عصام زكريا

منذ أسابيع أقف متأملا، حائرا، أمام نتائج الاستفتاء الذي أجراه مهرجان “أسوان لسينما المرأة” في دورته الأخيرة (25 – 29 يونيو الماضي)، عن أفضل مئة فيلم عربي عن المرأة، يتقافز أمام عيني عدد من الأسئلة.

 
هناك أفلام أزعم أنها قدمت قضايا المرأة وشخصيات درامية نسائية بشكل رائع، وأفضل من معظم الأفلام التي تضمنتها القائمة، ولكنها غير موجودة بالمرة مثل “الآنسة حنفي” لفطين عبد الوهاب و”زينب” لمحمد كريم و”عودة الابن الضال” ليوسف شاهين وغيرها، بل لا توجد أفلام رائدات السينما المصرية اللواتي أنتجن وأخرجن وكتبن ووضعن الموسيقى التصويرية للأفلام قبل زميلاتهن في أمريكا وأوروبا، مثل بهيجة حافظ وعزيزة أمير  وأمينة محمد وغيرهن!!
 
وهناك أفلام أزعم أنها أساءت لصورة المرأة وشوهتها ولكن عناوينها تتصدر القائمة مثل “شباب امرأة” و”الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف و”زوجتي والكلب” لحسين كمال، و”إنذار بالطاعة” لعاطف الطيب، و”زقاق المدق” لحسن الإمام وأفلام لا علاقة لها بالمرأة أو قضاياها لا أعلم مدى علاقتها بالستفتاء مثل “غزل البنات” لأنور وجدي، “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق صالح، و”أرض الأحلام” لداود عبد السيد وغيرها.
 
إذا كان لنا أن نتحدث عن سينما المرأة فكيف نتجاهل صانعات السينما الأوائل، وكيف نخلط بين أعمال مخرجين ذكوريين مثل صلاح أبو سيف وحسين كمال وعاطف الطيب ومخرجين آمنوا دوما بدور المرأة وأهميتها وقوتها بل وتفوقها على الرجال مثل يوسف شاهين وفطين عبد الوهاب ورأفت الميهي؟!
 
هل المشكلة في الطريقة التي نفذ بها الاستفتاء، أم في أسماء النقاد المشاركين فيه أم في فكرة الاستفتاء في حد ذاتها؟
 
وكيف يمكن أن نقيم استفتاءً بين عدد من الناس لا يعرفون، أو لا يتفقون حول ماهية سينما المرأة، وكيف يمكن أن نقول عن فيلم ما أنه يمثل، أو لا يمثل، “سينما المرأة”؟
 
عقب نشر نتائج الاستفتاء ثارت بعض هذه الاعتراضات والملاحظات من قبل صحفيين وسينمائيين، ولكن قبل أن نناقش مدى صحة هذه الاعتراضات أو نبحث عن إجابات لهذه الأسئلة، ينبغي أن نتوقف قليلا لنسأل ماذا يعني الاستفتاء وكيف يتم؟
 
في مقدمته لكتاب الاستفتاء يبدأ الناقد الكبير كمال رمزي بجملة مكتوبة بالخط الأسود العريض تقول: “الاستفتاء لا علاقة له بالتحكيم”، يبين فيها الفرق بين الجوائز التي تمنحها المهرجانات والاستفتاءات التي يشارك فيها عدد قد يكثر أو يقل من السينمائيين أو النقاد أو المشاهدين (أو كلهم معا) وتكون نتائجهم معبرة عن “ميول ومزاج المشاركين في الاختيار، بينما نتائج التحكيم تظل ثابتة، لا يمكن شطبها أو تبديلها”.
 
يبدو كلام الأستاذ كمال رمزي كما لو كان تبريرا لبعض نتائج الاستفتاء، أو تحسبا، بواقع خبرته الطويلة بعالمنا العربي، لردود الفعل التي يمكن أن يثيرها، مثل الأسئلة التي أثارها البعض، أو التي بدأت بها مقالي.
 
