عجيبة هي السينما، وساحرة. ومن ضمن عجائبها وسحرها، أن تجعل من جارتي؛ السيدة الأمّية البسيطة "أم ماريو"، بطلة فيلم ريش (Feathers) المصري، الذي حصد جوائز عدة في مهرجانات عالمية، هي المرأة التي لا تعرف عن السينما سوى الأفلام التي تشاهدها في تلفزيون بيتها.
 
إن فوز الفيلم المصري "ريش"، للمخرج المصري الشاب عمر الزهيري، بالجائزة الكبرى في مسابقة أسبوع النقاد، في الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي، يُعدّ سابقة للسينما المصرية، التي لم ينل أي من أفلامها هذه الجائزة من قبل، على الرغم من تاريخ السينما المصرية، وفي مشاركاتها بمهرجان "كان" تحديداً. كذلك، حصد "ريش" جائزة "فيبريسي" لأفضل فيلم، التي تُمنح للمخرجين المشاركين للمرة الأولى في المهرجان نفسه. فجاءت الجائزتان لتنصفان تياراً كاملاً من صناع السينما المستقلة في مصر، ولتعيد الأمل من جديد في النهوض بالفن السابع المصري، على يد أبنائها المخرجين الشبان، خريجي معهد السينما المصري العريق، مثل الزهيري ورفاقه.
 
هنا في قرية البرشا، مركز ملوي، في محافظة المنيا، تسكن دميانة نصار؛ المرأة الأربعينية، التي تعيش حياة على الهامش، على الأصعدة جميعها، مثل معظم نساء قريتها. لا أحد تقريباً يعرف اسمها الحقيقي، ولا أحد يذكره، سوى السجلات الرسمية. يعرفها الجميع بـ"أم ماريو" فحسب، وأحياناً "أم هايدي". وهايدي هي ابنتها الكبرى، ابنه الرابعة عشر، والتي كانت تمر بظروف نفسية سيئة بسبب غياب والدها عن بيته، منذ ست سنوات في ليبيا، للعمل، وانقطاع أخباره، فاشتركت في فرقة مسرح ناشئة للفتيات في القرية، وفرحت الأم بتغير مزاج ابنتها نحو الأفضل. عرفت قيمة الفن والمسرح في علاج النفس، فشجعت ابنتها، وسمحت لها بالسفر مع الفرقة في رحلات عروض في محافظات مصر. كانت تتمنى لها النجاح والشهرة في التمثيل، لكن القدر اختار الأم لتنال ذلك كله، مكافأةً لها على كفاحها.
 
جاءت الجائزتان لتنصفان تياراً كاملاً من صناع السينما المستقلة في مصر، ولتعيد الأمل من جديد في النهوض بالفن السابع المصري
هل كان يعلم المخرج عمر الزهيري ذلك كله عن بطلته التي سيختارها؟ هل رأى "أم ماريو" في أحلامه، طوال السنوات الست، منذ تخرجه من معهد السينما، والتي أنجز فيها فيلم تخرجه القصير "ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 376"، الذي شارك في مسابقة Cinefondation التابعة لمهرجان كان السينمائي الدولي عام 2014، وفاز بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان "بالم سبرينجز" السينمائي الدولي عام 2014؟ منذ ذلك الوقت، يفكر المخرج في فيلمه الروائي الطويل الأول "ريش". عكف على كتابة السيناريو طوال عامين، والبحث عن جهة إنتاج مستعدة لخوض تجربة إنتاج فيلم لأبطال لم يقفوا أمام الكاميرا من قبل، فيناقش قضايا مجتمعية خطيرة، بطريقة مختلفة، فيها الكثير من الفانتازيا، والقتامة، والبؤس، مغرقاً في الواقعية، لنسبة كبيرة من فقراء مصر.
 
قصة بطلة فيلم "ريش" تمشي جنباً إلى جنب مع حياة أم ماريو الحقيقية، وبأسلوب عجيب، وصورة مطابقة تقريباً. عندما بحث المخرج عن بطلة فيلمه، طاف قرى محافظة المنيا، عامين آخرين، ليرى مئات السيدات، قبل أن يستقر القرار على "أم ماريو"، فور رؤيته لها، في مقر الفرقة المسرحية التي تشارك فيها ابنتها، وكان يجري هناك مقابلات مع نساء القرية. وفي اليوم الأخير، دخلت "أم ماريو" لتسأل عن ابنتها الصغيرة. وبمجرد أن رآها، عرف أنه وجد ضالته أخيراً، وسيبدأ تصوير الفيلم الذي كان جاهزاً تماماً، وينتظر بطلته.
 
يتناول فيلم "ريش" قصة غير مسبوقة، ممتلئة بالرموز والمفارقات. اعتمد مخرجه في مشاهده على الصورة بشكل كامل، فالحوار معدوم تقريباً، إلا من بضع جمل قصيرة بين الممثلين. إنه "بورتريه" اجتماعي لوضع المرأة المصرية الممثلة في الأم، التي تعتمد بصورة شبه كلية على زوجها؛ صاحب القرار في كل شيء في حياة أسرته؛ ما يأكلون، وما يلبسون، وهو الذي يعطي زوجته مصروف البيت يومياً من حصالة معدنية، وهو الوحيد الذي يمتلك مفتاح قفلها. فجأةً، يغيب هذا الزوج بصورة فانتازية، إذ يتحول إلى دجاجة في عيد ميلاد ابنه الصغير، على يد ساحر أحضره الأب ليسعد ابنه.
 
هذه الزوجة البائسة، التي تعيش في شقة حقيرة، في جوار مصنع متهالك كان يعمل فيه زوجها، تنطلق في معترك الحياة القاسية، وهي لا تملك أي سلاح لتواجه به تلك القسوة، ومن دون مساعدة من أحد. فحتى أولئك الذين يعرضون المساعدة، يحاولون استغلالها جنسياً، كصديق الزوج، الذي عندما تفشل محاولاته معها، يطاردها من أجل الحصول على أمواله التي صرفها على أسرتها، طوال فترة غياب الزوج. تضطر الزوجة إلى أن تخرج إلى العالم، لإعالة أسرتها المكونة من ثلاثة أطفال، آخرهم رضيع، وتفعل المستحيل من أجل إعادة زوجها إلى وضعه الطبيعي. تمر بمصاعب جمة، مثل اتهامها بالسرقة، وتضطر إلى خوض عالم السحر والشعوذة، لإعادة زوجها إلى صورته الآدمية.
 
قصة بطلة فيلم "ريش"، تمشي جنباً إلى جنب مع حياة "أم ماريو" الحقيقية، وبأسلوب عجيب، وصورة مطابقة تقريباً
حياة تغيب فيها أشكال التكافل أو الرحمة كلها. عالم لا يعرف غير لغة المال. حتى إيجار الشقة البسيط، لا تصبر هيئة الإسكان على الأسرة لدفعه. تتم مصادرة ممتلكات الأسرة الفقيرة، مقابل الإيجار المتأخر. والمصنع الذي يعمل فيه الزوج لسنوات طويلة، لا يعترف بتبريرات غيابه عن العمل، فيتم فصله. لا تجد الأم سبيلاً، إلا بدفع ابنها الطفل البريء للعمل محل الأب.