كمال زاخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 ـ آليات تكوين العقل والوجدان القبطى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما فى المجتمع العام كذلك فى الكنيسة، هناك آليات اساسية تشكل وتكون العقل الجمعى، يتقدمها التعليم والثقافة والإعلام، وبقدر استيعاب تلك الآليات لدورها البنائى، وبقدر اتساقها مع منظومة القيم الإنسانية التى تهدف إلى قيام مجتمع سوى يرسخ لقيم العدالة والتآخى والتكافل، يأتى الحكم  على هذا المجتمع أو ذاك.

ويدق الأمر حين يتعلق بالكنيسة، لأنها تحمل رسالة طوباوية فى عالم تتجاذبه الصراعات، بل يريد ويسعى لأن يفرض رؤيته على الكنيسة، ويبدو من الوهلة الأولى أننا إزاء صراع بينهما، وفى يقينى أنه صراع متوهم، أو هو صراع يسعى إليه العالم، فيما الكنيسة، بحسب المسيح، يحتويها سلام لا يتزعزع، وتدرك ماهيتها ورسالتها، أنها تعيش فى العالم حيث الإنسان محل رسالتها، ولكنها ليست من طبيعة العالم، وقد وجِدت لتأخذ بيده حتى لا يبتلع فى صراعاته ومصادماته، حنواً وليس استعلاء.

وهى تؤسس موقفها على لاهوت التجسد، القائم على مبادرة الثالوث باعادة الإنسان الى رتبته الأولى قبل السقوط ورده الى دائرة محبة لله.

ازمة التكوين فى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بدأت مبكراً، مع ادارتها لتداعيات مجمع خلقيدونية (451 م) بكثير من الريبة والتحفز فى الدفاع عن الهوية فى اجواء سياسية امبراطورية وتحالفات كنسية تراتبية مرتبكة، شهد صراعات فى ترتيب الكراسى المسكونية، مع روما العريقة والقسطنطينية الوليدة والمدعومة من القيصر. فقفزت الهوية الوطنية لتحتل حتى اسمها حتى صارت الكنيسة القبطية بعد أن كانت كنيسة الاسكندرية.

تعمقت الأزمة مع مخاصمة اللسان والحرف اليونانى، واستبدالهما بالقبطى، فى رد فعل انفعالى، وكان للانتقال من لغة الثقافة، المتضمنة لكل البنى والتدوينات اللاهوتية، والأقدر على احتواء الدقائق اللاهوتية والتعبير عنها، إلى اللغة العامية تداعياته فى تأكيد الإنقطاع المعرفى وتعثر التواصل مع ما تشهده البنية اللاهوتية خارج الكنيسة القبطية من مراكمات، زاد الأمر ارتباكاً الدخول فى مرحلة ما بعد ظهور الإسلام، فى غضون أقل من قرن، وهو ظهور غير منبت الصلة بصراعات تلك المرحلة، وما حملته من مواجهات فكرية والإنتقال الجبرى الى اللسان العربى، ليتعمق الإنقطاع المعرفى، وندخل فى عصورنا الوسيطة الغائمة. خاصةمع قصور اللغة العربية عن احتواء دقائق اللاهوت ومن ثم ارتباك ترجمتها إلى مصطلحات واضحة، حتى انها احتفظت ببعضها نطقاً كما هى فى اللغة الأم.

وحين تواجهنا، كوطن وكنيسة، مع ارهاصات التنوير من خلال صدمة الحملة الفرنسية وتجربة محمد على، والتى شهدت رياح التعرف على عوالم الضفاف المقابلة من البحر المتوسط، باغتتا الارساليات بأدواتها ومنهجها، بدأت الكنيسة القبطية تنتبه لحاجتها للخروج إلى النهار. وكان الخروج متعثراً ولايزال، وظنى أن قراءة دروب الخروج يحتاج طرحاً مفصلاً. لما فيها من تفاصيل تفسر ما نعانيه اليوم وربما الغد القريب، من جراء مصادمات الفرقاء ومدارسهم المتباينة.

