بقلم : د. نادر نور الدين

 تحض منظمة الأغذية والزراعة فى تقريرها العام الماضى على الحفاظ على الترب الزراعية من كل أنواع تجريفها والبناء عليها وإهدارها وتبويرها، لأن تعويض سنتيمتر واحد من الأرض الزراعية يتطلب ألف عام حتى يمكن تكوين مثيل له، فتكوين الترب الزراعية الخصبة ليس بالأمر السهل، إنها هبة من الخالق ومن الطبيعة كمصنع دائم لإنتاج الغذاء لا يفنى ولا يبلى وليس لها عمر افتراضى، بل تظل منتجة لملايين وآلاف السنين طالما حافظنا عليها وعاملناها بالاهتمام الكافى. وعلى سبيل المثال أراضى محافظة الإسماعيلية، فمنذ أن أوصل إليها الوالى محمد على ترعة الإسماعيلية منذ 200 سنة لبدء زراعتها كمنطقة رملية صحراوية مازالت حتى الآن تميل إلى اللون الأصفر ولم تتحول إلى أراضٍ زراعية سمراء مماثلة لأراضى الدلتا، فعمل الطبيعة لتكوين الترب الزراعية يستغرق آلاف السنين.

 
ومن هنا كان الحفاظ على الترب الزراعية وحمايتها من التدهور والتصحر ومن البناء عليها أو تجريفها أمرًا واجبًا على كل مواطن، وبخاصة ملاك الأراضى الزراعية، وعليهم أن يعاملوها على كونها ثروة نادرة وثمينة لا مثيل لها ولا يمكن تصنيعها أو تعويضها، وأنها مصنع دائم لإنتاج الغذاء وكافة المنتجات الزراعية، وأنها رأسمال ومصدر رزق، وأنها الغذاء نفسه اللازم للحفاظ على حياة البشر وحياة الأجيال القادمة.
 
فالأراضى الزراعية وخدماتها من ترع توزيع وتوصيل المياه لم تتواجد من أجل البناء عليها أو لإقامة المقاهى والملاهى والفيلات والبيوت أو أكشاك البيع وغيرها، ولكن ينبغى معاملتها كوحدة واحدة للحفاظ على التربة والجسور والمياه وزمام الترع والمصارف والطرق من أجل استدامة إنتاج الغذاء والكساء والأعلاف ومختلف المنتجات الزراعية اللازمة للدولة والمواطن.
 
.. وعلينا أن نعى دومًا أنه ومنذ بناء السد العالى ومن بعده السد الإثيوبى لم تعد هناك أى كميات من الطمى الخصب تصل إلى الحدود المصرية ولا إلى الأراضى الزراعية (كان يصل إلى أراضينا 195 مليون طن طمى كل عام).. وبالتالى ليس هناك أى تعويض لما نجرفه أو نفقده من الترب الزراعية، وما أنشأناه من جسور وترع بهدف توزيع المياه لخدمة الأراضى الزراعية، ولهذا كان القدماء المصريون يلزمون المزارعين ببناء بيوتهم من الطوب النىء «اللبن» المكون من طمى التربة وليس من الصخور والحجارة كما فى بناء المعابد وبيوت وقصور المدن، وذلك حتى يسهل هدمها وقت الحاجة وتعود تربة زراعية منتجة مرة أخرى.
 