الحقيقة أن أسئلتي لم أقصد بها التشكيك أو الاعتراض على نتائج الاستفتاء، بل إنني، بواقع خبرتي بالاستفتاءات السابقة مثل استفتاء أفضل مئة فيلم مصري الذي أقامه مهرجان “القاهرة” (1996) واستفتاء أفضل فيلم عربي الذي أقامه مهرجان “دبي” (2013)، والعشرات من الاستفتاءات الأجنبية التي قرأتها، دائما ما يكون لدي ملاحظات على معاييرها والمشاركين فيها، كما أعرف جيدا العيوب المزمنة الكامنة في فكرة الاستفتاء نفسها، مهما كانت معاييرها دقيقة، ومهما كانت ثقافة وكفاءة المشاركين فيها.
 
في الاستفتاء الذي تقيمه مجلة Sight and Sound البريطانية كل عشر سنوات حول أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العالمية تتغير النتائج كل عشر سنوات، لتعكس ليس فقط تطور السينما بعد كل عقد ولكن تعكس أيضا الحساسية والذوق والمزاج والميول المختلفة في كل عقد، وفي المرتين الأخيرتين أقامت المجلة استفتاءين واحد للنقاد وآخر للمخرجين جاءت نتائجهما مختلفة أيضا لتعكس الفارق بين تفكير النقاد وتفكير السينمائيين. هناك أيضا اختلافات كبيرة بين الاستفتاءات التي تقيمها مؤسسات تضم متخصصين مثل “معهد الفيلم الأمريكي” والتي تقيمها مجلات بعينها مثل الاستفتاءات الكثيرة التي تقيمها المجلات السينمائية لقرائها، ومعظمهم من جمهور السينما العادي غير المتخصص.
 
الفكرة في الاستفتاء أن نتائجه هي حاصل تصويت المشاركين فيه، وبمعنى آخر هو حاصل متوسط ذوقهم، ولذلك تكون نتائج الاستفتاءات “متوسطة”، لأن أصحاب الذوق الأدنى والأعلى يكونون أقلية، وبالتالي هناك افلام عظيمة تخرج من السباق أو تأتي متأخرة لأن أنصارها قليلون. وبالمناسبة نتائج جوائز الأوسكار قريبة من فكرة الاستفتاءات لأن هناك المئات يشاركون في اختيارها، ولذلك نجد أفلاما عظيمة لم تفز بالأوسكار مثل “المواطن كين” لأورسون ويلز أو “سائق التاكسي” لمارتن سكورسيزي أو “طريق مولهولاند” لديفيد لينش، أو كل أعمال تشارلي شابلن أو معظم أعمال ألفريد هيتشكوك، لأنها كانت سابقة لزمنها وغير مستساغة من قبل الغالبية التي تختار الجوائز.
 
على العكس من ذلك تبدو جوائز المهرجانات الكبرى، مثل “كان” و”برلين” و”فينيسيا”، التي عادة ما تختار لجان تحكيم ذات ذائقة رفيعة، أكثر انتقائية وفنية. مع ذلك، فإن نتائج دورة أي مهرجان يمكن أن تتغير إذا غيرنا لجنة التحكيم أو حتى أحد المشاركين فيها، بل وقد تتغير إذا اخترنا اللجنة نفسها والأفلام نفسها في توقيت مختلف.
 
إذن.. لا الاستفتاءات ولا المهرجانات يمكن أن يعول عليها في اختيار “الأفضل”، وفي الفن يستحيل تقريبا أن نصل إلى نتائج علمية ثابتة حول “الأفضل”، وكل ما يمكن أن تفعله الاستفتاءات والمهرجانات هو أنها تشير إلى بعض الأفلام وتنبه إلى وجودها، ومعظم هذه الأفلام تستحق المشاهدة، حتى لو لم تكن الأفضل، وحتى لو كان هناك دائما أفلاما أخرى تستحق المشاهدة وتستحق من وجهة نظر البعض أن تنال صفة “الأفضل”.
 
استفتاء مهرجان أسوان يثير الكثير من الأسئلة والملاحظات، وليس هذا اعتراضا على معايير الاستفتاء أو المشاركين فيه أو على فكرة الاستفتاءات نفسها.. لكنها أسئلة مشروعة للتفكير وإعادة النظر ولحث القراء على عدم التعامل مع نتائج الاستفتاءات والمهرجانات على أنها قطيعة مسلم بها.
 
نقلا عن الامصار