بقلم : كمال زاخر
فى الفلكلور التراثى أن راهباً يافعاً اصابه الضجر فى وحدته، يومه لا يختلف عن أمسه، وغده كذلك، قلايته بجدرانها الأربعة، ونافذتها الضيقة، ورف الكتب، وقد تناثرت عليه، بعض من الكتب الطقسية وسير السلف الصالح، وطيف من خبرات القديسين.
 
كان يهرب الى مخيلته المحتشدة بخبرات صباه وشبابه المبكر، بعضها يحمله الى دوائر مبهجة وبعضها تذكره بخبرات مؤلمة،  واكثرها يشاغب شهوات الجسد وشقاوة مرحلة اكتشاف عالم الطبيعة معجونة بحكايات اسطورية يرويها اصدقاؤه من نسج خيالهم، مدادها توهمات المراهقة.
 
كلما حاصرته الهواجس وتراقصت فى عقله الصور الذهنية المتلاحقة يلتقط كتاباً من رف كتبه يحتمى بسطوره التى تحكى عن ابطال العفة والنصرة وقمع الجسد، ويعيد قراءة حكاية يوسف ما بين غدر اخوته وغوايات سيدة القصر، ويذهب الى البطولات التى تختبئ خلف كثبان رمال الصحراء! لكن الطبيعة كانت تقف له بالمرصاد، يلقى كتبه جانباً ويفتح باب قلايته هرباً عسى ان يجد خارجها ما يخرجه من حصار الذهن الذى انفرد به داخلها. لكن الخيالات لا تفارقه، والسراب الذى يراه السائر فى دروب الصحراء يتحول عنده الى صور متحركة تكاد تبتلعه.
 
يذهب مسرعاً الى ابيه ومرشده يطرق باب قلايته ويكرر أمامه متاعبه ومعاركه التى لا تتوقف مع ذهنه المشتت، والتى لم تفلح معها كل نصائح بستان الرهبان، والتى تؤكد على عداوة متوهمة مع الجسد والعالم والمادة.
 
يحاول الشيخ المختبر ان يذهب بالفتى الى دائرة الحب التى للمسيح والتى بسببها ترك كل ما له، ومن له، ليلتقيه بعيدا عن صخب العالم، بارادته، ويطرق معه دروب الحب اللامتناهى الذى شكل محاور التجسد والفداء، واسترد فيها الانسان طبيعته الأولى المنتصرة قبل السقوط، واختبر المصالحة مع نفسه وجسده وروحه والعالم والطبيعة.
 
كان الشيخ يحكى وكان الفتى لا يسمع، فالذهن مشتت والصور والخبرات مازالت تشكل حائطاً سميكاً بين فم الشيج وأذن الفتى.
 
ادرك الأب حال إبنه، فتوقف عن الحكى، وطلب منه ان يعود الى قلايته ولا يخرج منها الا بعد ان يقرأ دون توقف كتابه المقدس، من التكوين للرؤيا، هه سامع "من التكوين للرؤيا" !.
 
كانت "الطاعة" واحدة من نذور الرهبنة، "حاضر يا أبى"، عاد واغلق خلفه باب القلاية وعكف على القراءة، انتهى بعد زمن ربما اسبوع أو اكثر قليلاً من القراءة، ولم تبارحه متاعب الصور الذهنية التى تخايله. فعاد ادراجه ليطرق باب قلاية ابيه المرشد؛ "انتهيت من القراءة ولم يتغير شئ"!. 
 
جاءت كلمات الراهب الشيخ قليلة وحازمة، "عد وكرر القراءة مجدداً"(!!)، تقفز الطاعة أمام الشاب المغلوب، فلا ينطق ببنت شفة، تباً لك ايتها الطاعة، قام متثاقلاً متبرماً، ليكرر المشهد، اكثر من اربعة مرات، بين قلايته وقلاية الراهب الشيخ، نفس الشكوى ونفس التوجيه، ياااااه حاجة تزهق.
 
خلاص يا ابنى دع كتابك جانباً، هكذا كلم الشيخ تلميذه، وأشار الى "سبت خوص" صنعه بيده ضمن "عمل اليدين" حين كان قادراً على جدل الخوص، بحسب نظام الحياة بالدير وقتها والذى يجمع بين التزامات الراهب الروحية ونذوره الرهبانية، وبين ضرورات العمل لتدبير نفقات المعيشة اليومية، بحسب قول ق. بولس "من لا يعمل لا يأكل".
 
طلب الى الراهب الشاب أن يأتى بالسبت الخوص، من ركن فى قلايته، وطلب منه ان يذهب الى البئر العتيق، ليملأه من ماءه، تقفز الطاعة، لينصاع الراهب الشاب، فيما يذهب به فكره إلى روايات المعجزات، ربما تحدث معه احداها فلا يتسرب الماء من بين اعواد الخوص، ذهب ومعه السبت الذى ربطه بحبل مجدول من لحاء النخيل، لكن السبت لم يتخل عن قوانين الطبيعة ولم يخضع لذهنية المعجزة ولم يحتفظ بالماء، فيما يمنى الشاب نفسه بمعجزة قادمة مع تكرار محاولة ملء السبت بالماء.  اعيته المحاولات فحمل السبت فارغاً إلا من قطرات ماء علقت به، والحبل، وعاد لأبيه.
 
"صدقنى يا أبى، حاولت لعشرات المرات ان أملأه، لكننى لم انجح"، ضحك الشيخ وربت على كتف الراهب الشاب؛ وهل كنت تنتظر ان يحتفظ بالماء؟، لكن الم تلحظ شيئاً مختلفاً طرأ على السبت؟... قال الشاب "هو... هو ... سبت خوص"! ، اجابه الشيخ لقد صار نظيفاً!، وهذا هو ما كنت اود ان تستوعبه، حين طلبت منك ان تعيد وتزيد فى قراءة الكتاب المقدس، فإن لم تدرك فى البداية رسائله لك ودروسه وانفتاح ذهنك على الله وعلى تدبير الخلاص عبر سطوره وحكاياته، فهو يغسل ذهنك وفكرك وينزع عنهما ما علق بهما من اتربة وافكار مشاغبة، ومؤلمة، فكلمة الله هى القادرة ان تنير لك الفروق الدقيقة بين ما هو نفسى وما هو روحى، والمميزة والكاشفة لأفكار القلب والضمير، وهى التى يمكن ان تواجه حروب الفكر والخبرات السلبية المختزنة، وتقوّم السلوك والاتجاه، بغير ان تخلق بينك وبين جسدك عداوة مفتعلة، فنحن لا نكره الجسد ولا نشيطنه، بعد أن تقدس منذ شابهنا فيه ربنا يسوع المسيح، وجعله المعبر الذى ينقل الينا كل ما له، حين اخذ الذى لنا واعطانا الذى له.
 
اذهب يابنى واغتسل فى مياه كلمة الله وتصالح مع نفسك ومع دوائرك الحياتية والعالم ودع المسيح يتجسد فيك وفى العالم بك.
 
"لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ." (عب 4: 12).