ولأن أراضى الدلتا تتكون من ترسيبات من الطمى لا تتخللها صحارى أو جبال، فعلى الجميع أن يعى أن يكون بناء المساكن الجديدة فى الزمام الصحراوى لمحافظات حواف الدلتا، وتبقى المحافظات الثلاث الحبيسة بحاجة إلى تخصيص زمام صحراوى لها كما حدث فى تخصيص أراضى مدينة السادات لمحافظة المنوفية لبناء المساكن والمصانع ولا تبتعد كثيرًا عن عاصمة المحافظة. وأيضًا على الدولة أن تقوم بدورها فى توفير المساكن الشعبية لسكان القرى والريف المصرى كما تفعل ذلك مع سكان المدن والعاصمة والحضر، فالحق فى السكن يخص أهل الريف كما يخص أهل المدن. وبالمثل، فعلى الدولة أن تبحث فى أسباب تخلى الفلاح عن أرضه الزراعية بخلاف بناء مسكن لأولاده، والتى من أهمها الديون المتراكمة على المزارعين، وأن الزراعة لم تعد مهنة مربحة، والمشاكل التى يواجهها الفلاح فى صعوبة الحصول على التقاوى عالية الإنتاجية والأسمدة والمبيدات، وجميعها أصبحت مرتفعة الأسعار جدًّا بعد رفع الدعم عنها، رغم أن الفلاح هو أفقر الفقراء الذى يستحق بقاء الدعم على مستلزمات زراعته، لأنه يطعم غالبية الشعب المصرى دون عائد يذكر عليه أو على أبنائه، وبالتالى معيشته طوال حياته فى دائرة الفقر. وعلى الدولة أن تتذكر أن إيجار شقة واحدة مقامة على نصف قيراط من الأرض الزراعية يعود على الفلاح بدخل فدان بأكمله من الزراعة، وعلى ذلك فإن دعم وتوفير الأسمدة والمبيدات والبذور عالية الإنتاجية فرض عين على الحكومة للحفاظ على ثروتنا من الأراضى الزراعية وعدم البناء عليها أو التفريط فيها وتبويرها والتخلص منها لتراكم الديون.
 
ومن أهم أسباب سيادة الفقر فى الريف التفتيت الزراعى والملكيات الصغيرة التى لا يمكنها إطعام أسرة بأكملها، بسبب توريث الأراضى الزراعية لعدد كبير من الورثة، بما أوصلنا إلى أن 50% من ملاك الأراضى الزراعية فى الدلتا يمتلكون أقل من فدان واحد، وتصل إلى 70% فى الصعيد، وأن 70% يمتلكون أقل من 3 أفدنة، وتصل النسبة إلى 90% فى الصعيد بسبب زيادة الفقر وضيق الأراضى الزراعية وبالتالى الأمر يحتاج إلى سياسات تجميع، أو التفكير فى إنشاء بنك للأراضى الزراعية يتخصص فى شراء الملكيات الصغيرة والمفتتة المتجاورة لتحويلها إلى تجمعات أكبر تزيد من اقتصادات زراعتها ومن إدخال الآلة والميكنة الزراعية فى القطع المفتتة، وأن تمنع التفتيت بالتوريث بشراء الترب الزراعية مجمعة من الورثة أو أن تخصص كاملة لأحد الأبناء بعد أن يسدد نصيب باقى الورثة، وهو إجراء مطبق فى العديد من بلدان العالم ويتوافق مع الشريعتين الإسلامية والمسيحية فى التوريث.
 
مشاكل كثيرة تحيط بأراضينا القديمة الخصبة وعالية الإنتاجية، من أهمها: كيف تعود زراعة الأرض الزراعية مهنة مربحة؟ وكيف نُخرج الفلاح من دائرة الفقر؟ وكيف نحافظ على الترب الزراعية من التفتيت ونطبق التجميع الزراعى وتخصيص مشروعات تربية عجول البتلو لصغار المزارعين لتوفير دخل إضافى إلى جوار الدخل من الزراعة؟، فهل يراعى مشروع حياة كريمة بالتوافق مع وزارات الزراعة والرى والحكم المحلى التعامل مع هذه المشاكل؟!.
 
ملحوظة: هل يعيد وزير الرى النظر فى ادعائه بأن فرع رشيد كان يستقبل 80 مليون متر مكعب فى اليوم سابقًا، لأن هذا معناه أنه يستقبل 30 مليارا فى السنة ومثلها لفرع دمياط ونصفها لأراضى الصعيد بإجمالى 75 مليارا، بالإضافة إلى 20 مليارا من إعادة استخدام مياه المصارف وهى كميات عالية من المياه أكبر كثيرا من مواردنا؟!.