يوسف سيدهم

 فى‭ ‬ظل التحدى‭ ‬الذى‭ ‬تواجهه مصر بسبب أزمة سد النهضة والحرب الشرسة التى‭ ‬تخوضها للذود عن نصيبها فى‭ ‬مياه النيل‮ -‬وهى‭ ‬الحرب التى‭ ‬تديرها القيادة السياسية المصرية بكل حنكة وحكمة واقتدار‮- ‬تبرز الحاجة الحتمية لترشيد استخدام مواردنا المائية على كافة الأصعدة ما بين المياه الطبيعية القادمة من الجنوب عبر النيل الأزرق ونهر النيل،‮ ‬إلى المياه الجوفية المختزنة فى‭ ‬طبقات التربة عبر آلاف السنين،‮ ‬إلى تكنولوجيا تحلية مياه البحر إلى تكنولوجيا تدوير المياه المستخدمة لإعادة استخدامها فى مجالات شتى للرى من أجل تخفيف العبء على مخزون المياه النقية المثقل أصلاً‮ ‬بتلبية التزايد المضطرد نتيجة الزيادة السكانية وخطط التنمية‮.‬

 
هذا الملف الحيوى تفتحه‮ “‬وطنى‮” ‬على صفحات هذا العدد لتحقق قضية‮ “مياه الصرف المعالج‮.. ‬ثروة المستقبل لرى‭ ‬الحدائق والمسطحات الخضراء‮” ‬وهو التحقيق الذى‭ ‬يلقى‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬كافة الخطط والجهود التى‭ ‬تنتهجها الدولة لإعادة تدوير مياه الصرف‮ -‬التى‭ ‬كانت عادة‮ ‬يتم التخلص منها فى‭ ‬المصارف نهائياً‭ ‬مع ما‮ ‬يسببه ذلك من تلوث وإهدار‮ -‬لتحويلها من قيمة مخصومة إلى‭ ‬قيمة مضافة فى‭ ‬رصيد الاستثمار والتنمية‮.‬
 
ولعله تجدر الإشارة قبل الخوض فى‭ ‬هذا الملف أن نفتح ملفاً‭ ‬مسكوتاً‭ ‬عنه فى‭ ‬مجال ترشيد استخدامات المياه عن طريق تدبير درجة تكريرها،‮ ‬وهى‭ ‬المعروفة باسم‮ “‬شبكات المياه العكرة”‮‬‭ ‬والتى‭ ‬كانت مصر تعرفها منذ عقود طويلة حتى‭ ‬قبل أن تظهر الفجوة المقلقة بين الموارد المائية واحتياجات الزيادة السكانية‮.. ‬فقد عرفت مصر وقتها شكلاً‭ ‬من أشكال ترشيد استخدام المياه من خلال ترشيد تكاليف تكرير وتنقية المياه العذبة لتقسيمها إلى‭ ‬‮‬”شبكات مياه حلوة”‬‭ ‬خاصة بالاستخدام الآدمى‭ ‬فى‭ ‬سائر مجالاته المعيشية،‮ ‬و”شبكات مياه عكرة”‬‭ ‬أقل فى‭ ‬درجات تكريرها وتنقيتها خاصة بالاستخدام فى‭ ‬رى‭ ‬الحدائق والمجالات‮ ‬غير المرتبطة مباشرة بصحة الإنسان‮.‬
 
كانت مصر تعرف‮ “شبكات المياه العكرة”‬‭ ‬كشبكات مياه منفصلة عن‮ “شبكات المياه الحلوة”… ‬فبينما كانت الأولى‭ ‬مخصصة لأغراض رى‭ ‬الحدائق والأشجار والنباتات كانت الثانية مخصصة لتغذية شبكات المياه فى‭ ‬سائر المشروعات السكانية والعمرانية لتلبية الاحتياجات الإنسانية فى‭ ‬مياه الشرب وكافة استخداماتها المعيشية‮… ‬لكن للأسف الشديد ومع التسرع‮ ‬غير المدروس فى‭ ‬التوسعات العمرانية التى‭ ‬شهدتها مصر فى‭ ‬ستينيات وسبعينيات القرن الماضى‭ ‬اختفت‮ “‬شبكات المياه العكرة” ‬‭ ‬مثلها مثل‮ “شبكات صرف مياه الأمطار” ‬‭ ‬وأنظمة‮ “‬التخلص من القمامة”‬‭ ‬وأنظمة‮ “شبكات التدفئة بالغاز” ‬‭ ‬وغيرها من أنماط المواصفات العمرانية التى‭ ‬تم التنازل عنها والتضحية بها لحساب الإفراط فى‭ ‬‮»‬المساكن الشعبية‮«‬‭ ‬فكانت النتيجة المؤسفة خسارة فادحة فى‭ ‬المعايير البيئية وارتفاعات خطيرة فى‭ ‬معايير التلوث وفاتورة باهظة دفعتها أجيال تم التغرير بها فى‭ ‬توسعات سكانية متدنية‮.‬
 
الآن تعود مصر لتعيد حساباتها بعدما أصبح لكل قطرة ماء‭ ‬ثمنها الباهظ الذى‭ ‬لا‮ ‬يمكن التفريط فيه‮… ‬وبعدما تجاوز التحدى‭ ‬مجرد الترف فى‭ ‬ترشيد تكاليف تكرير المياه وتنقيتها بين‮ “مياه حلوة” ‬‭ ‬و”مياه عكرة”‬‭ ‬فها هى‭ ‬التكنولوجيا تفتح آفاقاً‭ ‬رحبة لإعادة تدوير المياه المستخدمة فى‭ ‬الزراعة والرى‭ ‬والتى‭ ‬كانت تلقى‭ ‬فى‭ ‬المصارف لتعود صالحة مرة أخرى‭ ‬لأغراض الزراعة والرى‭ ‬والمزارع السمكية والحدائق والمسطحات الخضراء‭ ‬تبعاً‭ ‬لدرجة تنقيتها ومعالجتها من‮ “‬أحادية” ‬‭ ‬أو‮ “‬ثنائية”‬‭ ‬أو”‬ثلاثية”‬‭ ‬ولكل منها مجالات استخداماتها التى‭ ‬لا تضر بصحة الإنسان وتحول‮ “‬مياه الصرف”‬‭ ‬المهدرة إلى “‬ثروة المستقبل”.‬