو مجموعة مصالح، كما رفض محاولة خطفها وتفكيكها لصالح مشروع لا ينتمى للثوابت الوطنية الراسخة، كما أن روح النظام الجمهورى هى الحفاظ الكامل على تطبيق جميع مبادئ الدستور وسن القوانين المنفذة لها، مما يتطلب استكمال عملية البناء الديمقراطى على اعتبار أن ضمان استقرار مصر وتطورها لن يتم بالحفاظ على المؤسسات فحسب، بل باحترام هذه المؤسسات للدستور ومبادئ دولة القانون دون أى خروج عليه أو انتهاك لقيمه أو استئثار لفصيل أو طبقة دون أخرى. إن العمل على استكمال عملية التحول الديمقراطى لضمان الاستقرار السياسى وتداول السلطة والعدل الاجتماعى لن يتحقق بدون معارضة قوية وأحزاب سياسية قادرة ومستقلة ومؤثرة فى اتخاذ القرار والمشاركة بجدية فى رسم سياسات الحاضر والمستقبل.

تطلب الأمر ضرورة وجود حالة من الوعى بأن أخطر ما يمكن أن تتعرض له دولة مثل مصر يعيش على أرضها أكثر من 100 مليون نسمة هو مواجهة تهديدات من الداخل وعلى الحدود، هو أن تسقط فى براثن الفشل، وتعجز عن تحقيق الحد الأدنى المطلوب من الأمن والتنمية والعدالة لمواطنيها، بل إن هذا الخطر وصل فى بعض البلاد العربية إلى حد انهيار الدولة وتفككها وسقوطها فى فخ الحرب الأهلية. على أن مواجهة هذا الخطر لن تكون بمنع الاختراقات والإملاءات الخارجية فحسب، بل ببناء مشروع وطنى ديمقراطى يعمل على تحفيز إيقاع تحديث الدولة ومؤسساتها حتى تستطيع مواجهة التحديات من الدخل والخارج، وهذا لن يتم سوى باعتبار العنصر البشرى هو القاطرة الحقيقية للتقدم، والاستثمار فيه هو استحقاق ينجزه الوطن بتعليمه ورعايته صحيًا ومجتمعيًا وتفجير طاقات الإنتاج والإبداع لديه، وخلق بيئة مناسبة للعمل تحفظ حقوق الجميع وتضع قواعد للثواب والعقاب، فتحاسب المقصر وتكافئ المجتهد، واعتبار كل ذلك ركائز النظام المجتمعى مع تعقب مواطن الفساد ومحاربتها وفق قواعد قانونية منضبطة.

منذ ثورة 30 يونيو العظيمة، والعمل مستمر لتكون الجمهورية الثانية هى دولة القانون والمؤسسات، وهى أساس النظام السياسى فى مصر، وأن الإيمان بمشاركة كل الاتجاهات فى العملية السياسية وبتداول السلطة حق دستورى وقانونى بلا تمييز بين القوى السياسية على أساس المعارضة والموالاة، إنما فقط بين المحرّضين والممارسين للعنف والإرهاب وبين المعارضين السلميين، بين من يحترمون الدستور والقانون ويسعون للتغيير بالطرق السلمية، وبين من ينتهكونه ويعتبرون أنفسهم فوق الدولة والدستور والقانون. إن تداول السلطة أمر مكفول، والمعارضة السلمية وحق الاختلاف والتظاهر السلمى أمر مصان بحكم الدستور والقانون.

لقد أقرت الجمهورية الثانية أن مصر لن تبنى إلا بتكاتف أبنائها من مختلف الاتجاهات، ونبذ العنف ومحاربة الإرهاب وعدم التستر عليه، وقبول الاختلاف بين الآراء المعارضة مصان، وأن باب المصالحة الوطنية سيظل مفتوحًا لكل من لم تتلطخ يداه بالدماء ولم يمارس العنف أو يحرض عليه.

استطاعت الجمهورية الثانية.. حفظ وحدة النسيج الاجتماعى المصرى بعد حالة الاستقطاب الشديد التى تعرض لها المجتمع، وتعرضه لانقسامات عديدة بين الاتجاهات السياسية المختلفة والمتعددة، وإذا كان المجتمع المصرى قد شهد مواجهات بين فصائل سياسية مختلفة، فإن هذه المواجهات لا يجب أن تنقل إلى دوائر أوسع.. لذا أرست الجمهورية الثانية الوقوف فى مواجهة خطاب الانتقام الفردى أو المحاسبة خارج إطار القانون حفاظًا على تماسك المجتمع ووحدته ومستقبل الأجيال القادمة، وأن من استخدم العنف والترويع، ومارس الإرهاب واستهدف المواطنين ورجال القوات المسلحة ورجال الشرطة.. فإن محاسبته بكل حسم ستكون فى إطار الدستور والقانون.

ملاحظة أخيرة للتاريخ.. لم يكن للمرشح الرئاسى عبدالفتاح السيسى برنامج انتخابى عند ترشحه، ولكن كان لديه تصور للدولة المصرية عبر عنه فى شكل «رؤية»، مثلت النواة الأولى لملامح الجمهورية الثانية حسبما نراها الآن على أرض الواقع، أو كما تقرأها فى هذا المقال. 

نقطة ومن أول السطر.

بعد مرور 8 سنوات على قيام ثورة 30 يونيو ضد التطرف والتشدد والتعصب والإرهاب، انتقلت مصر إلى الجمهورية الثانية بملامح سياسية جديدة وبسياق دستورى وقانونى جديد يعتمد على حفظ مكانة المواطن المصرى وكرامته من جهة، وهيبة الدولة المصرية وقوتها الحكيمة وغير الغاشمة من جهة أخرى. 

إنها دولة 30 يونيو العظيمة. 

نقلا عن روزال يوسف