عاطف بشاي
«الفنان شريف منير؟! فيلم (الكيت كات) اللى حضرتك مثلت فيه اكتشفنا ان أحداثه كلها بتدور فى العشوائيات.. نمنعه من العرض؟!».

العبارة السابقة تمثل كاريكاتيرًا للفنان «عمرو سليم»، نُشر فى «المصرى اليوم».. والحديث لمذيع بقناة فضائية، فى تعليق ساخر عن واقعة تمت فى مهرجان «الجونة» فى دورته الأخيرة.. حيث اندفع «شريف منير»، فى موقف عنترى، بالانسحاب خارجًا من قاعة العرض، أثناء عرض فيلم «ريش»، تأليف وإخراج «عمر الزهيرى»، الحاصل على جائزة النقاد من مهرجان «كان»، معربًا عن اعتراضه وسخطه من محتوى الفيلم، متهمًا المخرج بتعمده الإساءة إلى سمعة المحروسة من خلال أحداث الفيلم، الذى يدور فى منطقة عشوائية وإبراز حالة الفقر المدقع لبطليه الزوج والزوجة، اللذين يعانيان شظف العيش ويقطنان منزلًا متصدعًا قذرًا لا يصلح لحياة آدمية.. مؤكدًا أن هذه رؤية زائفة للواقع، منكرًا أن هناك فقراء فى «مصر». ويؤيده بعض الفنانين.

وبصرف النظر عن عدم صحة معلوماته المغلوطة.. فإن دلالات موقفه الأهوج، الذى يعبر عنه الكاريكاتير بذكاء، تشِى بأنه هو وإخوانه المعارضين قرروا بجسارة أن يقدموا أنفسهم بصفتهم حراسًا يفرضون وصايتهم على الفن حماية للوطن وخوفًا على سلامته من عبث الفنانين المارقين، مثلما يفرض التكفيريون وصايتهم على الفضيلة التى تبكى وتنتحب من انحلال الرعِيّة من خلال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتحريم والتجريم والمنع والإقصاء، كما تشِى بتكريس شيوع الازدراء وكراهية الآخر واستنكار الجدل عن طريق الحوار بين الرأى والرأى المخالف.. ومن ثَمَّ التحريض على منع العرض الجماهيرى للفيلم.

لكن رد الفعل جاء سريعًا، وقبل ختام المهرجان، ليثبت أن السهام المسمومة تُرَد إلى صدور أصحابها، وأن المزايدة الذميمة تموت فى مهدها.. عن طريق البيان الذى صدر عن مدير الإدارة المركزية للمبادرة الرئاسية «حياة كريمة»، والذى أكد الانحياز إلى حرية التعبير والإبداع الفنى وعدم الانحياز إلى الرأى الذى يرى أن فيلمًا سينمائيًا من الممكن أن يسىء إلى سمعة مصر.. فمصر دولة أكبر من ذلك بكثير، وحرية الإبداع مكفولة.. وكذلك وجهة نظر المؤلف والمخرج.

المدهش فى الأمر أن تصدر هذه الزوبعة من فنانين، لتعكس مفارقة مؤسفة تتصل بجهلهم بمفاهيم ووظيفة ورسالة الفن، المتصلة بمعالجة مشاكل الواقع المعيش وقضايا المجتمع- بصرف النظر عن الأسلوب أو الشكل- والغوص فى هموم وأوجاع البشر ومعاناتهم الإنسانية تجاه الظلم والقهر الاجتماعى.. ونفور هؤلاء الفنانين وتأفُّفهم من مظاهر الفقر التى يصفونها بقبح يخاصم الجمال.. وأى تصور قاصر ذلك الذى يدعونا إلى ازدراء أعمال تشيكوف ودستويفسكى وهوجو ويوسف إدريس ونجيب محفوظ، المُوغِلة فى طرح قضايا قاع المدينة وشخصياته البائسة ضحايا التمايز الطبقى وانعدام العدل الاجتماعى؟.

■ ■ ■

يستند الفيلم منذ البداية فى مشهد أساسى يمثل نقطة تحول رئيسية فى البناء الدرامى.. فالأب الذى يتوق إلى إسعاد ابنه بالاحتفال بعيد ميلاده يستقدم ساحرًا (بائسًا) مثله ليقدم عرضًا لمهاراته للأطفال (البؤساء) المشاركين للطفل (البائس) فرحته.. يطلب الساحر من الأب الدخول فى صندوق يغلقه عليه.. وعندما يفتحه نجد أن الأب تحول إلى دجاجة.

إذًا، فإن نقطة الانطلاق (المقدمة المنطقية) تؤكد أننا إزاء فيلم يتخذ شكلًا عبثيًا.. ينتمى إلى سينما تتخذ من واقع اجتماعى بائس مدخلًا لرؤية (لا معقولة) لهذا الواقع باستخدام (الفانتازيا) والخيال الفنى الجامح.

وتبدأ الرحلة العبثية التى تقوم بها الزوجة بالبحث عن الساحر الذى اختفى ليعيد إليها الزوج كما كان إنسانًا بلا جدوى وبلا رجاء فى العثور عليهما (الساحر والأب).. وتتجسد فى تلك الرحلة أزمة الوجود بمعناها الفلسفى المتجاوز للأبعاد الاجتماعية، التى حصر المتلقون أنفسهم فى تقييم الفيلم وتحليله استنادًا إليها.. وتخوض الزوجة رحلة عبثية أخرى فى التعامل مع الدجاجة باعتبارها هى الأب، فترعاه وتناجيه وتتوحد به.. ثم تمارس دوره فى الحياة العملية.. إن المؤلف، المخرج، يصوغ هنا رؤية فلسفية بالغة الغور والتعقيد تشمل الإنسان والكون والوجود الإنسانى، الذى يجاهد لينجو من السقوط فى العدم، فى إطار سخرية مريرة من ذلك الواقع الاجتماعى الجامد بثوابته وتابوهاته المتحجرة وقسوته والخواء الوجدانى لشخوصه، الذين يتحركون كأنهم دمى يسكنون أجسادًا مُضْمَحِلّة ويعيشون فى صمت رهيب وفراغ روحى وقبح المكان والبيئة وخلوهما من مظاهر الجمال الشكلى.. إن القبح الواقعى هنا يستحيل إلى جمال فنى يشمل المضمون والمحتوى والتعبير المرئى عن فداحة قبح الواقع.

والمكان غير محصور فى معالم واضحة تحدد جغرافيته.. والزمن يأخذ شكلًا رمزيًا يوحى بامتداده خارج الزمن الواقعى.. إن المخرج فى هذا الفيلم يحلم ويجسد حلمه تجسيدًا سرياليًا عبثيًا فوق الواقع وضد السائد من الأشكال الجاهزة المتعارَف عليها، متجاوزًا التصور الآنى اللحظى الثابت إلى رحابة المتغير الغامض ليقدم رؤية شاملة للحياة والبشر والمعانى، دون أن يُغفل عذاب الإنسان واحتياجاته المادية والغرائزية فى أرض الشقاء.

لا تحاكموا الفيلم بمقاييس الدراما الواقعية، ولا تعتقلوا السحر والخيال والإبداع فى زنازين أزمنة سينما متراجعة يُقبل عليها متلقٍّ فسد ذوقه، وتداعَت معارفه، وتدنّت ثقافته.

Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم