مايكل دانيال
 دعاني منذ أيام قلائل صديقي الكاتب المسرحي الكبير أ. سعيد حجاج لقضاء سهرة رمضانية في شارع من أقدم شوارع قاهرة المعز، وهو شارع المعز لدين الله الفاطمي.
 
 وصلنا نحو العاشرة مساءًا، في البداية أندهشت من هذا الكم الهائل من البشر حولي، يتزاحمون في هذا الحيز الضيق وصولاُ إلى اللاشيء، فالتجوال بهذا الشارع هو قيمة وهدف في ذاته، ألا أن دهشتي تلك لم تدم طويلاً وسرعان ما أعتدت تلك الأجواء الصاخبة، ورغم أن هذه لم تكن زيارتي الأولى لهذا الشارع، إلا أن تلك هي المرة الأولي التي أرتاده فيها خلال أيام الشهر الفضيل.
 
 أعاد لي مشهد التزاحم هذا، ذكريات ثورة 30 يونيو المجيدة حين كنا نتدافع جميعًا في كل الميادين دون أن يتحرش أحدهم بفتاة، ودون أن تسمع من هنا وهناك أي صوت يدل علي الحنق، وكأن إله الأدب قد خيّم على الجميع بظل من دماثة الخٌلق حتي صار الجميع يتعبدون له بتصرفات حقه!.
 
 هناك في قلب شارع المعز، والذي أعتبرته قلب العالم النابض، وجدت خليطًا متمايزاً من البشر، فالأجانب يسيرون جنبًا إلي جنب بجوار المصريين والذين بدورهم ينتمون إلي طبقات اجتماعية مختلفة، فهذا هو الموظف الكادح يجلس مع زوجته وأبناؤه على أحد الجوانب ليأكلون الذرة المشوية، وأولئك هم مجموعة من الشباب، لا تستطيع أن تفرق بينهم بحسب الدين، فمعهم فتيات محجبات وأخريات دونه وهكذا.... 
 
الجميع يٌصلي في محراب الفن وحولهم تنجلي الأصالة في أروع صورها من حيث البيوت والنقوش من طرز معمارية فريدة تنبئ بأن مصر كانت ولا زالت محرابًا للفن. فعلى جانبي الشارع تتراص بيوت ومساجد أشهرها هو مسجد السلطان قلاوون وبيت السحيمي وبيت القاضي وغيره.. 
 
أكثر ما يميز سهرات شارع المعز الذي لا ينام، هو تداخل الموسيقى المحببة للنفس أينما ذهبت، فهذا مسرح صغير يرتقي درجاته فرقة للإنشاد الصوفي أمام (بيت السحيمي)، وهذه هي فرقة تابعة لمسرح العرائس التابع بدوره للبيت الفني للمسرح – وهو وجهتنا – يقدمون أوبريت "الليلة الكبيرة" كاملاً وبنفس العرائس التي قدمت بها لأول مرة منذ عقود امام (بيت القاضي)، بينما تتمايز المقاهي فيما بينها بأنواع من الطرب المصري الأصيل والموسيقى المحببة للنفس والتي غالبًا ما تعود إلي ما نسميه "زمن الفن الجميل".
 
 ورغم الصخب المخّيم علي الأجواء، إلا أنك لا تنزعج حيث السكينة هي الشعور الذي يلازمك منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدمك هذا الشارع الأثير لدى الكثيرين ممن يشتغلون بالفن. 
 
شكرًا لصديقي العزيز أ. سعيد حجاج والذي دعاني للمشاركة في تلك الثورة الرمضانية الفنية المتميزة، وشكرًا لجميع القائمين على عرض "الليلة الكبيرة" لسهرة مصرية أصيلة، تلك السهرة التي جعلتني أرى ثورة أخرى نابضة في قلب الشارع المصري، ثورة فنية لا يمكن لأحد مهما علا شأنه أن يهزمها، حيث الجميع يسهر فقط ليغني ويستمتع... وهذه هي مصر كما أريد أن آراها.