كانت تجربة مدارس الأحد التى تأسست فى مطلع القرن العشرين يعول عليها فى درب الخروج، وكانت البدايات مبشرة رغم ما واجهته من مقاومة، ربما بفضل دعم البابا البطريرك الأنبا كيرلس الخامس، لكنها كانت تفتقر للبناء على مرجعية آبائية ارثوذكسية، والتى كانت محتجزة فى اروقة مخطوطات عتيقة يونانية وقبطية، والنذر اليسير من الكتابات بالعربية، والتى عُرفت بكتابات العصر الوسيط، فما كان للمؤسسين إلا اللجوء للمتاح فى تجارب كنائس شقيقة سبقتنا إلى التعريب، وهو ما أشار اليه الاستاذ حبيب جرجس فيما وضعه من مؤلفات مؤسِسة، حتى جاءت حركة التكريس التى تبنت فى جناح منها الترجمة عن اليونانية، عبر روادها فى بيت التكريس بحلوان والذى صار فيما بعد مركز دراسات الآباء ومؤسسة القديس انطونيوس، ورائدهم الدكتور نصحى عبد الشهيد، وبين من تبنى المرجعيات المعربة ومن تبنى المرجعيات المترجمة عن اليونانية تكمن ازمة التعليم المعاصر الذى انحاز بكل ثقله للتيار الأول. فى النصف الأخير من القرن العشرين. ولعل تلك المرحلة تجد من الباحثين من يوليها اهتمامه ويتفرغ لدراستها بشكل موضوعى وجاد.
المشهد الآن وبعد رحيل قداسة البابا شنودة الثالث، فى لحظة فارقة بين ثورتين، الصناعية والرقمية، بعد التغبرات المتسارعة فى المجال العام فيما يتعلق بالتكوين الذهنى والفكرى بفعل الثورة الرقمية التقنية والانتقال اليها من اجواء وتداعيات الثورة الصناعية التى شكلت العالم قبلاً، تحتاج الكنيسة إلى مراجعة الياتها ذات الصلة بالثقافة والتعليم باعتبارهما المنوط بهم تشكيل عقل ووجدان رعيتها ووعيها الدينى والإنسانى.

البداية تبدأ من الرهبنة، بحكم ثقلها وموقعها التدبيرى الذى ترسخ عبر تاريخها المديد، فقد استقر إختيار القيادات الكنسية الإكليروسية من عناصرها، بعد أن تعرضت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية للاستهداف جراء المواجهة مع الدولة الرومانية، والتى انتهت باحتماء كوادرها العلمية بالأديرة ومعهم ابحاثهم ومخطوطاطهم، واستقروا فيها، فتتجه الكنيسة إلى اختيار قياداتها منهم، امتداداً لما كان يحدث قبل هجرتهم الاحتمائية، حين كانوا يديرون مدرسة الاسكندرية.

وبالتوازى تبدأ ايضاً من منظومة التعليم الإكليريكى، المصدر الذى يمد الكنيسة بقاعدة الخدمة فى صفوف القسوس والشمامسة، والعودة بها إلى نسق التلمذة الذى تقوم عليه الكنيسة بجملتها، والذى يضمن بقاء التواصل اللاهوتى والبنائى بين الأجيال الحاضرة والمستقبلة والجذور التى تمتد لتصل إلى كنيسة الرسل.

وفى هذا السياق نحن لا نبدأ من فراغ، فلدينا تجارب وخبرات معاصرة وقديمة، تحتاج منا أن نضعها على مائدة الفحص، لدينا اسقفية التعليم، واسقفية الدراسات العليا والبحث العلمى، واسقفية الشباب وتجاربها المتنوعة والمؤثرة، ولدينا خبرات الأديرة البحثية والتراسية؛ البراموس والسريان وأبو مقار، وتجارب وخبرات بيت التكريس ومركز دراسات الآباء ومؤسسة القديس انطونيوس، ولدينا خبرات العمل المسكونى عبر هيئات مجلس الكنائس العالمى ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وخبرات التواصل والمباحثات مع الكنائس التقليدية سواء فى العائلتين الارثوذكسيتين، أو مع الكنيسة الكاثوليكية، والتى بدأت ارهاصاصتها مع البابا كيرلس السادس، وقطعت شوطاً فاعلاً فى حبرية البابا شنودة الثالث، وشهدت حراكاً هادئاً فى حبرية البابا تواضروس، ويمكن للكنيسة دراسة كل هذه الخبرات والخروج منها بتصور يترجم إلى برامج وسياسات وآليات على الأرض تعيد الإعتبار لمنظومتى التعليم والرعاية بما يكفل استرداد الوعى الكنسى بحسب الآباء.

وحتى يتحقق هذا أرى ان تبادر الكنيسة بتشكيل مجلس أعلى يتبع مجمع الاساقفة مباشرة يضم خبراء فى كل الدوائر التى اشرنا إليها، يكلف بوضع هذا التصور وآلياته، وله أن يستعين بأهل الخبرة سواء فى كنيستنا أو الكنائس الشقيقة، فى غضون مساحة زمنية محددة، ويقدم رؤيته للكنيسة لمراجعتها ومناقشتها ثم اقرار ما تصل اليه.

ومازال للطرح بقية نتطرق فيها إلى الأدوات التى يملكها البابا البطريرك أنبا تواضروس لتدشين الطريق إلى تشكيل الوجدان والعقل القبطى بحسب الآباء.